لم يجد الناطق العسكري الاسرائيلي في تصريحاته الاولية فجر السادس والعشرين من أكتوبر والقصف على ايران غير القول، إن الضربة التي استخدمت قرابة مئة طائرة حققت اهم هدفين، الأول، اثبات قدرة اسرائيل على القيام باي استهداف عيني محدد تريده في ايران؛ والثاني، بأن حرية عمل سلاح الطيران الاسرائيلي في اجواء ايران قد ازدادت. لكن اللافت ان الناطق العسكري قد أبقى الكثير من الغموض المحيط بالعملية. كما تحدّث عن التنسيق الوثيق مع الجيش الامريكي وقيادة المنطقة الوسطى دون ان يوفر تفاصيل.
- ردود الفعل الأولية كشفت حجم الخلافات السياسية والموقف من الجيش وهويته والصراع حول مستقبل قيادته. فالمعارضة المنتمية في معظمها الى التيارات العلمانية، أشادت بالجيش وبسلاح الطيران وبالموقف الامريكي، بينما وجهت سهام نقدها لنتنياهو وغالنت، اللذين أطلقا التصريحات الرنانة في الاسابيع الاخيرة وبأن "الارض سوف تهتز وسيعلم العالم على ماذا تدرب سلاح الجو وما هي قدراته" كما جاء في اقوال غالنت، في حين وعد نتنياهو بضربة لن تكون إيران قادرة على توقعها.
- رغم اعلان واشنطن رسميا انها أبلغت بموعد الضربة واهدافها وأنها لن تشارك في العمليات، الا ان حجم الضربة يشير الى ابعاد دولية تتجاوز موازين القوى بين اسرائيل وايران وإمكاناتهما العسكرية، فوسائل اعلام اسرائيلية ركزت على الدعم الروسي الاستخباراتي والتكنولوجي والعسكري لإيران بما يوحي ان الضربة لم تحقق أهدافها المعلنة وهو استهداف البنية الصاروخية الدفاعية الإيرانية. كما ان الإشارة الى الدعم الأمريكي الاستخباري والغطاء الحربي على الأرض تحسبا لرد فعل إيراني كبير، يشير الى الابعاد الدولية للتوتر العسكري الإقليم، وهو مؤشر وعامل اخر تدخل في حجم ونوعية الضربة الإسرائيلية.
- دبلوماسيا، كان لاقتا الادانات العربية لإسرائيل، وحصريا موقف الدول الخليجية والمملكة العربية السعودية التي ادانت الهجوم الاسرائيلي، والتقدير الاولي، ان تسريع الرياض بهذه الإدانة يبقي الباب مفتوحا لمسار التطبيع الإيراني السعودي الذي بدأ في بكين، وأن مصلحة السعودية هي تبريد الصراعات طويلة الامد مع إيران وليس تسخينها. وهو توجه يلتقي مع الخطوات الدبلوماسية الايرانية تجاه المنطقة والتي سبقت التصعيد الإسرائيلي الاخير. وتقدير العديد من المراقبين ان ادانة الرياض يتوجب النظر اليها في سياق التنبه السعودي لخطورة التهديد الذي تشكله السياسات الاسرائيلية على الامن القومي العربي والاقليمي وعلى الامن القومي لكل بلد. كما انه تعبير عن ترسخ متصاعد لموقف عربي وخليجي على جه الخصوص، يتشكك في السياسة التقليدية التاريخية التي راهنت على الموقف الامريكي، بل والسعي الى المشاركة في تشكيل تكتلات تسعى الى نظام عالمي متعدد الاقطاب وفقا لمصالح الدول.
- كما يؤشر الموقف السعودي الى ان الرياض باتت مرشحة قوية للعب دور أساسي لإيجاد مخرج للحرب المفتوحة على لبنان ومحاولة اعادة التوازنات داخلية الى مسارها الطبيعي والذي يوفر استقرارا وتوافقا، وهو الامر الذي يحتاج الى توافق سعودي إيراني، تحتاجه الرياض أيضا في مقارباتها وانخراطها النشط مؤخرا في الحالة الفلسطينية، شاهدها على ذلك طرح فكرة المؤتمر الدولي لمعالجة صراعات المنطقة وحل نهائي للقضية الفلسطينية.
- التقدير ان الانضباط الإسرائيلي في نوعية الضربة والابتعاد عن استهداف رموز النظام ولا المنشئات النفطية ولا النووية الايرانية، يعود الى ان التهديد الإيراني الذي سبق الضربة فجر السادس والعشرين من أكتوبر برد واسع لا يستثنى البنى التحتية ليس في إسرائيل وحسب وانما في الإقليم بما في ذلك تعطيل ممرات التجارة البحرية، هذا التهديد استقبل في العواصم الغربية وواشنطن بصورة جدية. وبذات الجدية جرى تقييم الهجوم الصاروخي النوعي في الاول من تشرين اول/اكتوبر والذي اثبت نجاحا متميزا في تجاوز المنظومات الاسرائيلية متعددة الطبقات ووصل الى اهدافه بشكل دقيق ومحدد، اعترفت به تل ابيب لاحقا.
- تحدثت التصريحات الامريكية عن وقف الحرب في لبنان وغزة في سياق صفقة اقليمية تشمل عودة الاسرى والمحتجزين الاسرائيليين. كان يمكن ان يمر هذا التصريح لتكراره واحتسابه على الترميز التضليلي، الا ان الانضباط الإسرائيلي للتوجيهات الامريكية بشان الضربة المحدودة لإيران، يدفع المراقب الى الاستخلاص ان وقف العربدة الإسرائيلية وحروبها في الإقليم له حدود وان قرارها تشارك به واشنطن، واليها يجب ان توجه الضغوط العربية، فالجنون الإسرائيلي المنفلت من عقاله بات الخطر الرئيس على الأمن والاستقرار في المنطقة
- التقدير بأن حرب الابادة في غزة وحصريا في شمال القطاع، والمخططات الجيوسياسية وفقا للنوايا الاسرائيلية ربما يستمر ويتصاعد ويحتاج الى مقاربات عربية ودولية مختلفة لم تعد تنفع معه المعالجات الجزئية وانما حل شامل ونهائي باعتبار قضية الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية جوهر كل صراعات المنطقة، فيما يبدو مرجحا استعداد إسرائيل المبدئي للتوصل الى حل في لبنان بعد الحسم العسكري، وللتفاهم مع ايران في اطار تفاهمات امريكية ايرانية، وفي حال ضمان فك الارتباط بين الجبهات وإنهاء استراتيجية جبهة الاسناد.
- التقدير أيضا ان الوقائع التي خلفتها الحرب على غزة ولبنان وبوادر حرب إقليمية، أحدثت تصدعا كبيرا في رواية نتنياهو ومساعيه الحثيثة لتغييب قضية فلسطين وبأن الصراع في المنطقة هو صراع "وجودي" مع ايران، ليصل الى خلاصة نواياه، وفي الجوهر، التطبيع الكامل مع الدول العربية والتحالف ضد المحور الايراني.
للخلاصة:
• ما بين الضربتين، الإيرانية في الأول من أكتوبر والإسرائيلية بعد 25 يوما، لا تزال معادلة الردع قائمة بين البلدين، خاصة بعد فشل حكومة نتنياهو في توريط الولايات المتحدة بشكل شامل فيها.
• لا يجب الاطمئنان للنوايا الإسرائيلية الحقيقية حالما تتوفر الظروف المواتية ، فتصريحات المتحدث العسكري بصدد حرية العمل في المجال الايراني تشير الى نوايا عدوانية قائمة، وفيها مؤشرات الى ان الضربة الاسرائيلية لم تنته بالضرورة وربما ستنتقل المواجهة الى ساحات ومجالات أخرى ليس كلها تحتاج الى ترسانة متقدمة من الصواريخ والطائرات.
• كل التصورات المستقبلية لمستقبل الحروب المفتوحة في المنطقة، منوطة بالنهايات سواء في لبنان او في غزة، ولا يزال الحسم بعيدا الا اذا اضطرت اسرائيل على الاعتراف بمحدودية قوتها.
إضافة تعقيب