كانت الأيام الأخيرة، بالذات في الأسبوع الماضي، تحقيقا لرغبات بنيامين نتنياهو، بدأها بتطبيق مخططه الذي لم يزل عن جدول أعماله، بإقالة وزير الأمن يوآف غالانت، كنهجه مع كل من اعترض ولو على بعض من قراراته في الحكومة وحزبه الليكود، وفي الوقت نفسه أظهر مجددا قدرته على التعامل مع شخصيات الليكود الحالية والسابقة، كأحجار شطرنج، يُقرّب ويُبعد بسرعة، بناء على درجة الولاء، والرضوخ لرغباته، كما رأينا مع الوزيرين يسرائيل كاتس وجدعون ساعر؛ وبالتزامن، جاءته "بشرى" فوز صديقه الخاص، دونالد ترامب، ليزداد نشوة، رغم أنه لولا دعم إدارة جو بايدن، لما استطاع هو وحكومته إطالة الحرب الدائرة وتوسيعها، وهذا باعتراف محللين إسرائيليين.
كانت إقالة يوآف غالانت مسألة توقيت مناسب لبنيامين نتنياهو، فالقرار قائم لديه منذ مطلع شهر نيسان من العام الماضي 2023، حينما نشب خلاف بينهما حول عدد من مشاريع القوانين التي سعى لها نتنياهو وفريقه في الحزب والحكومة، في إطار ما يسمى إسرائيليا "الانقلاب على الجهاز القضائي". وقد أعلن نتنياهو إقالة غالانت من منصبه في مطلع ذلك الشهر، لكنه تراجع خلال أقل من يومين عن قراره، تحت ضغوط الرأي العام وحزب الليكود.
ومنذ تلك الفترة، بدا واضحا أن الخلاف بين الاثنين -ويدور بالذات حول أمور إدارية، وليست سياسية جوهرية- اشتد في الأسابيع الأولى للحرب الجارية على الشعب الفلسطيني، وحسب ما كان ينشر، فإن الخلاف أساسا هو أن غالانت يريد وزنا أساسيا لقيادة الجيش وأجهزة المخابرات المختلفة، بينما أراد نتنياهو أن يكون القرار الأساس بيده شخصيا، ولاحقا بدأ غالانت يكشف عن طبيعة الخلافات، التي تعد من وجهة نظر إسرائيلية أساسية.
وحسب ما شهدناه على الأرض، على مدى 13 شهرا وأكثر، لم يكن الخلاف بين "متطرف" و"متطرف أقل"، فوابل التقارير كان يشير تارة إلى هذا الطرف، وتارة أخرى إلى الطرف الآخر. على سبيل المثال، فإن توسيع الحرب على لبنان، نادى به غالانت مبكرا، بينما نتنياهو طلب التأجيل، والأمثلة كثيرة.
وقال غالانت، في ذات مساء إعلان إقالته، إن أسباب إقالته ثلاثة: الخلاف مع نتنياهو حول قانون تجنيد الشبان "الحريديم"، الذي أراده نتنياهو أوسع وأشمل. وثانيا، إبرام صفقة تبادل، أو حسب التسمية الإسرائيلية "استعادة الرهائن"، بدون أن يوضح أكثر. وثالثا، رفض نتنياهو إقامة لجنة تحقيق رسمية (ذات صلاحيات قانونية)، بشأن أحداث يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، العام الماضي 2023.
إلا أنه بعد أقل من يومين، وحسب ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن غالانت بادر للقاء عائلات رهائن في قطاع غزة، وهو في الساعات الأخيرة في منصبه، قبل تصويت الكنيست على التغييرات في الحكومة، التي تطيح به من منصبه. وكشف غالانت عن طبيعة الخلافات مع نتنياهو، منها أن عدم ابرام اتفاقية تبادل، هو ليس لأسباب عسكرية، ولا سياسية، في إشارة إلى أنها بسبب حسابات شخصية لدى نتنياهو، لكن غالانت لم يقلها في تلك الجلسة، وقال إن ما عرضته إسرائيل كان واضحا أنه لن يكون مقبولا، مثل نفي قيادة حماس، ودفع أموال في مقابل الرهائن.
كما عبّر غالانت في ذلك اللقاء عن اعتراضه على إطالة أمد تواجد الجيش في قطاع غزة، وقال إنه لا حاجة عسكرية وأمنية لاستمرار وجود الجيش في المقطع الحدودي بين قطاع غزة ومصر، أو حسب التسميتين، "محور فيلادلفيا"، و"محور صلاح الدين". وبالإمكان التقدير أن هذه ستكون بداية لما سيكشف عنه غالانت لاحقا.
وسنأخذ هنا هذه القضية من الناحية الحزبية، فما جرى هو استمرار لنهج نتنياهو، منذ أن ظهر في الصف الأول في قيادة حزب الليكود، في مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي، وحتى آخر انتخابات برلمانية، جرت يوم الأول من تشرين الثاني من العام 2022. فقد عمل نتنياهو على إزاحة كل من يقف في وجهه في الحزب، في مختلف القضايا، بدءا من السعي لمنافسته على رئاسة الحزب، وحتى أصغر القضايا الإدارية.
وعددنا في ما مضى سلسلة من شخصيات حزب الليكود البارزة في تاريخه، كيف أزاحها نتنياهو بمختلف الأساليب. والمفارقة في قضية غالانت، أن نتنياهو استخدمه في التحضير للانتخابات البرلمانية الأخيرة، ليعزز قائمته عسكريا، بموازاة استبعاد شخصيات في الحزب خططت للترشح لرئاسته، إن كان كمنافسة لنتنياهو، أو حتى بعد استقالة نتنياهو.
إحدى هذه الشخصيات يسرائيل كاتس، وكان من بين ثلاثة أشخاص تعمّد نتنياهو استبعادهم عن مقدمة القائمة، فكاتس، الرجل القوي في قواعد حزب الليكود، حصل على المكان الـ 12، رغم أنه في العقدين الأخيرين بالذات، كان غالبا ضمن الخمسة الأوائل أو بعدها بقليل. وعند تشكيل الحكومة، حاول نتنياهو استبعاد كاتس بمنحه حقيبة هامشية، لكنه لم ينجح أمام الضغوط عليه من الليكود، فحصل في عام الحكومة الأول على حقيبة الطاقة، مع اتفاق بأن يتسلم وزارة الخارجية بعد عام، بالتناوب مع الوزير إيلي كوهين.
ويبدو أن كاتس، وخلال العامين الأخيرين، استدرك من جديد المطلوب منه، وهو الرضوخ، وتقديم الطاعة الكلية لشخص رئيس حزبه وحكومته، واستوعب نتنياهو الرسالة، فإذ به يُسند لكاتس الحقيبة الأشد حساسية، حقيبة الأمن، رغم عدم وجود ماض عسكري لدى كاتس، وحسب انطباع المحللين فإن هذا ما أراده نتنياهو من هذا التعيين، ليبقى القرار بيده، أو حسب التعبير الذي سرى في وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن وزير الأمن الفعلي سيكون نتنياهو.
الشخص الثاني هو جدعون ساعر، المنشق منذ 4 سنوات تقريبا، عن حزب الليكود، وأقام حزبا مع منشقين آخرين، رفضا لسيطرة بنيامين نتنياهو على الحزب، وأيضا بسبب قضايا الفساد. وكان ساعر شريكا في الحكومة التي أبعدت نتنياهو عامًا واحدًا عن الحكم. لكن ساعر الذي لم ينفك ليوم عن سياسة اليمين الاستيطاني المتشدد، هو وفريقه، تهاوى من حيث المكانة السياسية، وهذا ما دلت وما زالت تدل عليه استطلاعات الرأي العام.
وبعد انشقاقه عن تحالفه السابق مع بيني غانتس، في شهر نيسان العام الجاري، ومغادرته صفوف حكومة الطوارئ، عاد إلى حضن نتنياهو وحكومته، في مطلع تشرين الأول الماضي، وزيرا من دون حقيبة، بعد أن سرت معلومات بأن نتنياهو وعد غريمه السابق ساعر بحقيبة الأمن، لكن مخطط إقالة غالانت تجمّد على وقع توسيع رقعة الحرب في لبنان، ومعها سلسلة الاغتيالات.
ويبدو أن نتنياهو، وأيضا ساعر، استوعبا حجم الانتقادات للنيّة بإسناد حقيبة الأمن لشخص ساعر، عديم الخبرة العسكرية، رغم أن البديل كاتس، هو أيضا عديم الخبرة، إلا أنه بهذا القرار يبقي نتنياهو الحقيبة بيد حزبه، على الأقل أمام كوادر الحزب، وفي الوقت نفسه، يخرج ساعر رابحا من تولي حقيبة الخارجية.
وهذا المشهد مع ما سيتبعه، يؤكد مجددا أن نتنياهو يتعامل مع شخصيات الليكود كأحجار شطرنج بشكل يضمن له بقاءه من دون منافس على رأس الليكود. وهذا يعزز الانطباع بأن الليكود بعد نتنياهو سيعلق في دوامة انقسامات داخلية ناجمة عن حدة المنافسة، مع غياب الشخص القائد الذي يتجمع حوله الحزب، لأن نتنياهو لم ولا يسمح بوجود شخص قادر على خلافته.
أما بخصوص غالانت، فليس واضحا ماذا سيقرر بشأن مستقبله، فقد سارع صديقه وزميله في الجيش، النائب بيني غانتس، إلى مطالبته بعدم الاستقالة من الكنيست. وإن بقي غالانت في الكنيست، فالقانون الإسرائيلي لا يجيز له الانشقاق والاعتراف به كتلة مستقلة، ولهذا فإنه إذا لم يستقل من الكنيست، سيبقى في الظل، ويظهر بمواقف مناهضة لنهج نتنياهو، وفي هذه الحالة لا يبدو أن غالانت سيكون ضمن قائمة الليكود في الانتخابات المقبلة، فإما أن يعتزل السياسة، وإما أن ينتقل لحزب آخر، لكن هنا سيكون عليه الاستقالة من الكنيست قبل تحديد موعد الانتخابات، كي يكون بإمكانه المنافسة ضمن حزب آخر.
أثبتت السنين، وبشكل خاص العقود الثلاثة الأخيرة، أن نتائج الانتخابات الأميركية لا تؤثر على أي انتخابات إسرائيلية تالية، ولربما أن التأثير الأميركي الوحيد كان في انتخابات 1992 الإسرائيلية، حينما حاصرت الإدارة الأميركية الحكومة الإسرائيلية سياسيا، وكانت يومها بزعامة إسحق شمير، الليكود، لكن هذا جاء أيضا في ظل تقلبات في الشارع الإسرائيلي، أدت إلى وصول حزب العمل، مجددا، إلى الحكم، بزعامة إسحق رابين.
لكن بالإمكان القول إن نتائج الانتخابات الأميركية تساهم في طرح أسقف توقعات سياسية لدى جانبي الحلبة الإسرائيلية. وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، خلقت أجواء ابتهاج وفرح لدى قادة اليمين الاستيطاني المتطرف، بدءا من رئيس الحكومة، مرورا بأشد وزرائه تطرفا، على شاكلة بتسلئيل سموتريتش، وايتمار بن غفير، إذ أن الأخير عبّر جهاراً من على منصة الكنيست، في يوم صدور النتائج، عن أن انتخاب ترامب سيفسح المجال، ويسهّل عملية ضم الضفة، وإعادة الاستيطان في قطاع غزة، وفرض أحكام الإعدام على الفلسطينيين.
المفارقة تكررت في الانتخابات الأميركية الأخيرة، إذ أن الأميركان أبناء الديانة اليهودية دعموا مجددا بالغالبية العظمى، ما بين 68% إلى 70% حسب التقارير الإسرائيلية، الحزب الديمقراطي ومرشحته كامالا هاريس، بينما من هم من أصول عربية ودول إسلامية صبت أصواتهم بغالبيتهم لصالح ترامب، كموقف رد على دعم إدارة جو بايدن للحرب الإسرائيلية، وهذا الدعم لترامب برز بقوة في ولاية ميشيغان.
وفي يوم صدور النتيجة، هاتف نتنياهو صديقه ترامب، بمكالمة استمرت 20 دقيقة، وقبل هذا أصدر نتنياهو بيانا مقتضبا قال فيه، "مباركتي للعودة الكبيرة، الأكبر في التاريخ، إن عودته التاريخية إلى البيت الأبيض تفسح المجال لبداية جديدة للشعب الأميركي، وأيضا تجديد الالتزام بالتحالف الرائع بين إسرائيل وأميركا، إن هذا نصر ضخم جدا".
واستبق الوزيران الأشد تطرفا في حكومة نتنياهو، ظهور النتائج الرسمية وحتى الأولية، للتعبير عن ابتهاجهما بفوز ترامب. إذا كتب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، المتدين المتزمت الرفضي، "الله يبارك إسرائيل وأميركا"، بينما كتب بن غفير "ليبارك الله ترامب".
وكما ذكر، فإنه لاحقا رحب بن غفير بفوز ترامب من على منصة الكنيست، قائلا إن هذا الفوز سوف يسرّع عمليات الضم وفرض أحكام اعدام من دون عائق، بحسب حساباته.
وقال تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" أعده أليشع بن كيمون، في اليوم التالي للنتائج، إن أجواء فرح عظيمة تعم أوساط المستوطنين، وقيادتهم، بعد انتصار ترامب الجارف في الانتخابات. "وهناك (المستوطنون) ينتظرون مراسم قسم اليمين (بدء ولاية ترامب الجديدة)، وقد أعدوا برنامج عمل واضح. تعميق انقلاب سموتريتش على الأرض (يقصد تعميق الاستيطان والسيطرة أكثر على الأرض)، وتثبيت بؤر استيطانية، وإصدار تراخيص بناء عالقة، وإلغاء العقوبات على عدد من المستوطنين، وتحريك عملية فرض السيادة على يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، وحتى أخذ أرض، في الطريق، لإقامة بؤر استيطانية شمال قطاع غزة"، بحسب تعبير التقرير.
اللافت في بيان نتنياهو، وحديثه عن تجديد الالتزام، أنه يأتي بعد حوالي 3 أسابيع من صدور بحث اقتصادي أميركي، استعرضته صحيفة "كالكاليست" الاقتصادية الإسرائيلية، يقول إن الولايات المتحدة الأميركية دعمت ما يسمى "الجهد الحربي" الإسرائيلي، في السنة الأخيرة، بنحو 23 مليار دولار، وهو ما يعادل 70% من حجم الانفاق العسكري الإسرائيلي المباشر، ويؤكد المحلل الاقتصادي الإسرائيلي، أدريان بايلوت، أنه لولا هذا الدعم، لكان هناك شك كبير في إمكانية خوض إسرائيل هذه الحرب بحجمها ومدتها الزمنية المستمرة.
وقد أجرى البحث معهد "ووطسون للشؤون العامة والدولية"، في جامعة براون، في إطار مشروع "كلفة الحرب". وبيّن البحث أن الإدارة الأميركية خصصت ما يلامس 18 مليار دولار، للصرف المباشر للخزينة الإسرائيلية (17.9 مليار دولار) حتى الآن، ويضاف لها قرابة 5 مليارات دولار (4.86 مليار)، وهو ثمن ما تنفقه الولايات المتحدة على تحريك جيشها نحو منطقة الشرق الأوسط، وأيضا الهجمات المستمرة على اليمن.
وقال المحلل الاقتصادي، بايلوت، في تقريره، إنه لولا هذا الدعم المالي، لكان من الصعب رؤية أن إسرائيل ستكون قادرة على خوض هذه الحرب من حيث حجمها ومدتها المستمرة. خاصة وأن الدعم الأميركي للحرب الإسرائيلية بلغ بالعملة الإسرائيلية 85 مليار شيكل، لولاها لكانت ستضاف إلى العجز المالي الكبير جدا الذي تعاني منه الخزانة الإسرائيلية.
(نشرة "المشهد الإسرائيلي"، مركز "مدار")
إضافة تعقيب