متواضعًا في حياته ومتواضعًا في مماته وبعيدًا، عامدًا متعمّدًّا عن الأضواء في الحياة وفي الممات، حيث اختار أن يغادر الدّنيا في يومٍ انشغل فيه النّاس (الّذين أحبّوه انسانًا وشاعرًا وأديبًا ومثقّفًا ملتزمًا) بالحرب المفاجئة مثل ملاك الموت الّذي اختطفه، فأنستهم مجموعاته الشّعريّة العديدة الجميلة ومجموعاته القصّصيّة النّاعمة الصّادقة ومقالاته الهادفة ومواقفه الشّريفة.
فارقنا صديقي الشّاعر الكبير حسين مهنّا حارس الضادّ وعاشق التّراث من دومة الجندل حتى توتة البقيعة، وحافظ أشعار الصّعاليك من السّليك بن السّلكة الى مظّفر النّواب، وخازن النّوادر التّاريخيّة والطّرائف الأدبيّة، صديق الأصفهانيّ وابن عبد ربّه، وناطور اللّغة السّليمة، القابض على الشّدّة والضّمّة والكسرة والفتحة والمدّة والمصّرّ على تزيين حروفه وكلماته وفقراته بها.
أبو راشد حسين مهنّا انسانٌ أتعبته انسانيته الّتي حرص أصغراه في المحافظة عليها، كان معرّيًّا في طعامه وشرابه، لا يأكل اللّحم والدّهن والزّبدة والحليب ومنتوجاته، وصائمًا الى الأبد عن السّمك والعسل والطّيّبات، مكتفيًّا بالنّبات الطّبيعيّ الّذي أعتقد أنّه كان يشفق عليه أيضًا حينما يتناوله.
كان يزورني وزوجته الفاضلة أمّ راشد منيرة الّتي فاق عشقه لها عشقَ شعراء بني عذرة ورجالها فيجلس على كرسيّ مريحٍ يختاره، وعصاه في راحته، فيتحلّق الحضور حوله مستمعين الى حديثه الغنيّ الشّجيّ الهادئ يتنقّل بين الأدب والدّين والفلسفة والتّراث والتّاريخ والسّياسة فيقول لي ابني معاويّة في غداة اللّقاء: صديقك أبو راشد موسوعة لا يملّ المرء من الاستماع اليه والتّمتّع والاستفادة من كلامه.
كان الحسينُ مهنّا نظيفَ اللّسان فلا يغتاب أحدًا من زملائه الأدباء في عصر صارت الغيبة رياضة قوميّة، وكان اذا لام ناقدًا تجاهل أعماله الأدبيّة لا يقسو في اللّوم ولا يظهر زعلًا ولا يبدي غضبًا ولا يفتعل قطيعة معه.
كان شاعرًا كبيرًا ينشر قصيدته في صحيفة "الاتّحاد" بهدوء ويلقيها في المهرجان الشّعريّ بتواضع فلا يزفّها ولا يروّج لها ولا ينتظر تصفيقًا يخجله أو اطراءً يُنبِت الطلّ على محيّاه.
كان يُلقي قصيدته ويمشي ولكنّه يقول كلمته ويقف عندها فلا يجامل صديقًا في موقفٍ سياسيّ أو عملٍ أدبيّ. ولكنّه الشّاعر والأديب الواثق بنفسه الصّادق معها، الشّجاع في رأيه الّذي يتّصل بزميله معبرًّا عن اعجابه بقصيدته أو بقصّته أو بمقاله في زمنٍ نبخلُ فيه بكلمة إطراءٍ لزميل أو صديق.
خسرتك يا صديقي وأخي ورفيقي في الإفطار الرّمضانيّ حيث اعتدنا أن نلتقي كلّ عام. ولا أدري إذا ما عشتُ كيف سيكون الإفطار الرّمضانيّ في العام القادم.
خسرت صديقًا وفيًّا، وخسرنا انسانًا كبيرًا، وخسرت لغتنا وأدبنا العربيّ الفلسطينيّ شاعرًا أديبًا كبيرًا.
رحمك الله أبا راشد.
محمّد علي طه
إضافة تعقيب