news-details

صديقي يوسُف! إلى أين ذهبت عنّي؟

 

 

لم نكن قد تراءَيْنا أو تحادثنا منذ بضعة أشهر، كلّ لظروف حياته أو مماته.. ليجيئني خبر مرضه قبل يوميْن وبعض يوم من وفاته؛ جاءني خبر مرضه، وكما المتنبّي؛ فزِعتُ فيه بآمالي إلى الكذب؛ ثمّ لملمتُ روحي ونفسي وما بقي لي من عقلي وتهيّأت للحديث معه، فسابقني هاتفٌ بأنّ صديقي قد رحل؛ آهٍ من غُصّة قلبي ومن تعبي!

صديقي، يوسُف درويش [جرادات]، خرّيج قسم الصِّحافة والإعلام في كلّيّة آداب جامعة بوخارست، سبعينيّات أو ثمانينيّات القرن الفارط؛ ما عدت أتذكّر [السّنة الفارطة أي السّنة الماضية؛ في اللّهجة التّونسيّة]؛ فهو ابن ذلك الجيل أو الرّعيل من أبناء الثّورة الفِلَسطينيّة، من السّيلة الحارثيّة قضاء جنين، مارس الكتابة الصِّحافيّة والمقالة الأدبيّة في مطبوعات سورية ولبنان حوالي العشر سنين، إلى أن قرّر العودة إلى فكرة الوطن مع من عادوا على جناحَيِ اتّفاقات أوسلو، منتصف التّسعينيّات، فما كان منه – بعد صدمة العودة تلك – إلّا أن لجأ إلى بلده الثّاني وعشقه الأوّل، عروس الدّنيا، حيفا، وتحديدًا إلى قلعة حيفا الشّامخة منذ مائتيْن من السّنين، كبابير الخير وملجأ كلّ طير؛ ليعمل الكاتب الأريب مع مقاوليها ولدى ذويها وأهليها في التّرميم والبناء والتّعشيب؛ وهنا تعرّفت به وهنا تعرّفت إليه؛ وما كان همّه إلّا أن يكسب لقمة عيشه بعرق جبينه ويُعيل بيته ويرى معتزّه ومعاذه وملاذه وميراله يتخرّجون في أرقى الجامعات ومن المتفوّقين وموظّفين مرموقين، وأن يرى عِيال عِياله، وما كان الله – بفضل الله – على عبده أبي المعتزّ بضنين.

ورغم قساوة عيشه وشظف يديْه ظلّ صديقي يوسُف حاضرًا بوعيْه السّياسيّ وحسّه الأدبيّ في الأوساط الثّقافيّة المحلّيّة والقطريّة، يكتب هنا ويخربش ويخرمش هناك، بحرفه الجميل وقصده النّبيل، وعبر وسائل التّواصل أو التّفاصل، وأنا أعلم – ومن يَعلم يَعلم – علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين، أنّ صديقي يوسُف – لو أراد – كان له أن يكون أحد أكبر كتّاب القصّة والرّواية العرب المعاصرين، وكم كنتُ أحثّه، لكنّ الحظّ.. ولكنّه..

شكرًا صديقي يوسُف على كلّ ما كان لنا من مُسامَرات، كم أمتعتني فيها بذكائك وطلاوة حديثك وسعة معرفتك؛ وشكرًا على ما كنّا نصحّحه لبعضنا بعضًا، بين الفَيْنة والفَيْنة، أنت لي أدبًا وأنا لك لغة؛ وشكرًا لك على أمريْن اثنيْن أنا مَدين بهما لك؛ على أن علّمتني كيف أحبّ درويش أكثر وأعمق، وعلى أن علّمتني لعبة الشطرنج مرّة، إلى درجة أنّك جعلتني أتفوّق بها عليك.

ستظلّ حاضرًا – صديقي يوسُف – بعينيْك الزّيتونيّتيْن وشعرك الرّماديّ الكثيف، بصوتك الجَهْوَرِيّ ورأيك الحصيف، وبظلّك اللّطيف الطّريف الخفيف.

وإلى أن نلتقي – أيْ صديقي – إليك منّي، ومن ربيع الأرض الّذي واعدتَ به سماء رحيلك، شرانق حرير وأجراس ياسمين.   

 الكبابير\ حيفا

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب