news-details

سعيد، ابن جيل المؤسسين

عندما كنت في بطن  أمي، قبل نحو ستين عامًا، كان هو هاربًا من الشرطة في أعقاب مظاهرة الأول من أيار 1958. في تلك السنة قرر الحكم العسكري إجراء استعراض كبير في الذكرى العاشرة على إقامة الدولة، بحيث يَظهر للعالم أن المواطنين العرب سعداء، بل وحتى شاكرين للدولة الفتية التي فقط قبل عشر سنوات طردت معظم ابناء شعبهم الى ما وراء الحدود، وبعد ذلك فرضت عليهم الحكم العسكري.

الشيوعيون قلبوا هذا الاستعراض على رؤوس منظّميه. وفي اليوم التالي، الذي صادف الأول من أيار- عيد العمال العالمي، تحولت شوارع الناصرة الى ساحة قتال بين المتظاهرين وبين مئات رجال الشرطة الذين قاموا بقمع المظاهرة بوحشية، والثمن كان مئات المصابين والمعتقلين. هذا اليوم كان حسب رأيي الانتفاضة الأولى للجماهير العربية في اسرائيل ضد وقاحة الحكم العسكري، الذي لم يقمعهم فقط بل أراد منهم أيضًا الابتسام أمام عدسة الكاميرا.

​عمي سعيد، لم يُعتقل خلال المظاهرة، فقد هرب واختبأ من أفراد الشرطة الذين بحثوا عنه. في تلك الأيام كان يعمل في تل حنان في منجرة تملكها تعاونية، حيث كان عدد من أعضائها من الشيوعيين اليهود، وهناك خبأوه. في فوضى تلك الأيام العاصفة وُلدت. وكما كتب الشاعر سميح القاسم “راية جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم، قاومتُ فقاوم".

سعيد بشارات توفي يوم السبت الماضي عن عمر ناهز (85) عامًا. هذا الانسان طُرد من قريته معلول في سن الـ 14عامًا الى قرية يافة الناصرة المجاورة. وهناك انضم الى صفوف الشبيبة الشيوعية وواصل فعل ما يعرف الفلسطينيون فعله: النضال و"تربية الأمل”، كما قال الشاعر محمود درويش.

لقد ذرفت دمعة  في ذكراه وذكرى الذين رحلوا من جيله. وعلى بعد سنوات من تلك الأيام، أشعر بأنني، وأبناء جيلي، مدينون بدين كبير لذاك الجيل النبيل والمناضل الذي رفض اليأس. لقد كتب درويش “لو يذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعا”. عندما أتذكر ابناء ذلك الجيل اخالهم  طفلًا وحيدًا في مواجهة عواصف الشر، وبعد ان تم تهجير أربعة من خمسة الأخوة، بقي تحت رحمة من قام بتهجير إخوته. وبعد كل ما فعلوه به، جاؤوا يطالبونه بأن يظهر السعادة في يوم نكبته. هذا الولد خرج في العام 1958، ليطلق، بكل ما اوتي من قوة، صرخته المدوية: لا!

​هذا هو جيل المؤسسين، الذين بلوروا الواقع الفلسطيني في اسرائيل بعد العام 1948. هذا الجيل لم ييأس رغم ان محيطه كان يبث اليأس فقط. لقد أبقوا ترف الشعور باليأس لقلة مختارة كان باستطاعتها في كل لحظة نفض الغبار عن البدلات والجلوس جانبا وانتقاد من يواصلون النضال.

أبناء هذا الجيل، جيل المؤسسين– دون تعليمات من فوق– لم يبكوا ولم يتباكوا، رغم أن قلوبهم نزفت دمًا. وبالإضافة إلى كل ذلك، فقد عرفوا تعرجات طرق البقاء. وهكذا، في الأيام الأولى بعد النكبة طرقوا كل الابواب للحصول على الهوية ممن قام بطرد أبناء شعبهم. للمراقبين من بعيد لم يكن هذا الأمر مفهومًا، ولكن بالنسبة لهم كانت الأمور واضحة تمامًا: هم أرادوا هوية من اجل البقاء، وليس بصفتها جائزة للسلطة التي طردت واقتلعت.

​في هذه الأيام حيث يتعاظم ترف الشعور باليأس والجلوس جانبا. وحيث نجد أصواتًا عالية، تبدو كأنها كفاحية، تدعو الى مقاطعة الانتخابات، أقول لهم: أنتم تحيدون عن تراث جيل المؤسسين، الجيل الذي لم يقاطع أية انتخابات. لقد اعتبروا كل معركة لبنة في معركة البقاء.

في تراث جيل المؤسسين هناك ثلاثة أضلاع لمثلث المستقبل الواعد: التفاؤل والنضال والاخوة العربية اليهودية. هذه الأضلاع الثلاثة هي الوصفة للبقاء والمضي قدما. عمي سعيد وأبناء جيله جسدوا هذا التراث المنتصر.

لتكن ذكراه مباركة.

(هآرتس)

في الصورة: الرفيق الراحل سعيد بشارات – جيل المؤسسين الذين اعتبروا كل معركة لبنة في معركة البقاء.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب