كتب: تميم منصور
أجمع العديد من الدارسين بأن المقهى في بغداد بمثابة منتدى اجتماعي ثقافي، وملتقى للترفيه أيضًا، وقد يكون أحيانًا مكانًا تناقش فيه الشؤون المحلية والعالمية، وتعقد فيه اللقاءات والجلسات المختلفة حسب المناسبات، التي تخص شخصا أو جماعة معينة، سواء كانت هذه المناسبة مفرحة أو محزنة، عامة أو خاصة.
أول ذكر لمقهى في بغداد ورد عام 1590 م، من قبل "نظمي زادة" في كتابه "كلشن خلفا" لقد بلغ عدد المقاهي في بغداد 140 مقهى حسب تقارير سنة 1883 م، ثم وصل العدد إلى 599 مقهى في عام 1934.
والمقهى كان مقرًا لتصريف الأعمال أيضًا بين التجار أو الحرفيين، أو حتى أصحاب الهواية الواحدة، وكان يجتمع في تلك المقاهي روّاد نوعية واحدة، وكان المقهى يسمى باسم رواده، كمقهى التجار، ومقهى بناة البيوت، ومقهى المطرجية – مربي الطيور.
أقيمت أيضًا مقاهٍ للعميان والخرسان، وكانت المقاهي تتنافس فيما بينها لجذب الزبائن اليها باستئجار المطربين وقراء المقام العراقي المعروفين، ورواة الحكايات والملاحم الشعبية، وكان بعضها يختص باقامة وعرض مباريات صراع الديوك وصراع الكباش.
يجمع الدارسون أن المقاهي في بغداد كانت مدارس وأحزابا، وأدبا وطربا، وفي المقاهي كانت تجري عمليات البيع والشراء أو المراهنة على الخيول، ويحدد سعر صرف العملات، ومن بين أشهر المقاهي في بغداد "مقهى جغالة" وكان هذا المقهى يتبع الى سنان باشا والي بغداد، كان أول المقاهي التي عرفت في بغداد عام 1590، كما ذكر ذلك "نظمي زادة" كان هذا المقهى قريبًا من المدرسة المستنصرية.
من بين المقاهي القديمة مقهى "حسن باشا" أقامه الوزير حسن باشا الذي حكم العراق ما بين سنة1597 – 1602، وكان قريبًا من جسر المأمون، وقد زار المقهى الرحالة "بكنغهام" عند زيارته للعراق، وقال عنه يبدو مقهى الوزير شعلة من نار يطل على نهر دجلة.
ومن بين المقاهي التي عرفت سابقًا، مقهى "البلابل" الواقع في حي الرصافة، غالبية روّاد هذا المقهى من هواة تربية طيور البلابل، وكان حديث هؤلاء الرواد، لا يكاد يخرج عن الدواجن والبلابل، أنواعها وطرق تربيتها وكيفية صيدها. كانوا يتفاخرون بأصنافها، كتفاخر الناس بخيولهم الأصيلة، فيحفظون أصل البلبل من أمه وأبيه، وقد بقي هذا المقهى قائمًا حتى عام 1950.
وهناك مقهى آخر عرف بمقهى "القراخانة" أو عثماني قراخانة، أو مقهى قراءات خانة، ويعتبر أول مقهى من نوعه أقيم في بغداد من حيث التنظيم، كان الجالس فيه يستطيع أن يقرأ الصحف التي تصدر في بغداد، منها صحيفة "الزوراء" كما كانوا يقرأون الصحف التي تأتي من اسطنبول، منها جريدة "أقدم وصباح"، وكان صاحب المقهى يتقن عدة لغات، لذلك كان يبادر إلى عقد ندوات أدبية مميزة.
شغلت بعض المقاهي مراكز ونوادي للاحزاب، مثلًا كان مقهى "عنجر" الواقع في شارع الكفاح يستقبل الشباب المتحمسين للاتجاهات القومية ومناهضين للشيوعية، وبجوار هذا المقهى أقيم مقهى آخر عرف باسم مقهى 14 تموز كان رواد هذا المقهى من مناصري الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الثورة التي اطاحت بالنظام الملكي يوم 14 تموز عام 1958، وقد امتلأت جدران هذا المقهى بصور عبد الكريم قاسم، وصور الزعيم الشيوعي لينين وماركس وانجلز، أما مقهى "البرازيلية"، فقد شهد تأسيس اتحاد الكتاب العراقيين، ونواة لمسرح التشكيل يقع هذا المقهى وسط شارع الرشيد، أهم شوارع بغداد، تجمع حول طاولات المقهى أدباء وسياسيون، وطلبة كليات وفنانون، شكلوا العهد الذهبي في الحياة الأدبية والفنية العراقية، في هذا المقهى افتتح مسار الحركة التشكيلية العراقية على أيدي "جواد سليم" وجماعته، فكتب في مذكراته بعد لقائه بالفنانين البولينيين، تلاميذ الفرنسي "يونار" في ذلك المقهى قال: الآن عرفت اللون، الآن عرفت الرسم، كما ارتاد المقهى العديد من الشعراء العراقيين وكبار رواد حركة الشعر الحر، مثل بدر شاكر السياب، وبلند الحيدري، فضلًا عن عبد الرازق عبد الواحد وعبد الوهاب البياتي وغيرهم.
وشهد مقهى "البرازيلية" ولادة فكرة تأسيس اتحاد الأدباء العراقيين عام 1952، ولكن الحكومة العراقية التي كانت تتعقب خطوات كل شاعر وأديب شعرت بخطورة مثل هذا المجتمع الأدبي، فأوعزت بالقبض على عدد من الادباء والشعراء ومصادرة انتاجهم.
في نهاية ستينيات القرن الماضي، ظهر مقهى " المعقدين " الواقع في شارع السعدون وسط بغداد، ارتاد هذا المقهى كوكبة من ادباء اشتهروا بالتمرد على السائد في المشهد الثقافي، المطلعين على الاتجاهات الحديثة في الأدب العالمي، كالمسرح الفقير والمسرح الأسود، والتقريب، فضلًا عما شهدته مناقشاتهم في العبث والوجود، والعدم والالتزام، جعلت منهم جيلًا خارجًا عن الذوق التقليدي بين الأدباء.
ويقال ان تسمية المعقدين اتت تجليًا للصراع الأدبي المفتوح وبناء الشخصية التي تقترح الحداثة، لا كإنتاج نصيّ، بل كمناخ للحياة، من أبرز ادباء هذا المقهى الشاعر عبد الرحمن طهمازي وشريف الربيعي وانور الغساني والرسام ابراهيم زاير.
من بين المقاهي التي استقطبت عددًا من الادباء والشعراء مقهى "حسن عجمي" يعود تاريخ هذا المقهى الى ما قبل احتلال الجيوش البريطانية لمدينة بغداد عام 1917، وصف الشاعر محمد مهدي الجواهري هذا المقهى بأنه أشهر مقاهي بغداد، ويعتبر من المقاهي التراثية، وما يميز هذا المقهى تردد العديد من حملة الاقلام اليه، كما ارتاده كبار رجال الصحافة، وقاموا بكتابة مقالات حسمت الكثير من الأمور السياسية في العراق.
من بين المقاهي التي أقدم الشاعر معروف الرصافي على ارتيادها مقهى "عارف آغا" الواقع في شارع الرشيد، ارتاده ايضا كبار مواطني الدوائر الحكومية، كما تردد عليه الصحفيون الذين كانوا يتصيدون الأخبار، من قبل كبار التجار والساسة والاعيان والنواب والوجهاء الذين اعتادوا الجلوس في هذا المقهى، من كبار السياسيين الذين ارتادوا المقهى ياسين الهاشمي، وحكمت سليمان احد قادة انقلاب عام 1936 بقيادة العقيد بكر صدقي، كما انه كان يتحول الى مدرسة خاصة ايام الصيف حيث اتخذه طلبة المدرسة الثانوية المركزية التي كانت قريبة منه مقرًا للالتقاء بمدرِّسيهم، والاستعانة بهم في الدروس الخصوصية.
خسرت بغداد الكثير من مقاهيها نتيجة ما شهده العراق في حقبة الحكم السابق، ثم الاحتلال الامريكي الى اليوم، فقد أصبح الوسط الثقافي والأدبي والفني يعيش وضعًا مزريًا، لكن في المقابل تحاول بعض المقاهي الحفاظ على عراقة الماضي ورائحته، منها مقهى الشابندر في شارع المتنبي ومقهى الشهداء الذي تأسس عام 1917، وشهد انطلاق مظاهرة التنديد بمعاهدة (بورتسموت) عام 1948 بين حكومة نوري السعيد والحكومة البريطانية، ولا يزال حتى اليوم يفوح من هذا المقهى عبق خاص يختزل عقودًا من التاريخ وتحولاته، ويعتبر اليوم مقصدًا للمثقفين والسياح ورواد الفن.
(يتبع - مقاهي لبنان)
كلام الصورة: شارع الرشيد في بغداد - ثلاثينيات القرن الماضي
إضافة تعقيب