المجاهد عز الدين محمد حسين خلايلة (1910 – 1938)
عثرت على اسم هذا المجاهد صدفةً اثناء بحثي عن سيرة حياة بعض المجاهدين في بعض المصادر الفلسطينية، العنوان من مجد الكروم، وفي الحال استذكرت رفيقي العزيز رشدي خلايلة وقلت في نفسي عسى ان يكون من اقاربه او يمت اليه بِصِلَةَ، وعندما حان الوقت وعزمت على الكتابة عن هذا المجاهد وتكريمه صعدت سيارتي برفقة صديقي، قدتها ويممنا شطر بلدة مجد الكروم وصلنا وسط القرية توقفت وسألت احد المواطنين عن بيت الرفيق رشدي خلايلة ابتسم الشاب وقال هو يعمل في المجلس المحلي مدير قسم المعارف، تكرّم وارشدنا كيف الوصول الى هناك، استأنفنا سيرنا حسب الارشادات فوجدنا انفسنا نقف في باحة المجلس المحلي الرحبة والنظيفة، اوقفنا السيارة وترجلنا دخلنا دار المجلس وهي بناية جميلة فاخرة وضخمة، وسرنا في الممر حتى غرفة موظف الحراسة والانضباط، ابلغناه اننا نريد السيد رشدي خلايلة افترّت شفتاه عن ابتسامة خفيفة ورحّبَ بنا، واشرع الباب وقال هو مكتبه في الطابق الثالث.
صعدنا ووجدنا انفسنا امام يافطة نقش عليها اسم مكتب قسم المعارف، قرعنا الباب وسمعنا صوتًا من الداخل يأذن لنا بالدخول، دفعنا الباب وكان لولوجنا المكتب مفاجأة له ولرفيق الدرب والصديق العزيزعلي حريكة ابو الوفا، نهضا يرحبان بنا وبحفاوة عارمة وحميمة وقد طغت على وجهيهما ابتسامة عريضة صاحبها لسعات عتاب لعدم اتصالنا مسبقا، فقلنا تركناها مفاجأة ونحن جئنا في مهمة وفي عجلة من امرنا، فعادا يرحبان من جديد وكانت آخر جملة تهادت لسمعي من حديثهما الذي انقطع عند دخولنا، اننا في الحزب في منتهى الجهوزية لخوض الانتخابات بكل ما تمليه علينا الظروف، وتعقيبا لما سمعت قلت بتطفّل، نعم نحن جاهزون، اخذنا مكانينا جلسنا واوّل ما لفت انتباهي ان الرفيق رشدي زيّن مكتبه بثلاث صور احداها فوق رأسه للقائد الشيوعي والشاعر توفيق زياد وفي الجهة اليسرى من الكتب صورة للشاعر سميح القاسم ومن اليمين صورة للشاعر الكبير محمود درويش.
اخذنا نحتسي القهوة وعندما انتهينا من تجاذب اطراف الحديث، افصحت لهما عن غاية قدومي فقلت: جئت لاستقي معلومات عن المجاهد عز الدين محمد خلايلة عسى ان يكون قريبك يارفيق رشدي فابتسم وقال: هذا عمي، فانفرجت اساريري وعقّبت قائلا: لم يذهب حدسي عبثًا، فتوجهت اليه هات ما في جعبتك مما تعرف عن نشاط عمّك الجهادي، اطرق الرفيق رشدي قليلا وكأني به راح يستجمع ما اختزنه في ذاكرته مما رواه له والده، فقال: هو من مواليد 1910واستشهد سنة 1938 مع صديقه الشاعر نوح ابراهيم والشهيد محمد اسعد قبلاوي وشهيد سوري يدعى ( ابو جلدة) ربما تيمنا بالبطل المجاهد الكبير ابو جلدة كانوا ثُلّة من اربعة مجاهدين جاءوا من سحماتة وهم في بزّاتهم العسكرية عرّجوا على مجد الكروم بعد انهاء مهمتهم هناك اخذوا قسطا من الراحة وغادروا القرية في طريقهم الى مركز القيادة في كوكب ابو الهيجا، ومن هناك يمموا شطر طمرة وفي الطريق اليها اعترضهم كمين من الجنود البريطانيين دارت معركة بين الفريقين وكانت معركة ضارية استبسل فيها المجاهدون مما اضطر الجنود البريطانيين لطلب النجدة فقامت طائرة بريطانية بقصفهم في موقع من ارض طمرة يدعى (الصنيبعة). استشهد الاربعة وبعد استشهادهم دهم الجنود البريطانيون المكان واقدموا على رميهم في بئر قريبة من ارض المعركة.
بعد انصراف الجنود وتنفيذ غائلتهم اقدم احد المواطنين وكان قد شاهد المعركة، فهرع مع جمع من الناس وانتشلوا الجثث وحملوهم على الاكتاف الى احدى المقابر في طمرة حيث ووريت الجثامين الثرى. وفي ذكرى الخمسين لثورة القسام سنة 1986قامت لجنة بمبادرة السيد راجي عياش واشهرت الاجداث، امّا كيف انضم عمي المجاهد عز الدين محمد خلايلة الى صفوف الثورة والانخراط في تنظيمها فله في ذلك حكاية شيّقة وعمي مجاهد غير تقليدي كان سلاحه غير سلاح المجاهدين، ثمّ تابع الصديق رشدي خلايلة يقول :كان عمي طويل القامة عريض المنكبين اشقر البشرة جميل الطلة بهي المحيا ممتلئ الجسم قويّ البُنيَة عينان واسعتان زرقاوان، اراد له جدّي ان يكون راعيا يرعى قطيع الماعز الذي كان يملكه الامر الذي لم يرق له ذلك العرض، دخل الغرفة ووقف امام المرآة ونظر فيها وشاهد شبابه المتألّق و جماله البهيّ فقال في نفسه كما رواه لاترابه واصدقائه يا حيف على هذا الشباب ان ينزوي وراء قطيع الماعز، فسوّلت له نفسه الهروب، فشد رحاله الى مدينة حيفا وراح يتردد على مقهى يرتاده الشباب الثوار، وهناك تعرف على الشاعر الشعبي الثائر والثوري والمجاهد نوح ابراهيم ابن مدينة حيفا تلميذ المجاهد الشيخ عز الدين القسام وتوطدت بينها صداقة متينة وانسجاما قويا حيث كان هذا شاعرا وعمي فنانا، فانخرط في صفوف الثورة وكان بطبيعة الحال وهو يرعى القطيع مع الراعي تعلم العزف على (المجوز) فاضحى زمّارا ماهرا وبارعًا، وكان يشارك في حفلات الاعراس فكانت تتهادى لسمعه همسات عذبة، وكانت عيناه تكتحلان بما كان يشع من غمزات من عيون الصبايا اللواتي كنَّ يتحلقن حوله وهو يتوسّط حلقة الدبكة.
بعد انخرطه في صفوف المقاومة القت القيادة العامة على الزميلين عمي ورفيق دربه الشاعر الشعبي نوح ابراهيم مهمة مقاومة الصهيونيين والبريطانيين بسلاح الكلمة الثورية والنغم الرقيق حض الجماهير على دعم الثورة ماديا ومعنويا وعدديا فاضحى شعر نوح ابراهيم البندقية ومزمار( مجوز)عمي البارود الذي ينفجر في وجه العدو الذي قضّ مضاجعهم. واخذ دورهما يتسع و يبرز في تجنيد الجماهير وحض الشباب على الثورة واذكاء نار الجهاد في نفوس الجماهير فراحوا يجوبون البلاد من اقصاها الى اقصاها طولا وعرضا، ويحيون الحفلات وكان الشاعر نوح ابراهيم حدّاءً يتمتع ببديهة عارمة وبلاغة فائقة وغزارة جارفة وابداع خارق في الشعر الشعبي سلس الكلمات فصيح الالقاء عذب الصوت، مما جعل الناس يتهافتون لسماعه يحدو وينظم الاهازيج الحماسية والوطنية عن فلسطين ويحض على الجهاد ضد الحركة الصهيونية والبريطانيين وعمي يضرب على المجوز يترجمها الى لغة النغم والموسيقى مما ازعج السلطات البريطانية، فلاحقتهم وزجت بالشاعر نوح ابراهيم في سجن المزرعة مرة واخرى في سجن عكا، فنال لقب شاعر فلسطين عن جدارة والمام، وعمي عز الدين كان يطلقها تصدح من المجوز تشنّف الآذان ويوليها اهتمامًا في الايقاع والنغم، مما كان يثير الحماس والطرب في نفوس الجماهير والشباب خاصة، فكانوا يتهافتون للانضمام في صفوف الثورة وظلا في هذه المهمة الرائدة وعلى هذا النمط ينتقلان من قرية الى اخرى الى ان استشهدا سنة 1938.
استشهد المجاهد عز الدين خلايلة وقد ترك وراءه ارملة وطفلا عمره شهران وفي احتفال الذكرى الخمسين على قيام الثورة اقيم احتفال مهيب شارك في التكريم العديد من الشخصيات الوطنية، وكانت للرجل من طمرة الذي شاهد في حينه المعركة كلمة مؤثرة في الاحتفال روى فيها ما شاهده من بسالة خارقة صدرت من المجاهدين، وقد اجتهدت اللجنة ونظّمَت احتفالا آخر في مسقط رأسه مجد الكروم تحدث فيه قيادات وشخصيات اجتماعية ووطنية تكريما لهما، وكان لارملته دور في القاء كلمة مؤثرة، وكانت كلمة الابن الذي بات رجلا كلمة كان وقعها على الجماهير اشد وقعا من باقي الكلمات.
وفي سياق حديث السيد رشدي خلايلة استذكر حكاية جديرة بالذكر، أن ارملة الشهيد اعتادت ان تذهب الى طمرة لتزور ضريح زوجها وتقرأ له الفاتحة وتتضرع بالرحمة والغفران، فكانت تعرّج على احد البيوت و تضع طفلها في احد البيوت ولما شبّ الوليد وراح ذات يوم يزور ضريح والده برفقة والدته، اخذ الرجل صاحب البيت يحدثه ان زوجة الشهيد والدته كانت تعرج على بيتنا وتترك طفلها في حضن زوجته، فاحمرّت وجنتا الشاب، صمت قليلا وفقال له الابن انا هو ذلك الطفل فاغرورقت عينا الرجل وانحبست الدموع بين الجفون وانقضّ عليه وعانقه عناقا حارا.
غادرنا دار المجلس شاكرين وفي جعبتي ما انقله للقارئ من سيرة هذا المجاهد الشهيد. عز الدين محمد حسين خلايلة بمساهمته الجليلة المتواضعة ليروي بدمه ثرى ارض فلسطين وقد آثر حب الوطن على حب زوجته وفلذة كبده الطفل محمد عز الدين خلايلة ليكون ايقونة من ايقونات شهداء فلسطين.
إضافة تعقيب