الناظر من الخارج الى عملية الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية، لن يرى جدَلا عاما واحدا حول مجموعة قضايا مشتركة ذات أولوية تشغل وتهم مجتمع المواطنين بأكملهم. فهناك قطاعات وأوساط وحلبات مختلفة، لدرجة انعدام أية تقاطعات أحيانًا تقريبًا بين النقاشات الظاهرة الدائرة في داخلها.
مثلا، ما هو المشترك بين القضايا التي يتناقش حولها مجتمع الحريديين وتلك التي يتناولها المجتمع العربي الفلسطيني في اسرائيل؟ استدراكا أقول، أولا، بالرغم من هشاشة القاسم المشترك فالقضايا تتقاطع بالضرورة في العمق، إذ يدور الصراع السياسي في النهاية حول حاجات وقيم محددة معدودة وليست كثيرة، بالمناسبة، وهي متعلقة بمستوى ضمان المساواة والعدل والحريات بين مركبات المجتمع، فرديا وجماعيا، ومستوى تطور وتطبيق هذه القيم. جميع النقاشات هي تمظهرات لها.
إن قضايا النقاش العينية مرتبطة عادة بما هو ناقص من تطبيقات لتلك القيم. وهذا نقص بمسؤولية السلطة المركزية. وفي إسرائيل يجب الإضافة: هذا أيضًا بمسؤولية البُنى العقائدية القومجيّة المتعصّبة المتأصلة في الحكم، التي يجملها مفهوم: الصهيونية. وهكذا، فلن يناقش مجتمع البلدات اليهودية القوية اقتصاديًا أية حالة "غيتو" سببها ضيق المسطحات ومناطق النفوذ البلدية وضآلة المساحات المخصصة للسكن أو العمل أو المرافق العامة. هؤلاء سيشغلهم ما يرتبط بتحسين جودة الحياة، وليس مطلب توفير الأرضية الأوليّة والبنية التحتية الأساسية لأولى مقومات الحياة الاجتماعية المدنية: مكان سكن وإطار تعليم ومحل عمل وخدمة صحية وبيئة نظيفة ماديا ومعنويا؛ نظيفة من التلوّث ونظيفة من العنف - وهذه الأخيرة هي ما يشغل جميع المواطنين العرب في كل بلدة وحيّ دون استثناء بالمرة.
فحتى من يتمتع بين العرب بسكن لائق وعمل ملائم ومدرسة حديثة وتأمين صحي مع أفضليات، لن تستثنيه بالمرّة هيمنة العنف والجريمة. ولن تتجاوزه أبدًا حالة الحصار المادّي المنعكسة في الاختناقات المرورية وفي العصبيّة والإحباط والضيق العام المحسوس عند كل منعطف وموقف. ذلك لأن هذه المسائل مترابطة معًا ومشتقة من عنصر مادي محدد له اسم هو: الأرض. تلك التي تتوفّر الراحة بتوفّرها ويعمّ الضيق المادي والشعوري والمعنوي بانعدامها – وهذه ليس مسألة مبنية للمجهول، فسبب انعدامها هو المصادرة والنهب والخنق، الذي تقوم به السلطة المركزية الإسرائيلية بقصد وتخطيط وعن سابق إصرار وترصّد، كجريمة القتل العَمد.
العنف والجريمة ليسا مسألة جينيّة. من يقول إن الجريمة سببها عنف متأصّل لدى العرب، هو نازي 100%. ما الفرق بينه وبين الألماني الذي قال مرة إن هناك صفة جشع مادي طفيلي مشتركة لكل اليهود؟ لا فرق. أدبيّات العلوم الاجتماعية التي تلاحظ وتثبت الرابط المباشر بين الخنق المادي/الحيّزي وبين اندلاع التوتّر والعنف، تملأ رفوف المكتبات الأكاديمية. والرابط بين البطالة والفقر وبين تفاقم الجريمة هو بمثابة قانون حديديّ. ألن تتلبّد شحنات التوتّر والعنف في واقع مكتظّ معماريًا وإسكانيًا ومروريًا وبكل ما هو حيّزي، كحال بلداتنا؟ وحين يغيب مكان السكن وموقع العمل ومرفق الترفيه والمساحة الخضراء أو المفتوحة أو المريحة للعين والقلب، ويعمّ البؤس واليأس، فما الذي سينشأ؟ عُصبات فكر وفلسفة وتصوّف وتأمّل، أم عصابات إجرام؟!
لو جُمعت غزلان بريّة وادعة بل كوكبة ملائكة في واقع اكتظاظ خانق يضيق الشهر تلو الشهر، كحال العرب في ظل حُكم إسرائيل، فسوف تسجّل رموز الوداعة والطّهر تلك أيضًا وقائعَ مربكة من العنف في ملفّاتها.
والسؤال: أمام هكذا قضية، وهكذا إفرازات قاتمة وقاتلة لها، على ماذا ستتجادل القوائم المتنافسة في المجتمع العربي فيما هي ماضية الى الانتخابات؟ أية سياسات تطبيقية وحتى نظرية متباينة ستطرحها كل منها؟ أليست الطروحات متماثلة لدى الجميع في هذا الشأن العينيّ، والهائل؟ يجدر بمجتمعنا أن يكون على قدر المسؤولية وألا يسمح لأية جهة باستهباله. قضايانا ومطالبنا واقتراحاتنا وبدائلنا في سياق انتخابات برلمان اسرائيل، واحدة. فليكن معيار المحاسبة هو: التزام كل قائمة وكل حزب بخوض الانتخابات معًا موحّدين لأن هذه هي مصلحة الناس، كل الناس. ولتكسّر بعد ذلك قيادات الأحزاب رأسها في ترتيب المقاعد، ولكن بشرط ألا يستخدم أحد هذا الخلاف للابتزاز والتهديد بالانفصال. كل من لا يلتزم بالوحدة هنا، ومن لا يعلن رسميًا وعمليًا التزامه بها، يجب أن يستحق المحاسبة. من واجب مجتمعنا فرض هيبته ووزنه على من يدّعون تمثيله وعدم الوقوع في فخاخ الأكاذيب والديماغوغيات والجعجعة الفارغة لأيّة جهة كانت.
إضافة تعقيب