في كتابه "دولة اليهود"، الصادر في سنة 1896، أقام تيودور هرتزل مقارنة ما بين مميزات اختيار الأرجنتين أو فلسطين موقعاً لإقامة دولة اليهود؛ ولدى عرضه ما تتمتع به فلسطين من مميزات، كتب: "سنشكّل [هناك] بالنسبة لأوروبا قطعة من المتراس ضد آسيا، وسنكون الحارس المتقدم للحضارة ضد البربرية". وعلى خطى مؤسس الحركة الصهيونية، رأى بنيامين نتنياهو بعد 128 عاماً على صدور كتاب "دولة اليهود"، في الخطاب الذي ألقاه في 24 تموز/يوليو الجاري أمام الكونغرس الأميركي، أن الصراع في الشرق الأوسط ليس صراع حضارات بل هو "صراع بين الحضارة والبربرية"، وخاطب المشرعين الأميركيين بقوله: "في الشرق الأوسط، يتحدى محور الإرهاب الإيراني الولايات المتحدة وإسرائيل وأصدقاءنا العرب؛ هذا ليس صراع حضارات، بل صراع بين الحضارة والبربرية".
"انتصار إسرائيل يعني انتصار أميركا"
في هذا الصراع، و"لكي تنتصر قوى الحضارة، يجب أن تقف أميركا وإسرائيل جنباً إلى جنب"، كما أوضح رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية، وأضاف: "أن انتصار إسرائيل سيكون أيضاً انتصاراً للولايات المتحدة؛ فنحن لا نحمي أنفسنا فقط، بل نحن نحميكم كذلك، وأعداؤنا هم أعداؤكم، ومعركتنا هي معركتكم، ونصرنا سيكون انتصاركم". وبغية ضمان هذا "الانتصار" دعا بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة إلى تقديم المزيد من المساعدات العسكرية، وقال، في انتقاد ضمني لإدارة الرئيس جو بايدن التي عطلت لفترة قصيرة إرسال بعض القنابل الثقيلة إلى إسرائيل: "إن تسريع المساعدات العسكرية الأميركية يمكن أن يساهم بشكل كبير في إنهاء الحرب في غزة ويساعد في منع نشوب صراع أوسع في الشرق الأوسط". كما دعاها إلى "تشكيل تحالف أمني في الشرق الأوسط لمواجهة التهديد الإيراني المتنامي"، على أن تدعى إلى هذا التحالف "جميع الدول [العربية] التي هي في سلام مع إسرائيل، وتلك التي ستصنع السلام مع إسرائيل"، وهو التحالف الذي تجسد في 14 نيسان/أبريل الماضي، كما أضاف "عندما وقفت الولايات المتحدة على رأس أكثر من 20 دولة عملت مع إسرائيل على اعتراض مئات الصواريخ الإيرانية التي أطلقت ضد إسرائيل"، لافتاً إلى أن هذا التحالف الجديد "سيكون امتداداً طبيعياً لمعاهدات أبراهام" للسلام بين إسرائيل وأربع دول عربية، ويمكن أن يُطلق عليه اسم "تحالف أبراهام".
"اليوم التالي" الإسرائيلي في قطاع غزة
وتحدث بنيامين نتنياهو عن فترة ما بعد الحرب في قطاع غزة، فقفز عن جميع انتقادات الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة، وجماعات حقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية، بل هاجم هذه الأخيرة، ورفض اتهامات القضاء الدولي بأن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في قطاع غزة، وبأنه يُشتبه بارتكابها جريمة إبادة جماعية، وأصر على أن هذا كله "هراء"، وحمّل حركة "حماس" مسؤولية مقتل مدنيين فلسطينيين في الحرب، كما حمّلها مسؤولية بعض مظاهر المجاعة، وأكد مجدداً أنه لن يرضى "بأقل من النصر الكامل" في الحرب. وعن تصوّره لمستقبل قطاع غزة بعد نهاية الحرب، قال إن إسرائيل لا ترغب في "إعادة احتلال" الأراضي الفلسطينية، ودعا إلى "نزع السلاح والتطرف" في غزة، بدعم من "إدارة مدنية يقودها فلسطينيون لا يسعون إلى تدمير إسرائيل". لكنه أوضح أنه "في المستقبل القريب، سنحتاج إلى الحفاظ على سيطرة أمنية شاملة هناك من أجل منع تجدد العنف وضمان ألا تشكل غزة تهديداً لإسرائيل مرة أخرى".وعن صفقة التبادل التي يجري التباحث حولها حالياً، قال إنه "واثق من نتيجة المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن"؛ وبينما من المتوقع أن يناقش الرئيس جو بايدن معه، خلال لقائهما يوم 25 تموز/يوليو الجاري، "الوضع في غزة" و"التقدم نحو وقف إطلاق النار" و"الاتفاق على إطلاق سراح الرهائن"، بحسب البيت الأبيض، أعربت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، عن أسفها لأن رئيس الحكومة الإسرائيلية "المتنازع عليه" لم يقدم "أي تفاصيل حول الكيفية التي يخطط بها لإخراج إسرائيل من المأزق المأساوي الذي وجدت البلاد نفسها فيه"، معتبرة أن خطابه حتى لو "كان انتصاراً" له، إذ هو "حصل على كل ما يهمه"، أي "52 تصفيقاً حاراً" من المشرعين الأميركيين، فإن الإسرائيليين "لم يحصلوا على أي شيء".
الرهان على عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض
لم يكرر بنيامين نتنياهو، هذه المرة، ما فعله في الخطاب الذي ألقاه أمام الكونغرس في سنة 2015، عندما تدخل في السياسة الأميركية، وانتقد الرئيس السابق باراك أوباما وحاول الاعتماد على الكونغرس لثني إدارته عن إبرام اتفاق نووي مع إيران، لكن كان من الواضح أن العلاقات بينه وبين إدارة الرئيس جو بايدن لم تكن على أحسن ما يرام، وهو ما تجلى في تخلف نائبة الرئيس كامالا هاريس عن الاستماع إلى خطابه، "بسبب رحلة لها مقررة مسبقاً"، علماً بأنه كان عليها وفقاً للبروتوكول ان تترأس جلسة الكونغرس، وهو ما دفع متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إلى القول إن الخطاب "أهم من أي فرد"، وكذلك مقاطعة رئيسة مجلس النواب السابقة الديمقراطية نانسي بيلوسي خطاب نتنياهو، فضلاً عن تغيّب عشرات المشرعين الديمقراطيين عن المشاركة في الجلسة. من الصحيح أن رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية شكر الرئيس جو بايدن "على جهوده الدؤوبة من أجل الرهائن"، إلا أنه من الواضح أن رهانه كان على فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر القادم، وعودته إلى البيت الأبيض، إذ هو أشاد بترامب، وقال: أود أن أشكر الرئيس ترامب على كل ما قام به من أجل إسرائيل"، منوهاً بدوره في دعم "السيادة" الإسرائيلية على منطقة الجولان السورية المحتلة، واعترافه بالقدس "عاصمة موحدة" لإسرائيل وقيامه بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ومستنكراً، في الوقت نفسه، محاولة الاغتيال ”الدنيئة“ التي تعرض لها ترامب قبل فترة في بنسلفانيا. ومن المقرر أن يسافر بنيامين نتنياهو، يوم الجمعة في 26 الشهر الجاري، إلى ولاية فلوريدا بدعوة من دونالد ترامب، حيث قال الرجلان إنهما على "علاقة مميزة".
نتنياهو: "أنت غير مرحب بك"
كانت المرة الرابعة، منذ سنة 1996، التي يتوجّه فيها بنيامين نتنياهو بخطاب إلى الكونغرس الأميركي، وهو رقم قياسي بالنسبة لزعيم أجنبي، علماً بأن رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل خاطب الكونغرس ثلاث مرات فقط. غير أن هذه المرة لم تكن كسابقاتها بالنسبة لرئيس حكومة الحرب الإسرائيلية. ففي تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقاً)، كتب السيناتور الديمقراطي اليساري بيرني ساندرز: "نتنياهو أنت غير مرحب بك". وقد قاطع ساندرز، مع نحو 60 نائباً وسيناتوراً جلسة الاستماع إلى خطابه، كان من بينهم ديك دوربين، ثاني أعلى ممثل للحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ، وأعضاء مجلس الشيوخ تيم كاين وجيف ميركلي وبريان شاتز، وجميعهم أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ. وقال السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين: ”بالنسبة لـ (بنيامين نتنياهو)، فإن الأمر كله يتعلق بتعزيز الدعم الذي يحظى به في الداخل [الإسرائيلي]"، وأضاف: "أنا لا أريد أن أكون دعامة سياسية لهذا، وهذا أحد الأسباب التي تجعلني لا أريد حضور الخطاب؛ وهو ليس الحامي الكبير للعلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل". كما أعلن توماس ماسي، العضو الجمهوري في مجلس النواب، أنه لن يحضر خطاب بنيامين نتنياهو، منتقداً هذا الأخير، عبر شبكة التواصل الاجتماعي ”إكس“، لأنه يهدف إلى ”تعزيز موقفه السياسي في إسرائيل وخنق المعارضة الدولية لحربه". بينما صرّح السيناتور الديمقراطي كريس ميرفي، على موقع إكس، بأن خطاب بنيامين نتنياهو "يمثل خطوة إلى الوراء في العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، وكتب: “كان من المفاجئ سماع التقليل من أهمية الأزمة الإنسانية [في غزة]"، وأضاف: "كان من الأفضل لبنيامين نتنياهو أن يستغل هذا الوقت لوضع اللمسات النهائية على اتفاق لإعادة الرهائن إلى الوطن وإنهاء الحرب". وبينما كان بنيامين نتنياهو يلقي خطابه، حملت رشيدة طليب، الأميركية الفلسطينية المنتخبة لعضوية مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، التي حضرت الجلسة وهي ترتدي كوفية، لافتة كتب عليها "مجرم حرب" من جهة، و"مذنب بارتكاب إبادة جماعية" من الجانب الآخر. وفي الوقت نفسه، أضرب عدد من موظفي الكونغرس عن العمل للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة.
وخارج قاعة الكونغرس، تجمع آلاف المتظاهرين للاحتجاج على خطاب بنيامين نتنياهو والمطالبة بوقف إطلاق النار في قطاع غزة. وحثت اللافتات التي حملها المتظاهرون الولايات المتحدة على "وقف المساعدات الأمريكية لإسرائيل"، ووصفت نتنياهو بأنه "مجرم حرب"، و "مجرم مطلوب للعدالة"، في إشارة إلى طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وهتف المتظاهرون، الذين رفع بعضهم الأعلام الفلسطينية، "فلسطين حرة"، وقام عدد منهم بإنزال علم أميركي من على سارية في ساحة محطة واشنطن، بالقرب من مبنى الكونغرس، ووضع علم فلسطين مكانه، كما لاحظ صحفي من وكالة فرانس برس. وقالت كرامة كويمرل، من منظمة أطباء ضد الإبادة الجماعية، لوكالة الصحافة الفرنسية: "نحن هنا لإظهار معارضتنا للمجرم نتنياهو الذي يستقبله في عاصمتنا السياسيون أنفسهم الذين يرسلون له الأسلحة لقتل الأطفال في غزة"، وأضافت: "نحن مرعوبون من تدمير النظام الصحي في غزة". بينما قال "مو" وهو متظاهر، يبلغ من العمر 58 عاماً ولم يرغب في ذكر اسمه بالكامل، للوكالة نفسها: "لقد تجاوز نفاق السياسيين [الأميركيين] الحدود تماماً"، معتبراً أن الدعم الأميركي لإسرائيل سيكون "القضية الأولى" في الانتخابات الرئاسية الأميريكية المقبلة. وفي نهاية التظاهرة، أضرمت مجموعة من المتظاهرين النار في دمية عملاقة لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
وخلال خطابه، وصف بنيامين نتنياهو المتظاهرين ضد الحرب على غزة بأنهم "معادون لإسرائيل"، ويقفون مع "حماس"، و "يجب أن يخجلوا من أنفسهم"، معلناً أن مظاهراتهم "ممولة من إيران، عدو إسرائيل القديم"، ومتهماً المتظاهرين بأنهم "حمقى مفيدون لطهران".
خاتمة
على الرغم من "حفلة التهريج" التي شهدتها قاعة الكونغرس، حيث وقف معظم المشرعين 52 مرة لبنيامين نتنياهو، كما أحصت صحيفة "هآرتس"، وتعبت أيديهم من التصفيق له، فإن بعض وسائل الإعلام رأت أن خطاب بنيامين نتنياهو هو "أسوأ خطاب له على الإطلاق"، وتساءل بعضها: "هل خسر نتنياهو أميركا أخيراً"؟ وأشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية، في هذا السياق، إلى ما ذكره أحد المعجبين برئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو الملياردير إيلون ماسك الذي من "عادته مغازلة الزعماء اليمينيين في البلدان التي تمتلك فيها شركاته المختلفة مصالح تجارية"، مثل الأرجنتين والبرازيل والهند، والذي قال: "ينبغي الاعتراف بأن بنيامين نتنياهو لم يعد مثيراً للجدل فحسب - وهو الأمر الذي اعتاد عليه بالتأكيد – ولكنه أصبح قبل كل شيء مهمشاً بشكل متزايد"، بحيث "بات عليه الاعتياد على كونه شخصية غير مهمة".
إضافة تعقيب