هل حقا الاسم الذي أطلق على هذا الجهاز مؤخرًا "سمارتفون" هو اسم على مسمى من حيث تحويل حامله إلى شخص "ذكي " ام ان استعماله تحول إلى داء مزمن وخطير؟ إنه لعمري جهاز سرق منا حياتنا الاجتماعية وسد على مستعمليه أبواب المعرفة والتعلم من كتاب من أحد الكتب الذي كان وسيظل مصدر استقاء المعارف من ناحية، ومصدر المتعة عند جلوسنا معه من ناحية أخرى؟ لقد تزعزت المقولة "وخير جليس في الزمان كتاب" وحلت في حياتنا غربة بيننا وبين الكتاب.
سيطر هذا الجهاز علينا وصار "نقمة" بدلا من "النعمة" المتوخاة من استعماله. يكاد هذا الجهاز اليوم أن يقتلنا ويقلب مجرى حياتنا الاجتماعية رأسًا على عقب ويقضي على التواصل بيننا ويستحوذ على عقولنا، كوننا أصبحنا مشغولين به ليل نهار وصرنا عبيدا له بدل أن يكون خادما له. لقد قضى هذا الجهاز على كل أمل مستقبلي بالعودة إلى الكتاب الذي كان خير جليس لنا في حياتنا والذي كان مصدرا للمعرفة والمتعة في آن واحد. لقد حلت في حياتنا "غربة" بيننا وبين الكتاب والقراءة في كتاب، فأين نحن اليوم من مقولة "أديسون" مخترع اللامبة الكهربائية "بالقراءة تعلمت كل شيء"..
لقد تحوّل أولادنا اليوم إلى أشباه مثقفين وصارت معلوماتهم ضحلة في كثير من الأمور التي يجب معرفتها، وأصبحوا غير قادرين على كتابة جملة مفيدة دون الوقوع في أخطاء قد تصل في عددها عدد الكلمات التي تحتويها الجملة. ان طغيان استعمال هذا الجهاز عند صغارنا وكبارنا هذه الأيام جعلهم يبتعدون عن كل ما كان يفيدهم من قراءة صحف ومجلات وكتب وتحويلها إلى "متعة"، ويبتعدون كذلك عن الحياة الاجتماعية فترى كل من حولك غارقين في استعمال الجهاز وبعيدين عن كل تواصل اجتماعي مع الغير، فهم مع من حولهم جسما لا روحا.
نحن نعيش اليوم في عصر "الشاشات" الذي قضى على قراءة المتعة والقراءة من أجل التعلم، فجاء هذا الجهاز ليقضي على ما تبقى من حياتنا وقضى على تطوير المهارات الكلامية وغير الكلامية وتطوير التفكير على جميع درجاته؛ هذا التفكير المطلوب ممارسته اليوم أمام التحديات العلمية في مجال التعلم بشكل عام والتعلم العالي بشكل خاص.
لقد تحول استعمال هذا الجهاز إلى "نقمة" و "لعنة" بدل أن يكون "نعمة" لما خطط له مخترعوه تشير الأبحاث إلى أن في استعمال البلفون والسمارتفون خطورة كبيرة على مستعمليه، وأن استعماله لأكثر من أربعين ساعة في الاسبوع قد يؤدي إلى الادمان عليه وتحوّل حامله إلى روبوت" الي غير قادر على التواصل مع الغير اجتماعيا.
لقد أشارت آخر الاستطلاعات حول استعماله إلى أن 83% من أولادنا يستعملونه خمس ساعات في اليوم، كما ويشير التقرير الذي قدمه مجلس سلامة الطفل في إسرائيل مؤخرًا لرئيس الدولة إلى ان 12% من أبناء الصف العاشر فكروا بالانتحار بسبب استعماله، وبلغ عدد الذين وصلوا إلى غرفة الطوارئ لتلقي العلاج بسبب الإدمان على استعماله ومرافقته لهم ليل نهار بسبب تعرضهم للتحرش الجنسي من خلاله، وإلى أن (250) ولدا وضعوا حدا لحياتهم منذ (1990) وحتى اليوم بسبب الادمان في استعمالهم الوسائل الديجتالية، وان 83% منهم في سنة (2015) استعملوا الجهاز لمدة تزيد عن خمس ساعات في اليوم، وان %86 من أبناء الشبيبة بين سن (12- 17) يتواصلون مع زملائهم بواسطة الانستغرام. والواتس آب وبواسطة الفيسبوك وان 63% منهم يتواصلون مع أهاليهم بنفس الطريقة.
ان المعطيات أعلاه كارثة رهيبة تحل في مجتمعنا وهذا الأمر يستدعي علاجًا جذريًا من قبل جميع من لهم اتصال يومي مع الأولاد، في إطار المدرسة وفي إطار العائلة وفي إطار المؤسسات التي لها صلة بالأولاد، وان عليهم القيام بفعاليات تربوية واجتماعية من أجلهم وجعلهم يقللون من استعمال البليفون والسمارتفون من أجل إبعادهم عن المخاطر الكامنة في الادمان على استعماله. نحن بحاجة إلى وقف هذه الظاهرة عند حَدّها وإلى منع استعمال هذا الجهاز إلا ما ندر وفي أوقات لا تكون على حساب أدائهم المدرسي.
يجب على الأهل برأيي تقييد الأولاد بأوقات قصيرة ومحدودة في اليوم الواحد لاستعمال هذا الجهاز، وعلى المدارس القيام بحملات توعية في مجال تشجيع الأولاد على القراءة والمطالعة كبديل لهذا الجهاز.
وأخيرا تجدر الإشارة إلى أن إلزام الطلاب بالقراءة والمطالعة يحوّل ذلك عندهم إلى "عادة " فيما بعد، وأن عدم فعل ذلك سيبقى أولادنا فقراء في المعلومات العامة وفقراء في اللغة والثروة اللغوية الأمر الذي هم بحاجة إليه من أجل تطوير التفكير عندهم واكسابهم هذه العادة التي تعتبر مفتاحًا للتحصيل والاداء المدرسي وفي جعل أولادنا متعلمين ومثقفين بدلا مما نراه اليوم عند غالبيتهم كونهم " طبلا فارغا أجوفًا" وسطحيين في كل شيء.
في الصورة: رسمة للفنان السوداني محمد عبدالرسول
إضافة تعقيب