news-details

"فورين أفيرز" عن غزة والشارع العربي: الغضبُ الساطعُ آتٍ!| مارك لينش

بالنسبة لواشنطن؛ على وجه الخصوص؛ فإن كل الاحتجاجات والحشود، وما يتخللها من تعبئة جماهيرية لمناصرة فلسطين، غير مهمة، وبالإمكان السيطرة عليها؛ حتى اللحظة. واشنطن مطمئنة لكون الزعماء العرب لديهم سجل حافل في تجاهل ما تريده شعوبهم، ولديهم خبرة أكثر من سواهم في ممارسة السياسة الواقعية. فلطالما أعلنوا “مناصرتهم” للقضية الفلسطينية، وكانوا يشجعون على تنظيم الأنشطة الجماهيرية التضامنية من منطلق أن السماح للشعب بـ”التنفيس” يجعله يوجه غضبه نحو “عدو أجنبي”، وبالتالي “يتشتت” تركيزه على قضايا أخرى حسَّاسة مثل الفساد وعدم الكفاءة التي تعاني منها مؤسسات دولته. وحجة الأميركيين اليوم؛ كما الكثيرين من زعماء العرب؛ أن الحرب في غزَّة ستنتهي في يوم ما، وأن المحتجين الغاضبين سيعودون إلى منازلهم والإلتهاء بتفاصيل حياتهم اليومية، فيما سيواصل قادتهم السعي وراء مصالحهم الذاتية (…).

لدى صُناع السياسة الخارجية في واشنطن أيضاً تاريخ طويل من تجاهل الرأي العام في الشرق الأوسط. وبالمناسبة، هم يستخدمون مصطلح “الشارع العربي”. لأن “لا عزاء لحرية الرأي” في المنطقة، على حد قناعتهم. فالكلمة الأولى والأخيرة في البلاد العربية هي لـ”الزعماء”، وبالتالي لا أهمية لكل ما يصرخ به الناشطون الغاضبون أو ما يقوله المواطن العادي في استطلاعات الرأي أو وسائل الإعلام. وبما أنه لا توجد ديموقراطيات في الشرق الأوسط (بحسب الأميركي)، فلا داعي للاهتمام بما يفكر فيه أي شخص من خارج السلطة. تفضل واشنطن دائماً التعامل مع “المستبدين البراغماتيين”، ولا ترتاح أبداً في التعامل مع الجماهير التي تعتبرهم “غوغائيين متطرفين وغير عقلانيين”. هذا ما ما فعلته طوال تاريخها في الشرق الأوسط. وكل إدعاءاتها عن الديموقراطية وحقوق الإنسان تبقى “أقوالاً”، مهما تضخم سجلها الكئيب الحافل بالإخفاقات.

وبرغم عقود من الحراك الجماهيري المؤيد للفلسطينيين والاحتجاجات المنددة بالإعتداءات الإسرائيلية في غزَّة والضفة الغربية، حافظت دولتا الأردن ومصر على معاهدات السلام مع إسرائيل، وكل غضب الجماهير العربية لم يمنع نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس (14 أيار/مايو 2018)، وكذلك لم يوقف القصف على اليمن (من قبل تحالف عربي-أميركي). على العكس تماماً. صارت واشنطن راضية عن ذاتها أكثر. صحيح أن قناعتها ربما اهتزت قليلاً- ولفترة وجيزة جداً- عندما اندلعت “انتفاضات عام 2011″، لكنها سُرعان ما استعادت كامل قوتها بمجرد أن استعادت الأنظمة الاستبدادية السيطرة.

يبدو أن هذا ما تراهن عليه واشنطن، ومعظم المحللين السياسيين، هذه المرة أيضاً: الحرب على غزَّة ستنتهي، الجماهير ستنفضّ وتنسى غضبها إلى حين، والمياه ستعود إلى مجاريها في ما يخص السياسة الإقليمية. لكنها افتراضات و”مراهنات” خاسرة وتنمُّ عن سوء فهم فظيع للأهمية التي بات الرأي العام العربي يُشكّلها، وهي أيضاً قراءة خاطئة للواقع في الشرق الأوسط الذي تغيّر كثيراً في العقد الأخير.

 

لا دخان من دون نار

 

يستخدم صُناع السياسات مصطلح “الشارع العربي” لإختزال الرأي العام الإقليمي إلى مجرد “صُراخ” الغوغاء غير العقلانيين، والعدائيين، والعاطفيين الذين يمكن استرضاؤهم- أو قمعهم- بسهولة (…).

بلغ مفهوم “الشارع العربي” ذروته خلال ما يُسمى عند الغرب بـ”الحرب الباردة العربية”، في خمسينيات القرن الماضي، عندما نجح الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر بتعبئة الجماهير العربية حول الوحدة والقومية وتحرير فلسطين. مشاهد الآلاف المؤلفة من المتظاهرين الغاضبين وهم يملأون شوارع العواصم العربية ويُردّدون شعارات عبد الناصر، أثارت اهتمام صُناع القرار السياسي في عواصم الغرب. وخلصت واشنطن؛ على وجه الخصوص؛ إلى أن “الشارع العربي بات خطيراً”، وأكثر ما أقلق الأميركيين في ذلك الحين كان أن يستغل السوفييت الوضع لصالحهم، “وبالتالي وجبت السيطرة على هذا الشارع، ولو بالقوة” (…). لقد كان من الأسهل دائماً رفض الدعم العربي للقضية الفلسطينية باعتباره “معاداة للسامية” أو التنديد برفض السياسات الأميركية بدلاً من أخذ أسباب غضب الجماهير العربية على محمل الجد وايجاد طرق فعَّالة لمعالجتها.

في التسعينيات الماضية، وما تلاها، تغيّرت فكرة “الشارع العربي” إلى حد ما بفضل القنوات العربية  الفضائية التي ساهمت في إعادة تشكّيل الرأي العام العربي. كذلك ساهمت استطلاعات الرأي المنهجية والعلمية في إيضاح الاختلافات الوطنية والمواقف المتغيرة بحسب الأحداث، والتقييمات المتطورة للظروف السياسية. وسمحت وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة واسعة من الأصوات بكسر سطوة الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وتحطيم الصور النمطية التي يبثها. فبعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بذلت واشنطن جهداً كبيراً لشن “حرب أفكار”، بهدف مكافحة “الأفكار المتطرفة والإسلامية”؛ على حد قولها؛ وهو نهج مضلّل إلى أقصى الحدود، وتطلب استثمارات كبيرة في أبحاث المسح ووسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعي الناشئة. بعد ذلك، حطَّمت انتفاضات عام 2011 الشعور العام بالرضا عن استقرار الحُكام المستبدين في المنطقة، وأظهرت أن أصوات الناس يجب أن تُسمع وتؤخذ بالاعتبار.

 

مستبدون يهتزون.. وينجون

 

الدروس المستخلصة من نتائج انتفاضات 2011 كانت مختلطة. وكل ما أثبتته هو أن استقرار أنظمة المنطقة كان في الغالب “أسطورة”. فللحظة وجيزة جداً تراءى لواشنطن أنه عليها البدء بالإصغاء للرأي العام العربي والتوقف عن الإذعان لما يقوله الحُكام. كان من الواضح أن ما حدث في 2011 لم يكن مجرد “ثوران شارع عربي طائش”. فالشباب الثوريون؛ بمن فيهم الإسلاميون؛ تحدثوا بلغة الحرية والديموقراطية ووجهوا انتقادات حاسمة ومدروسة ضد حُكامهم. وهذا ما جعل حكومات الغرب تتسابق على جذب قادة هؤلاء الثوريين وإغرائهم ببرامج “ديموقراطية” وسياسة “أكثر انفتاحاً”.

لكن سُرعان ما همدت حماسة تلك الحكومات، وتلاشت وعودها ، ولم تعد منجذبة لـ”الثوار” بمجرد أن استعادت الأنظمة العربية السيطرة (بعد الانقلابات العسكرية، والهندسات السياسية، وأعمال القمع). الذي حصل هو أن “المستبدين” في المنطقة ساعدوا أقرانهم المستبدين على استعادة قوتهم وسلطانهم، بينما وقف الغرب ببساطة يتفرج على تفاقم القمع الذي بلغ مستويات فاقت ما كانت عليه قبل 2011 (…).

مع تمركز الاستبداد “المُستحدث”، سُرعان ما استعادت السياسة الخارجية الغربية نموذجها القديم: التعاون مع النُخب الاستبدادية وتجاهل آراء الجماهير. ولا يمكن أن يكون هناك مثالٌ على ذلك أكثر وضوحاً من سياسة أميركا تجاه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فمنذ العام 1991، وحتى وقت قريب، لعبت واشنطن دور “الوسيط” و”راعي عملية السلام” من منطلق أن “مساعدة” الفلسطينيين يمنح تفوقها في المنطقة مزيداً من “الشرعية”. ومع ذلك، تجاهلت إدارة الرئيس دونالد ترامب ببساطة الرأي العام الفلسطيني والعربي، ومضت في صفقات “اتفاقيات أبراهام”، وتم تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب من دون أي اعتبار للحقوق الفلسطينية أو أي اهتمام بحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

ثم جاء الرئيس جو بايدن وتبنى نهج سلفه تجاه الشرق الأوسط بحذافيره، ضارباً عرض الحائط كل الوعود والشعارات التي أطلقها في حملته الانتخابية عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. حتى وعيده بـ”معاقبة” السعودية” وجعلها “منبوذة” صار في خبر كان، وحلَّ مكانه إصرارٌ يائس على تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب دون أي اهتمام يُذكر بالقضية الفلسطينية (…)، وفي خضم استفزازات غير مسبوقة من قبل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، وبرغم الاستياء الجماهيري من التطبيع، والتحذيرات المتعددة من انفجار وشيك في غزَّة.. تجاهلت واشنطن كل ذلك على اعتبار أن حلفاءها “المستبدين” سيسيطرون على الوضع.

لكن واشنطن مخطئة جداً هذه المرة. لا يمكن تجاهل أي رأي عام، حتى في الشرق الأوسط (…). ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مثلاً، سيعقد صفقة مع إسرائيل فقط إذا اعتقد أنها ستخدم مصالح مملكته، وضمان رد فعل شعبه. لكن بن سلمان؛ وغيره من القادة العرب؛ يهتمون أيضاً بما قد يؤدي إلى الإطاحة بهم، وهذا يتطلب الانتباه إلى مصادر السخط المحتملة والعمل على تفاديها، وأهمها القضية الفلسطينية لمكانتها في وجدان الشعوب العربية برغم مواقف حكامهم.

 

رد الفعل العكسي

اليوم، من الواضح أن افتراض واشنطن بإمكانية تجاهل الرأي العام العربي بشأن فلسطين كان خاطئاً (…). إن مستوى التعبئة والغضب الشعبيين بسبب غزَّة يتجاوز ما سببه الغزو الأميركي للعراق، ومن الواضح أنه يؤثر اليوم على أنظمة المنطقة أكثر بكثير (مصر، الشريك الوثيق لأميركا، هدَّدت بتجميد اتفاقية “كامب ديفيد” إذا غزَت إسرائيل رفح أو طردت الغزَّيين إلى سيناء).

كذلك توحدت وسائل الإعلام العربية؛ إلى حد ما؛ في الدفاع عن غزَّة، بعدما كانت مجزأة ومُستقطبة سياسياً بشأن حروب إقليمية أخرى (…). وباتت الصور ومقاطع الفيديو الصادرة من غزَّة تطغى على الدعاية التي تقدمها إسرائيل وأميركا وتتجاوز بسهولة التغطية الخافتة التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية (…).

لقد دأب الناشطون والمثقفون العرب على تطوير حجج قوية حول طبيعة الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، دخلت في الخطاب الغربي. الدعوى القضائية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل جعلت العديد من هذه الحجج متداولة في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وحتى داخل المنظمات الدولية. إن حرب الأفكار التي شنَّتها واشنطن في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، بدعوى نشر الحرية والديموقراطية، قد عكست مسارها. اليوم أصبحت واشنطن في موقف دفاعي بسبب نفاقها في المطالبة بإدانة ما تسميه “هجمات إرهابية” ترتكبها روسيا في أوكرانيا في وقت تقدم كل الدعم لإسرائيل لترتكب أبشع أنواع جرائم الإبادة والتدمير بحق أهالي غزَّة.

 

على فوهة بركان

يحدث كل هذا في عصر يتسم بتراجع تفوق الولايات المتحدة وتزايد استقلال القوى الإقليمية عنها. فقد بدأت بعض الدول العربية في إدارة أجنداتها الإقليمية الخاصة وبناء علاقات استراتيجية مع قوى عُظمى أخرى (الصين وروسيا) بمعزل عن السياسة الأميركية. بوادر هذا التحدي بدأ في العقد الماضي، وتحديداً عندما تجاهلت دول الخليج السياسات الأميركية تجاه التحول الديموقراطي في مصر، وأرسلت أسلحة إلى سوريا، ومارست الضغط ضد الاتفاق النووي مع إيران. وأصبح أكثر وضوحاً بعد الحرب الروسية الأوكرانية، مع رفض معظم أنظمة الشرق الأوسط التصويت لمصلحة واشنطن ضد موسكو، ورفض الرياض الإنصياع للرغبات الأميركية بخصوص أسعار النفط وتأسيس “أوبك بلاس”.

إن الدعم اللامحدود وغير المشروط الذي تقدمه واشنطن اليوم لإسرائيل في حربها على غزَّة ( شحنات الأسلحة والذخائر، وإستخدام حق النقض 5 مرات في مجلس الأمن لإسقاط قرار وقف إطلاق النار) جعل العداء الطويل الأمد للسياسة الأميركية يصل إلى ذروته، ويثير أزمة شرعية تهدد كل صرح التفوق التاريخي للولايات المتحدة في المنطقة. يصعب تقدير كم يلوم العرب واشنطن بسبب مسؤوليتها المباشرة في كل ما يحدث لغزَّة (…). أميركا تدافع عن إسرائيل لذات الأفعال التي بسببها أدانت روسيا وسوريا (…).

لا يزال البيت الأبيض يتصرف وكأن لا أهمية بالمطلق لكل ما يحدث في غزَّة والشارع العربي! وكأن الأنظمة العربية مُستدامة، والغضب سيتلاشى أو سيُعاد توجيهه نحو قضايا أخرى. وأن واشنطن ستواصل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية قريباً (…). لكن هذه المرة ستكون النتائج مختلفة.

إن الفشل الذريع في إدارة حرب غزَّة؛ والذي يتزامن مع تحولات إقليمية ودولية جادَّة؛ يُظهر مدى ضآلة ما تعلمته واشنطن من سجلها الطويل من الإخفاقات السياسية. إن طبيعة ودرجة الغضب الشعبي، وتراجع التفوق الأميركي وانهيار شرعيته، وجعل الأنظمة العربية أولوياتها في بقائها، كلها تشير إلى أنه إذا أصرت واشنطن على تجاهل الرأي العام العربي فستقضي حتى على خططها لليوم التالي من حرب غزَّة.

* مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن. ترجمت المقال بتصرف عن “فورين أفيرز“ منى فر موقع بوست180

 

في الصورة: أطفال يلعبون بين أنقاض منازل مدمرة في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة يوم 30 نيسان 2024. (شينخوا)

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب