هل هذا صحيح أنني أشبه الأستاذ عادل الأسطة؟ اليوم أنظر لنفسي لأراني أشبهه كثيرا، وحكايتي مع الأستاذ عادل حكاية طويلة جدًا، ليس عمرها فقط ستّ سنوات، تلك التي قضيتها في الجامعة طالبا في المرحلة الجامعية الأولى والمرحلة الجامعية الثانية في جامعة النجاح الوطنية مطلع التسعينيات من القرن المنصرم.
أعود في الذاكرة إلى أول لقاء بالأستاذ، وهنا أحب أن أستخدم صفة "الأستاذ"؛ لما لها من جلال معرفيّ ولغويّ وفكريّ في تراث العلاقة بين الأستاذ ومريديه. كان ذلك عندما تعرفت على الأستاذ من خلال مساق "تذوق النص الأدبي"، وأذكر من النصوص التي كانت مجالا للدراسة قصيدة محمود درويش "رحلة المتنبي إلى مصر"، ومن النصوص الروائية تعرفنا على "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، ومن فن القصة أذكر قصة الطاهر وطار "اشتراكي حتى الموت"، وكذلك قصة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، ومن فن الرسائل عرّفنا الأستاذ على الرسائل الأدبية، وكان نموذجه في ذلك رسالة محمود درويش لسميح القاسم "يهطل المطر وتنبت الحقيقة". كان مساقا مكثفا عميقا، وكأن الأستاذ يريد أن يعطينا الأدب كله دفعة واحدة، كان نهرا متدفقا، وخرجت من هذا المساق وأنا أشعر نفسي واقفا على باب هوة عظيمة أو غابة مليئة بالغرائب، وأحسست أن شيئا ما يدفعني بقوة إلى اكتشافها.
تعلمت أولى خطوات النقد على يديّ الأستاذ في مساقين آخرين: مساق "الأدب الفلسطيني الحديث" ومساق "النقد الأدبي الحديث"، ولكن كل ما خرجت به من مرحلة البكالوريوس تحليل لمجموعة قصص غسان كنفاني "القميص المسروق وقصص أخرى"، مع عنوان رسالة الماجستير "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم من عام 1948-1993"، وذخيرة أدبية نهلتها من الأستاذ خلال المحاضرات.
الأستاذ كان جادا، نادرا ما يضحك، كان شابا مليئا بـ "العلم المختلف"، أعجبت بشخصيته، وكنت أهابه، وكنت دائم الصمت في محاضراته، لكنني كنت شغوفا بما يقول. تابعت دراسة الماجستير، ولهذه الدراسة حكاية أخرى مع الأستاذ تتبع في وقفة أخرى تالية، ولكنني أود أن أشير إلى سخرية أحد زملائي، متندرا عليّ عندما أخبرته أنني سألتحق بالماجستير، وسيكون الأستاذ مشرفا عليّ، فسخر مني وضحك؛ إذ كيف يكون الأستاذ المعروف والمعرّف بعلمه وصرامته مشرفا عليّ أنا، ذلك الطالب الذي لم يسمع به طلاب القسم أنّه من المتفوقين، ولم يسجل اسمه ولو مرة واحدة في لائحة الشرف.
لم أكن وحدي من أحبّ الأستاذ، كثيرون يشيدون به، وعلى الرغم من أنهم يرونه حادا، وأحيانا مزاجيا نزقا، كانوا متفقين جميعا على أنه ناقد وأديب وذو علم غزير، وكانوا يوازنون بينه وبين أساتذة آخرين، لا يعرفون من وجهة نظرهم أكثر مما في أوراق معدّة للمحاضرة، فإذا ما غابت الأوراق غاب العلم، وكأن العلم في الكرّاس هذه المرة وليس في الرأس، مع أن الأستاذ كان يعدّ أوراقه بخط يده الذي أصبح مألوفا لديّ، لكنه كان يتحدث بأضعاف ما هو مرقوم في تلك الأوراق.
ما تعلّمته من الأستاذ كثير، وما زلت أنهل من ذلك المخزون دون أن أعي، وكان تعرّفي على أدبائنا الفلسطينيين أول المعرفة، محمود درويش وسميح القاسم رسائلهما وقصائدهما، وإميل حبيبي ومتشائله، وغسان كنفاني وروائعه وجبرا إبراهيم جبرا وبئره الأولى وإسحاق موسى الحسيني ومذكرات دجاجته، عدا الشعراء والأدباء العرب وأذكر منهم أمل دنقل الذي سمعت به أول مرّة من الأستاذ، وما زلت أحفظ مقطعه الشعريّ (المشاكس):
المجد للشيطان معبود الرياح
من قال لا
في وجه من قالوا نعم
في ذلك الوقت كنت رومانسيا حالما بالمشروع الإسلامي العالمي، ومنتميا تنظيميا لجماعة إسلامية، رأيت في المقطع جرأتين، جرأة من الشاعر ابتداء، وجرأة من الأستاذ ثانيا، لم أفاجأ كثيرا بعد ذلك عندما عرفت أن أمل دنقل شاعر ذو توجه يساري مثله مثل درويش والقاسم وحبيبي، وصدّقت ما كان يشيع عن أستاذنا أنه ماركسي أو شيوعي، وأحيانا سمعت أنه وجوديّ، لا أدري يومها ما معنى الوجودية، ولا كنت قد سمعت حينها بسارتر ولا بغيره من المثقفين.
دفعتني كل تلك الأسماء الكبيرة التي هزت العقل، لأن أبحث وأقرأ، لم يكن هناك (إنترنت) وقتها، وأحمد الله أنه لم يكن موجودا هذا اللاهي الذي ضيع كثيرا من الطاقات في الهراء والعبث، وإلا لم أكن قرأت ما قرأت من كتب، صرت أبحث في مكتبة الجامعة، فبعد أن كنت أمضي ساعات الفراغ في مصلّى الجامعة، إذ لم أكن يومئذ عاشقا، وليس لي حبيبة أقضي معها وقت الفراغ، وأتفلت من المحاضرات بسببها، وليس لي أصدقاء مقربون كذلك، فقد كنت شبه وحيد، بل إنني كنت وحدي. تعرّفت إلى مكتبة الجامعة، أخذت أقرأ وأقرأ وأستعير كتبا كثيرة، حتى أنني بدّلت بطاقة الاستعارة مرتين في مرحلة البكالوريوس، وكانت عبارة عن دفتر صغير، يشبه "دفتر التطعيم" الصحي. كانت متعة وجودي في المكتبة لا تعادلها أي متعة. هناك تعرفت على جهلي المتراكم بعضه فوق بعض، فكأنني لست أرى ولا أراني، ولم أكُ قبل ذلك شيئًا.
كنت قارئا نهما، وما زلت، وكنت وحيدا، وما زلت، ولكنني لست وحدي، كان معي الأستاذ وهؤلاء العظماء وما زال وما زالوا معي، وهنا تعرفت على الكتابة، وأخذت تتسلل إلى أصابعي، ولهذه الفاتنة المفتونة حكاية خاصة...!
(نابلس)
إضافة تعقيب