يُكثر المراقبون وذوو الشأن من كلا الطرفين، وحتى خارجهما، بوصف اتفاق ما يسمى "غزة وأريحا أولا"، بأنه اتفاق تاريخي، ويؤدي إلى منعطف تاريخي، وما إلى ذلك، وكل ذلك حتى لو علمنا بنص الاتفاق، كما نشر في الصحف، فوراء كل نص تبقى أمور معلقة، والتصريحات الأخيرة المتوالية من كلا الطرفين، تؤكد أنه ما زالت هناك خلافات حول بعض الأمور الأساسية، مثل الفترات الزمنية، وتحديد مناطق عودة اللاجئين. وعلى الرغم من ذلك، فإن التعامل مع "الاتفاق"، يجب أن يكون على أساس مبدئي، أي هل صحيح أن تكون غزة وأريحا أولا؟
منذ أن بدأت المفاوضات في مدريد، كان المسار الفلسطيني واضحا، وحتى بتأييد غالبية الشعب الفلسطيني، إذا أخذنا بعين الاعتبار بأن معارضة الفصائل الفلسطينية التي تشارك في منظمة التحرير، راوحت معارضتها بين الاعتراض وبين حالة الترقب، اعتمادا منها على تصريحات الوفد الفلسطيني المفاوض، وما كان يطالب به.
وكما نذكر، فإن المطالب الفلسطينية في هذه المفاوضات كانت تعالج الأمور الملحّة، والأكثر "سخونة"، مثل قضية القدس المحتلة ومكانتها، وقضية المستوطنات داخل المناطق المحتلة، وحقوق الانسان وغيرها.
إلا أن شيئا من كل هذه الأمور لم يتحقق، وبات الأمر يهدد استمرارية المفاوضات. وتفاجأ الوفد بعد فترة من الزمن، بأن اتفاقا ما قد تم، ألا وهو غزة وأريحا أولا، كمرحلة أولى، وكجزء من المرحلة الأولى والتي هي بحد ذاتها كانت مطلبا من الصعب التنازل عنه.
واستنادا إلى ما ينشر في الصحف، نجد أن في كل مرحلة من المراحل، مرتبطة بفترات زمنية ستؤدي إلى مماطلات من الصعب وضع حد لها، على الرغم من نص الاتفاق، حيث في هذا المجال يوجد اختلاف بين الموقفين الإسرائيلي والفلسطيني، كذلك لا نجد أي دليل على أنه في المفاوضات على المرحلة النهائية والثابتة، سيجري الوصول إلى الحل المنشود للشعب الفلسطيني، ألا وهو إقامة دولته المستقلة في الضفة وقطاع غزة وعاصمتها القدس. وإنما يجري الحديث عن الوصول إلى حل نهائي ثابت، غير واضح، وقد يصيبنا به كما أصابنا مع قراري 242 و338، فكلٌ يفسّره كما يشاء، ولا يوجد أي مانع من تفسير هذا الاتفاق أيضا، في ما بعد بعدة تفسيرات، ونعود إلى نقطة البداية، ومأساة جديدة وكارثة جديدة!
باعتقادي أن مجرد الحديث عن غزة واريحا أولا، يعتبر تنازلا، لأن اعتبار هذا الاتفاق "إنجازا" يؤدي الى اعتبار أي اتفاق آخر انجازا أكبر، وقد نجد أنفسنا أمام وضع كهذا: بأن يعتبر انجاز المرحلة الأولى التي كانت مطلبا، أي حكم ذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة أن تكون المرحلة النهائية! وهذا كافتراض، مع أن أخطار هذا الاتفاق عديدة وكثيرة، وقد أنجح في ذكر بعضها.
من خلال مراجعة تصريحات المسؤولين الإسرائيليين حول هذا الاتفاق، نجد أن رابين يعتبر الاتفاق إنجازا، ويحرره من مأزق الجولان، وذلك بقوله بأن انسحابا جزئيا من غزة أفضل من إخلاء الجولان!! أو مثلا مزاودة بيرس على الليكود، بقوله في الكنيست، بأننا إذا اتفقنا حول أريحا التي تبعد عن القدس 15 دقيقة، فأنتم ستتفقون على بيت لحم التي تبعد 3 دقائق عن القدس.
وهذا التصريحات وغيرها تجعلنا نضع الموقف الإسرائيلي تحت علامة سؤال كبيرة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، تجعلنا قلقين من أي اتفاق، خصوصا وأن الوضع السياسي في إسرائيل لا نستطيع وصفه بالمستقر، وأن أية عودة لليكود إلى الحكم، وهذا أمر متوقع، يجعل مثل هذه الاتفاقات في مهب الريح، وتأتي هذه الفرضية تماما كفرضيات حكام إسرائيل والمعارضين لهم داخل إسرائيل، بأن إسرائيل تريد ضمانات إذا جرى تغيير الحكم في أية دولة عربية بأن لا يؤثر على الاتفاقات المزمع عقدها معها!!
الأمر الآخر بكل ما يتعلق في هذا الاتفاق، لقد كنا شاهدين على أن الاتفاق أقر في إسرائيل من خلال الحكومة، وكان واضحا أن بحثا مستفيضا جرى في جلسة الحكومة قبل إقراره، لكن كيف تم الاتفاق عليه في البيت الفلسطيني، إذا كانت جميع الفصائل الفلسطينية التي تشارك في م.ت.ف. ما عدا "فتح"، تؤكد أنها لم تطلع على مسودة الاتفاق، وهذا استنادا إلى بيانات الجبهتين الشعبية والدمقراطية وتصريحات غسان الخطيب (حزب الشعب الفلسطيني- "الاتحاد" الثلاثاء 31/8/1993)، وغيرها من التصريحات والبيانات.
فلماذا يجري التعامل مع الاتفاق من قبل منظمة التحرير كأنه قد أقر؟ وهنا يطرح سؤال آخر: هل هناك غالبية داخل منظمة التحرير تقبل بمثل هذا الاتفاق؟ وهل "فتح" هي غالبية الشعب الفلسطيني؟ إذا كان لا مفر من مثل هذا الاتفاق، فليخضع إلى استفتاء شعبي، كما طرح زعيم الجبهة الشعبية، الدكتور جورج حبش، وليكن هذا الاستفتاء تحت مراقبة الأمم المتحدة.
إن تجزئة المرحلة الأولى أمر مرفوض، فالمرحلة الأولى يجب أن تكون وحدة واحدة، وتشمل الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأن "غزة وأريحا أولا" تأتي تحت بند التنازلات المستمرة من الفلسطينيين، والتي مقابلها لا نلمس أي تنازل إسرائيلي جدي، سوى إطلاق سراح بعض المعتقلين الذين قاربت محكوميتهم على الانتهاء، أو بعض التسهيلات في المناطق المحتلة.. وما شابه.
برأيي أن سياسة الأمر الواقع استفحلت وأوصلتنا وستوصلنا إلى مآس أكثر مما نحن فيه، والحل الطبيعي في مثل هذه الظروف، هو إعادة كافة الأوراق إلى ما كانت عليه في بداية مسار مدريد، وإذا كان الطرح غزة واريحا أولا، فإن الطرح المقابل والطبيعي، القدس أولا، والمستوطنات السرطانية أولا، وممارسات جيش الاحتلال الاجرامية أولا. ترتيب أوراقنا داخل البيت الفلسطيني، أولا، وتنظيف بيتنا أولا، وإزالة كافة الشوائب من حول منظمة التحرير الفلسطينية أولا.. وأولا... وأولا...
صورة من أرشيف "الاتحاد"، 5 أيلول 1993
إضافة تعقيب