قبل عدة سنوات أصدرت منظمة العمل الدولية دراسة بعنوان "النقابات العمالية في الميزان" تناولت من خلالها وضع النقابات العمالية في العالم، من خلال طرح السؤال الهام، ألا وهو "ما هو مستقبل النقابات العمالية؟"، وأوضحت الإجابة بـ: "ما الذي يمكننا أن نتوقعه من النقابات العمالية خلال العقد أو العقدين القادمين وما الذي نتوقع حدوثه لها؟ هل ستستمر في العمل كمنظمات ذات عضوية كبيرة وتقوم بتمثيل كل أشكال التنوع الموجود في عالم العمل اليوم أم أنها ستتراجع وتقوم بتمثيل أقلية صغيرة تتوفر لها الحماية؟ هل سيستمر التراجع الذي حدث في العقود الأخيرة أم ستنتفض النقابات وتسترجع أهميتها بالنسبة لعلاقات العمال في العصر الرقمي كما كانت عليه في العصر الصناعي؟" تذكرت هذه الدراسة الهامة والتي تستعرض مختلف الأوضاع التي تمر بها النقابات العمالية في عالمنا اليوم، وهل سينحصر تأثيرها أم سيتسع؟، في ظل الأزمات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية خاصة النهضة الرقمية والذكاء الصناعي، والاقتصاد الرقمي، والأزمة التشغيلية القائمة، بما تواجهه معظم الدول من قضية هجرة الأيدي العاملة، وهجرة الصناعة لمناطق فيها تكلفة الأجور متدنية، وغيرها من الأزمات.
القوى الرأسمالية تعمل على ضرب حقوق العمال
لكن الأزمة الأكثر بروزًا هي تمدد الأخطبوط الرأسمالي الذي يحاول خنق نشاط النقابات العمالية، من خلال سيطرته على الاقتصاد والإعلام والحكومات، وقيام ممثليه بتشريع قوانين تلغي الكثير من إنجازات الحركة النقابية في كل دولة ودولة، وتشمل تلك التشريعات تضييق حرية التنظيم النقابي، إلغاء المفاوضات الجماعية واتفاقيات عمل جماعية قائمة، الغاء قوانين واتفاقيات تتعلق بحقوق العمال في التقاعد، بما في ذلك رفع سن التقاعد وتقليص مخصصات التقاعد باستعمال طرق حسابية تؤدي إلى شح مخصصات التقاعد التي يحصل عليها العمال عند خروجهم للتقاعد. وهذا ما نشهده اليوم في فرنسا وسبق ذلك تشريعات مماثلة، بل أكثر فداحة بالنسبة للعمال لضرب حقوق التقاعد ورفع سن التقاعد أيضًا.
محاولات إلغاء الحق بالإضراب والتفاوض الجماعي
كما نشهد حاليًا قيام العديد من الحكومات بطرح مشاريع قوانين هدفها الغاء حق الإضراب أو تقليص هذا الحق حسب رأي بعض الخبراء من أصحاب الفكر الرأسمالي، بادعاء أن النقابات بإعلانها الإضراب تكبد الاقتصاد القومي للدولة بخسائر كبيرة، نلاحظ مثل هذه المبادرات لتشريعات بهذا الخصوص، في المملكة المتحدة أو انجلترا وفي عدد من دول الاتحاد الأوروبي، وتابعتها اسرائيل، وفي عدد من الدول الإفريقية والآسيوية وما بالك بما يحدث بهذا الخصوص في الدول العربية والتي ما زال عدد منها يمنع الحق بتشكيل نقابات عمالية!!، وتأكيد على ذلك ما جاء في "مؤشر الحقوق العالمية للاتحاد الدولي لنقابات العمال لعام 2022": "87 في المائة من البلدان انتهكت الحق في الإضراب. قادت الإضرابات في بيلاروسيا ومصر والهند والفلبين إلى مقاضاة قادة النقابات. في السودان وميامنار، قوبلت الإضرابات المناهضة للحكم العسكري بقمع وحشي.
97 في المائة من البلدان انتهكت الحق في التفاوض الجماعي. أخذ التفاوض الجماعي، في جميع المناطق، بالتآكل في كل من القطاعين العام والخاص. شوهدت سيطرة حكومية شديدة على التفاوض الجماعي في تونس، حيث لم يعد بالإمكان إجراء مفاوضات مع النقابات دون تصريح من رئيس الحكومة".
وأضاف التقرير: "74 في المائة من البلدان استثنت العمال من حقهم في إنشاء والانضمام إلى النقابات العمالية. حُظِر واستثني العمال المهاجرون وعمال القطاع العام والعاملون في مناطق تجهيز الصادرات من حقهم في حماية أعمالهم. بينما باشرت قطر والمملكة العربية السعودية بإصلاحات كبيرة لإنهاء نظام الكفالة، استمرت الإمارات العربية المتحدة في حرمان العمال المهاجرين من التمثيل الجماعي". (المؤشر ص5)
ملاحقة النقابات والنقابيين واغتيال عدد منهم
تقارير التنظيمات النقابية العالمية تؤكد أن العديد من الأنظمة والحكومات ومنها من تدعي بأنها "ديمقراطية" تقوم باعتقال النقابيين وتضييق مساحة حرية العمل والنشاط النقابي، وتزج عدد من النقابيين في غياهب السجون وتعذبهم في زنازينها، هذا بالإضافة إلى قيام منظمات مدعومة من أصحاب العمل ومن الحكومات بعمليات اغتيال للنقابيين ويظهر التقرير "مؤشر الحقوق العالمية للاتحاد الدولي لنقابات العمال لعام 2022" الكثير من المعطيات المقلقة لما يتعرض له النقابيون والنقابات في العديد من الدول، حيث أشار التقرير أو المؤشر إلى أن: "أسوأ عشر دول بالنسبة للعمال في 2022 هي التالية: البرازيل، كولومبيا، مصر، اسواتيني، غواتيمالا، ميانمار، الفيليبين، وتركيا.
اسواتيني وغواتيمالا دخلتا القائمة حديثًا في 2022. دفع القمع الوحشي للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية وحظر المظاهرات والإضرابات المُمَنهج إيسواتيني إلى دخول قائمة أسوأ عشر دول. أدى تفشي العنف ضد النقابات، إلى جانب إفلات مرتكبي أعمال العنف من العقاب، إلى انتكاسة في التقدم الذي أحرزته غواتيمالا.
شهدت كل من أرمينيا وأستراليا وبوركينا فاسو وغينيا وجامايكا وليسوتو وهولندا وتونس والأوروغواي تدهورًا في تصنيفاتها، عام 2022 ارتفع تصنيف أفغانستان إلى الفئة +5، إذ لا ضمانة للحقوق بسبب انهيار سيادة القانون" (ص5).
أما عن الاغتيالات للنقابيين وغيرها من أساليب العنف فقد جاء في التقرير نفسه: "قتل نقابيون في ثلاث عشرة دولة: بنغلادش وكولومبيا والإكوادور واسواتيني وغواتيمالا وهايتي والهند والعراق وإيطاليا وليسوتو وميامنار والفلبين وجنوب أفريقيا.
سُلبت حرية التعبير والتجمع أو قُيدت في 41% من البلدان، مع الإبلاغ عن حالات قصوى في هونغ كونغ وميامنار.
ارتفع عدد البلدان التي أعاقت السلطات فيها تسجيل النقابات من 59 في المائة من البلدان عام 2014 إلى 74 في المائة من البلدان عام 2022، مع قمع الدولة للنشاط النقابي المستقل في أفغانستان وبيلاروسيا ومصر والأردن وهونغ كونغ وميامنار والسودان" (ص6).
نقابات مناضلة تحمي عمالها
في ظل الهجوم الرأسمالي على الحركة النقابية العالمية ومحاولاتها نهش حقوق العمال وقمع انجازاتهم، لم تقف النقابات المناضلة والتي تؤمن بالنضال النقابي الحقيقي مكتوفة الأيدي، بل قامت بتجنيد العمال وحلفائهم وخوض معركة نضالية يومية من أجل إفشال مخططات الحكومات المدعومة من قوى رأس المال وصاحبة الفكر النيوليبرالي، شاهدنا هذا في فرنسا، حيث قامت النقابات على مختلف مشاربها الفكرية بتأليف طاقم نضالي مشترك من أجل حماية العمال بإفشال قانون يسيء لحقوق تقاعدهم.
وشاهدنا هذا وبفخر واعتزاز النضال الذي يخوضه الاتحاد العام التونسي للشغل، وتجند العمال ومختلف الهيئات الوطنية في معركة نضالية تهدف إلى حماية العمال ومصالحهم، والدفاع عن حقوقهم بما في ذلك الحريات النقابية، ومن أجل إطلاق سراح النقابيين الذين اعتقلتهم السلطة التونسية وقامت بإلصاق تهم هم براء منها، وذلك بإجماع مختلف الهيئات الوطنية التونسية بل والدولية، وأن هدف السلطة هو ضرب حقوق العمال وضرب الحركة النقابية التونسية صاحبة التاريخ النضالي العريق، وشاهدنا ذلك في بريطانيا لإفشال قانون منع الإضراب الذي أعلنت حكومة المحافظين عن البدء بتشريعه. وشاهدنا ذلك في تركيا عندما قامت حكومة الدكتاتور اردوغان باعتقال النقابيين وفي إصدار أمر رئاسي يمنع إضراب العمال، نعم هذه النقابات قامت بدورها من أجل حماية العمال ومصالحهم.
نقابات تحتمي بحكوماتها
بالمقابل تابعنا حراك بعض النقابات – إن وجد- في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، وموجة الغلاء الفاحش، وفقدان القيمة الشرائية للأجور وفقدان اتفاقيات عمل جماعية لم توقع منذ عدة سنوات، بل قيام الحكومات بخطوات لتشريع قوانين تمنع الحق بالإضراب، أو تقليص الحق به، وقفت هذه النقابات على قارعة النضال العمالي، وبدأت تصدر التصريحات المناهضة للأسس النقابية التي تعني النضال من أجل حماية العمال وحقوقهم، ووضعت هذه النقابات نفسها في حضن الحكومات، بل أصدر البعض منها تصريحات تتحدث عن "المسؤولية الوطنية" وضرورة "المشاركة في تحمل الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد"، وزاد بعضهم الطين بلّه عندما قال " نحن من تحت النقالة" وهذا تعبير له خلفية عسكرية، يعني عندما نكون في المعركة نتحمل المسؤولية بنقل الجرحى أو القتلى بالنقالة التي نحملها على أكتافنا، فهل هذه النقابات تحمي العمال أم أنها تحتمي بالحكومات لتبرير فشلها وضعفها النقابي النضالي، أم أنها تحاول "الهروب" من تحمل مسؤوليتها النضالية، خاصة وأنها تشهد ما تقوم به الحكومات من خطوات تؤدي في النهاية إلى ضرب حقوق العمال، كما يجري لدينا فيما تقوم به الحكومة من تسريع تشريع "الانقلاب القضائي " الذي يؤكد جميع الخبراء بأن نتيجته ستمنح الحكومة صلاحية غير محدودة بضرب حقوق العمال بما في ذلك الحق بالإضراب .واضح أن مثل هذه النقابات ونقولها بأسف لا تقوم بواجبها بحماية العمال بل هي تحتمي بالحكومات لتحافظ على وجودها.
اشاره أخرى إلى مثل هذه النقابات التي تحتمي بالحكومات، عندما نقرأ بياناتها مهما كانت، نجدها لا تخلو من ذكر "الرئيس" أو "الملك" أو "الوزير" ويأتي هذا الذكر ضمن التهليل والتبجيل لحضرته، آسف "سيادته" وكأن تلك النقابات وقادتها لا تمثل العمال ومصالحهم، بل تمثل الحكومات وسياساتها، أي تحتمي بتلك الحكومات وقادتها.
لاحظنا ذلك ايضًا من قيام كونفدرالية نقابية عربية بإعلان الإضراب احتجاجًا على الغلاء، وبالمقابل أكبر اتحاد نقابي في تلك الدولة أصدر بيان فقط بخصوص تفشي الغلاء، فهل هذا موقف نضالي أم انه موقف رفع عتب لا غير؟ فمن يحمي العمال ومن يحتمي بالمصلحة الحكومية يا ترى؟
نحن نؤكد أن مصلحة أي قائد نقابي يجب أن تكون مصلحة العمال الذين انتخبوه لقيادة نقابتهم وعليه تحمل المسؤولية والقيام بواجبه من أجل حماية العمال وحماية حقوقهم بمجملها من أجر لائق، وسلامة وصحة مهنية وضمان اجتماعي ورفاه وفق ما تنص عليه المعاهدات الدولية والمحلية، كي تكون له شرعية قيادة النقابة أو الاتحاد النقابي، طريق النضال هو حجر الزاوية للنقابات العمالية وليس طريق الاستجداء والسير تحت مظلة الحكومة ووفق سياساتها التي تهدف إلى ضرب حقوق العمال حماية للرأسماليين الذين ترتكز على دعمهم من أجل المحافظة على مصالحهم التي هي معادية للعمال ولحقوقهم.
إضافة تعقيب