باحث بارز في معهد تاي خه للبحوث
تشهد منطقة الشرق الأوسط موجة من المصالحة بدأت قبل أكثر من عام بداية من حل الأزمة الخليجية مرورا بإعادة سوريا إلى الجامعة العربية وصولا إلى استئناف العلاقات بين المملكة العربية والسعودية وإيران برعاية جمهورية الصين الشعبية.
وقد شكلت المصالحة السعودية الإيرانية منعطفا أثار ضجة إقليمية ودولية بالنظر إلى مكانة البلدين وثقلهما لاسيما أن المصالحة بينهما تحققت بوساطة لافتة من الصين.
وتوجت هذه المصالحة بتبادل الرياض وطهران في 5 سبتمبر الجاري السفراء بينهما، بوصول السفير السعودي لدى إيران عبد الله بن سعود العنزي إلى طهران، فيما وصل السفير الإيراني لدى السعودية علي رضا عنايتي إلى الرياض في نفس اليوم.
وهذه هي المرة الأولى التي تتبادل فيها السعودية وإيران السفراء لهما بعد سبع سنوات من قطع العلاقات الدبلوماسية ما شكل انفراجة دبلوماسية تعزز مسار المصالحة الحاصل في الشرق الأوسط.
كان ممثلو السعودية وإيران أجروا حوارا في بكين في مارس الماضي بوساطة الصين، ووقعوا على "اتفاق بكين" بشأن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
وتوج استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، ذوبان جليد العلاقات بين الدول الأخرى في المنطقة لينطلق "تيار المصالحة" في الشرق الأوسط، سواء كان الأمر بين الدول العربية أو بين إيران وتركيا والدول العربية، في وقت شهدت المنطقة الزيارات رفيعة المستوى المتكررة، وتحسنت العلاقات بين الدول المتخاصمة بشكل ملحوظ.
بهذا الصدد أشارت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية إلى أن الاتفاق السعودي -الإيراني في بكين يمثل علامة فارقة وقد يعيد تشكيل العلاقات بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط ويشكل نظاما جديدا.
العناصر الداخلية والخارجية وراء تيار المصالحة في الشرق الأوسط
إن "تيار المصالحة" في الشرق الأوسط هو نتيجة عوامل داخلية وخارجية. ومن منظور العوامل الداخلية، فقد استهلكت الصراعات الطائفية في العالم الإسلامي في الشرق الأوسط القوة الصلبة والناعمة لمختلف البلدان.
ونتيجة لذلك، لم تنجح جميع الأطراف في تحقيق الأمن فحسب، بل أصبحت أكثر اضطرابا، فقد أصبح السلام والتنمية التطلع المشترك لمعظم بلدان الشرق الأوسط.
ففي 19 مايو الماضي، عقدت جامعة الدول العربية قمتها الـ32 في جدة في السعودية، إذ وصفت بالقمة التاريخية لما حملته من منعطفات مهمة في تاريخ الجامعة العربية.
وأكد الزعماء العرب مجددا أن قضية فلسطين تقع في قلب مشكلة الشرق الأوسط. وهذه نقطة سياسية مهمة. وفي القمة، اتفق الزعماء العرب على أن الدول العربية تدخل عصر "التجديد والإصلاح".
وأكد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان آل سعود، الذي ترأس القمة: "إننا نسير نحو السلام والتعاون والتنمية لخدمة مصالح شعبنا وحماية حقوق وطننا. وننهي الماضي الأليم. خلال سنوات الصراع عانت منطقتنا وشعبنا وتعطلت رحلة التنمية".
إن عودة سوريا إلى أسرتها العربية تظهر أن العرب بدأوا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم بعد الانتكاسة التي تعرضوا لها خلال العقدين الماضيين. وعلى وجه الخصوص، توصلت قمة جدة إلى توافق في الآراء حول الشرعية القائمة للدول المتنازعة بغض النظر عن انقساماتها الداخلية والفصائل المعارضة لهذه الشرعية.
وسوريا ممثلة بحكومتها الشرعية، بغض النظر عن استمرار وجود جماعات أو قوى أو قطاعات معارضة، واليمن ممثلة بمجلسها القيادي الرئاسي الشرعي، رغم وجود الحوثيين في صنعاء.
وهناك العديد من الأسباب الخارجية للتحول الذي تشهده السعودية، بينها وبني جوهر التحالف المستمر بين الرياض واشنطن منذ عقود بين الرياض على الأمن مقابل النفط، لم تعد واشنطن مهتمة بحيوية الشراكة مع المملكة، بل تتطلع الولايات المتحدة إلى تقليص ارتباطها الأمني بالخليج وتراجع اعتمادها على النفط الخليج.
-- التطبيع المحتمل بين السعودية وإسرائيل وشروط الصين
بقيت إسرائيل الجهة الوحيدة، خارج تيار المصالحة في الشرق الأوسط.
ويأمل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يتمكن الرئيس الأمريكي جو بايدن من تحقيق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، مثلما تتوسط الصين في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
زار بريت ماكغورك، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، المملكة في 18 يونيو المنصرم وأكد خلال زيارته على أن البيت الأبيض يدفع باتجاه التطبيع بين الرياض وتل أبيب خلال الأشهر الستة إلى السبعة المقبلة.
وفي يوليو الماضي، زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن السعودية، وبحيث مع ولي العهد خلال اللقاء ملف التطبيع.
وفي 28 أغسطس الماضي، كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن ولي العهد السعودي اقترح تسريع عملية التفاوض خلال اجتماعه الأخير مع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان.
خلال المحادثات، قدمت المملكة ثلاثة مطالب محددة للولايات المتحدة: أولاً، إذا تعرضت السعودية لهجوم، يجب على الولايات المتحدة أن تقدم الدعم لها على الفور.ثانياً، يجب على الولايات المتحدة مساعدة السعودية في تطوير التكنولوجيا النووية المدنية. وثالثاً، يجب على الولايات المتحدة توسيع مبيعات الأسلحة إلى المملكة.
في المقابل، تتمثل مطالب الولايات المتحدة من السعودية بشكل أساسي بعدم الاقتراب أكثر من الصين، وتقييد تطور الشركات الصينية في المملكة، وحظر استخدام الرنمينبي لتسوية تجارة واردات وصادرات النفط بين السعودية والصين، بالإضافة إلى تصدير المزيد من النفط إلى الولايات المتحدة.
يلتزم محمد بن سلمان بتحقيق رؤية 2030 وتنويع الاقتصاد السعودي من خلال تعزيز التفاعل الاقتصادي مع الاقتصادات الناشئة مثل الصين.
وشددت السعودية أكثر من مرة على أنها ستحل القضية الفلسطينية أولا قبل أي عملية تطبيع مع تل أبيب.
وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مؤتمر صحفي مع أنتوني بلينكن في وقت سابق من الشهر الجاري إنه إذا لم يكن هناك "سلام" للفلسطينيين، فإن أي تطبيع مع إسرائيل سيكون له فوائد محدودة.
--عقبات أمام "موجة المصالحة"
لقد كان الشرق الأوسط لفترة طويلة من أكثر المناطق اضطرابا في العالم. وبحسب تقرير لقناة الجزيرة القطرية، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، شكلت النزاعات المسلحة في هذه المنطقة ثلث إجمالي عدد النزاعات المسلحة في العالم.
وبينما نرى أن عملية المصالحة في دول الشرق الأوسط مليئة بالأمل، علينا أن نرى أيضا أن البيئة الجيوسياسية المعقدة في الشرق الأوسط تجعل عملية المصالحة هشة بشكل موضوعي.
بادئ ذي بدء، من الصعب إزالة القطيعة داخل العالم الإسلامي في الشرق الأوسط على المدى القصير، كما أن مشكلة نقص الثقة بارزة.
وإن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية ودول أخرى مع إيران وسوريا ليس ما تريد الولايات المتحدة وإسرائيل رؤيته، فقد يتعطل "تيار المصالحة" في الشرق الأوسط من جراء عوامل خارجية وحالات طارئة.
وفي 2 أبريل 2022، أكد محمد بن سلمان في مقابلة مع مجلة "ذا أتلانتيك" الأمريكية، أن "استثمارات السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية تصل إلى 800 مليار دولار أمريكي. والشركات الأمريكية مهتمة بالمملكة السعودية جدا، لأن هناك أكثر من 300 ألف مواطن أمريكي في السعودية، بعضهم مزدوج الجنسية ويشغلون مناصب مهمة في المملكة.
وبحسب مراقبين فإن الثقل الأمريكي في الاقتصاد السعودي هو أكبر نقطة ضعف للمملكة، بحيث أنه بمجرد فرض الولايات المتحدة عقوبات مالية على الرياض سيكون من الصعب على السعودية أن تتصدى لها.
بموازاة ذلك لا يزال الطريق طويلاً أمام بلدان الشرق الأوسط لتحقيق التنمية وحل مشاكلها الاجتماعية المتفاقمة المتمثلة في الديون، والبطالة والأمن الغذائي بالإضافة الى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، والتضخم.
فإذا لم يتم حل المشاكل الاقتصادية والمعيشية للناس بشكل جيد، فقد ينقطع "تيار المصالحة" في دول الشرق الأوسط.
-- سياسة الصين ومصالحها في الشرق الأوسط
لدى الصين مصالح ضخمة في المنطقة التي تتمتع بأهمية استراتيجية هامة جدا، وضمان سلامة قناة السويس ومضيق المندب والممرات البحرية في مضيق هرمز يلعب دورًا مهمًا للغاية في التنمية الاقتصادية للصين ومصالحها الخارجية.
بعد النجاح في الوساطة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، تعمل الولايات المتحدة أيضًا على تكثيف الجهود لتعزيز إقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل. إن مثل هذه الجهود السلمية مفيدة لشعبي المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وكذلك لشعوب الشرق الأوسط، والصين مسرورة برؤية نجاحها، وهذا قد يساعد في التسوية الجذرية للقضية الفلسطينية، قضية القرن في الشرق الأوسط.
وفيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، ظلت الصين تدعم بقوة القضية العادلة للشعب الفلسطيني حيث طرحت منذ عام 2013 "اقتراح النقاط الأربع" لتعزيز حل القضية الفلسطينية، و"مبادرة السلام المكونة من خمس نقاط" و"مبادرة السلام ذات النقاط الخمس" لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سلميا، علاوة على " الأفكار ذات 3 نقاط لتنفيذ "حل الدولتين"، وما إلى ذلك.
وفي يونيو من هذا العام، زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الصين، بحث مع المسؤولين الصينيين القضية الفلسطينية. وبعد ذلك كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي ينيامين نتنياهو أيضا عبر وسائل الإعلام أنه يستعد لزيارة الصين.
لا شك أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي معقد، ويتعين على الطرفين أن ينحيا مظالم الماضي جانباً، وأن ينظرا إلى أجيال المستقبل.ليس لدى الصين مصالح أنانية في القضية الفلسطينية. فالتوسط في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس فقط محور التركيز التالي للدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط، إنها أيضًا ممارسة للهدف الدبلوماسي الشامل للصين المتمثل في بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية.
وفي مواجهة الفرص والتحديات، ستواصل الصين تنفيذ تعاون استراتيجي رفيع المستوى مع دول الشرق الأوسط في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتصنيع والتكنولوجيا المتقدمة وغيرها من المجالات، وتعزيز التنمية الاقتصادية، وتحسين رفاهية الشعب، والحفاظ على الأمن والسلام في منطقة الشرق الأوسط.
إضافة تعقيب