كانت وارسو فيما مضى اسمًا للحلف الذي كونته دول المعسكر الاشتراكي لتواجه التهديدات العسكرية الناشئة عن تكوين حلف الناتو؛ الحلف الذي أسس بالأساس لحصار الاتحاد السوڤييتي وحلفائه من قبل الامبراطورية الامريكية. فكانت "وارسو" عنواناً للتصدي للهيمنة الأمريكية ومقاومة الامبراطورية الامريكية. أما اليوم وبما اننا "في زمان غير الزمان"، بعد سنوات على انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك حلف وارسو، صارت هذه مرتعاً لقوى الشر وأذيالها، فاستضافت "قمة" تضم أبشع وجوه الامبريالية الامريكية في هذا الزمان، مع إسرائيل، الأكثر فاشية وإيغالاً في الإستيطان والقضاء على حل الدولتيّن وتصفية القضية الفلسطينية، وينضم إليهم ذيولهم من زعامات الرجعية العربية، ملوك محميات الخليج التي رغماً عن الخلافات التي بينها اجتمعت طوعاً على طاولة بنيامين نتنياهو. ليتناقشوا جميعًا حول مواجهة "الخطر" الإيراني.
الخطر الايراني هو العنوان الكبير للقمة، هو الذريعة التي جمعت دُول الخليج على طاولة بومبيو ونتنياهو لما أبعد من "إيران" وخطرها، وهو وضع مقدمات لصفقة القرن. تحت هذا المسمى، مواجهة الخطر الايراني، رُوّج لسنوات من أجل تكريس المواجهة بين الشعوب العربية وبين إيران على أنها العدو الأخطر في المنطقة، العدو الذي بالإمكان التحالف مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، بإحتلالها وبمستوطناتها، من أجل مواجهة خطره المحدق. تحت هذه الذريعة تكالبت محميات الخليج مع أمريكيا وإسرائيل لتقسيم سوريا وضرب المقاومة اللبنانية وقصف اليمن، وتحت هذه الذريعة اليوم يتكالبون من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
فيما تُخفض الدول الاوروبية حضورها الى القمة لأنها تعتقد أن الاتفاق النووي هو أفضل السُبل للتعاون مع ايران، وأنها تعتبر انسحاب ترامب من الاتفاق تراجعًا عن إنجاز حققته السياسية الدولية في سبيل السلام العالمي، رأت انسحاب ترامب من الاتفاق وإدارته للمعركة مع إيران هو وحليفه الأوفى نتنياهو، قاد الى توترات لا تُحمد عقباها. وهذا ما دفع مايك بينس نائب الرئيس الامريكي، البارحة للتنديد بدول "اوروبية" بارزة تعمل على تقويض الحملة الامريكية ضد ايران عن طريق كسر العقوبات الامريكية على طهران.
فالبلطجي الأمريكي يريد أن يخوض حروبه وغزواته ويفرض عقوباته وقوانينه الخاصة ويقول كلمته الفصل متوقعًا من العالم أن يتبعه على عماه دون أية معارضة، لكننا في عالم آخر اليوم، وحرب العراق تغدو اليوم كأنها في زمنٍ آخر سحيق. فالأمريكي فشل في حربه على لبنان بأيدٍ إسرائيلية عام 2006 وفشل في كسر سوريا وفي قهر اليمن وفشل في أن يحافظ على عالم أحادي القُطب يحكمه لوحده، مع بزوغ روسيا من جديد كقوة وازنة في العالم خاصة بعد الانتصار السوري، وطلوع الصين كقوة اقتصادية عظمى تزاحم الامبراطورية الامريكية. واليوم يتواجد الأمريكي في شبه عزلة دولية في موضوع نقل السفارة إلى القدس وفي موضوع الاتفاق النووي مع إيران. حيث أن الكثير من حلفائه يرفضون الانجرار الى "كل" مغامراته التي يخوضها مع صديقة البلطجي الصغير "نتنياهو".
لكن يا للمهزلة، هناك أمور لا تتغير، بالنسبة للامريكي هناك حلفاء يأتون ويذهبون، منهم من يتغير ومنهم من ينقلب ومن يفضل الوقوع جانباً. لكن هناك للامريكي حلفاء لا يتغيرون، يجرهم مثل الجراء الى حيث يريد، أتى من أتى وقاطع من قاطع، فمحميات الخليج جاهزة دائماً لتلبية النداء، لتجلس مع أكبر الوجوه خطرًا على المنطقة وعلى الشعوب العربية منذ عقود، من بومبيو ومايك بينس ونتنياهو، لتناقش "الخطر" الإيراني المُحدق. والقصد اساساً تحضير التربة الخصبة لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل من أجل تمرير صفقة القرن وتصفية حق الشعب الفلسطيني التاريخي في تقرير مصيره. ولتتحول وارسو من المكان الذي تكون فيه الحلف المقاوم لهيمنة الناتو، الى الطاولة التي يتكون عليها "ناتو" عربي-اسرائيلي-أمريكي في المنطقة.
إضافة تعقيب