اثار البورتريه الشخصي للملك تشارلس الثالث والذي كُشف عنه في حفل رسمي قبل بضعة أسابيع لغطا كبيرا.
لكل صورة شخصية لأفراد العائلة المالكة وعلى وجه الخصوص الملك الواقف على سدة الحكم ابعاد تتجاوز شخصيته الفانية. انها أداة سلطة وحكم كسائر أدوات السلطة والحكم. وفيها تتشخص الدولة ويعمم المُلك؛ تتخذ الدولة حضورها في البورتريه الشخصي للملك الذي يُعمم هو بدوره ليصير الدولة. ومنذ القرن السادس عشر على أقل تقدير لجأت العائلة المالكة البريطانية الى الصور الشخصية لتقديم عرض إيجابي وموثوق تؤكد من خلاله ديمومة السلطة واستمرارها. وابتداء من بورتريه هنري الثامن ثيودور لهانس هولباين الابن دأبت العائلات المالكة على تأكيد حضورها من خلال هذه اللوحات.
لنتوقف قليلا عند بورتريه هنري الثامن (1491-1547) من عام 1537، هذه اللوحة الشخصية التي رسمها الفنان السويسري الألماني هانز هولباين الأبن هي اللوحة الأكثر شهرة لهنري الثامن ولرسومات الملوك الشخصية على الإطلاق، لكنها الكذبة الأكبر أيضا، إذ يقدم لنا الملك الإنجليزي سيء السمعة بصورة القائد الأسطوري المهيب، الرجولي الواثق والمتحفز، محتلا الحيز الذي يقف عليه بالكامل، لكنه كان عندها في أسوأ حالاته الجسدية والنفسية ينوء تحت ثقل تراجع نفوذه السياسي نظرا لعدم وجود وريث ذكر له، خصوصا. إن هذا العمل الفني ما هو في نهاية المطاف الا عمل دعائي بارع.
لنتمعن قليلا في اللوحة. كان هنري الثامن عندها في عامه الرابع والأربعين وهو الرجل المزواج والخارج قبل زمن ليس بالبعيد من زواج لم يثمر بتقديم الحفيد الذكر المنتظر وريثا شرعيا. لكنه أيضا في الفترة التي لم يكد يخرج فيها من صراعه الديني والسياسي مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية وانشقاقه عنها والتي لم تجز له طلاقه من زوجته الأولى ليتزوج وصيفتها وعشيقته المتمنعة والمرجوة، آن بولين زوجته لاحقا. سيتم اعدام آن بولين لاحقا. ستثار في هذه الفترة تساؤلات حول خصوبة الملك الذي لم يعرف ما الذي عليه اتيانه لكي تلد له زوجته صبيا ذكرا. نجد صدى هذه التساؤلات وتعبيراتها في اللوحة. حيث يتم التركيز على منطقة عضو الذكورة وتعظيمها، وإذا لم يكن هذا كافيا فإليك بخنجره المستقيم المركون الى جهته اليسرى، يضاف اليه زوج القفازات في اليد اليمنى العارية، هذه الثلاثية يشار اليها في التقليد الفني الى الثلاثية الفالوسية إشارة الى عضو الذكورة وهو المشكوك بفعاليته في حالة ملك بلا وريث ذكر. وتشير القفزات أيضا الى المعتد الاجتماعي ووضع النبالة والحماية والحظ الجيد 1
إن عينيه الناظرتين اليك تماما وصدره الديكي المنفوخ قليلا وكتفيه المضخمين بالرداء وقامته التي زيد في طولها خصيصا بالإضافة الى علامات السؤدد من اشياء الذهب والالماس التي يعرضها على ثيابه، تريد الإشارة الى الديمومة والصلابة.
لننتقل الآن الى لوحة ملك بريطانيا الحالي المسكين تشارلز الثالث، وتفصلنا بين اللوحة التي استعرضناها أولا وهذه اللوحة قرابة ستمائة عام، تسيدت فيها بريطانيا العالم بشمس لا تغيب عن أراضيها. أنهار من الدماء سالت والوف مؤلفة من الحيوات اهرقت وعذاب والم واستعباد نسج لها ثوبها الذي تتمخطر به حتى يومنا هذا.
أراد الفنان البريطاني جوناثان يو إضفاء الطابع المعاصر لبورتريه تشارلز الثالث كما قد صرح في الصحافة المرئية والمكتوبة2.
يظهر الملك شاخصا الى الامام مرتديا زي حرس ويلز الأحمر في وسط لجة حمراء تشتد قتامتها أحيانا وترتخي أحيانا وتضرب انحاءها بخشونة فرشاة توزع الطلاء الأحمر وكأنها تريد خلق هالة مصطنعة حول صورة الوجه الذي يظل محتفظا رغم هذا بهدوئه. ارتبطت اللوحة لدى بعض ليس بقليل مِن مَن شاهد اللوحة بالنار والدم وأفلام الرعب3. هذه الضربات المتتالية للفرشاة التي توزع الأحمر بعنف على كامل مساحة اللوحة تذكرني بمشهد من فيلم هتشكوك بسيخو، مشهد الجريمة في الحمام مع ان الفيلم ليس ملونا.
غير أن جلالته لا يتمتع والحق يقال بشراسة نظيره هنري الثامن، إذ تفتقد نظرته الثبات وإيحاءها بالفراسة والجَلد. نظرة ملك بريطانيا المعاصر كسيرة حزينة. تفتقر هيئة الملك هنا ثبات القامة وعزة الهيئة اللتين تذعنان لهنري الثامن الحاضر كحصان جَلِدٍ يعلوهما، أما تشارلز المسكين فإنه يحتاج الى فراشة تكاد تحط على كتفه الأيمن لتعطي لحضوره واقعيةً.
يُحضر الفنان الفراشة لان لها وظيفة مُحددة ففي كل لوحة شخصية تشي الاغراض واللوازم التي تضاف الى صورة الشخصية الرئيسية بمعانٍ يريد لها الفاعلون في تنفيذ اللوحة الإفصاح عنها أو الإيحاء بها؛ فالكلب مثلا يحيل الى الوفاء والصداقة. أما الفراشة هنا فوضعت بطلب من موضوع اللوحة للإيحاء باهتمام سعادته الملكي بأمور الحفاظ على البيئة التي يقول انه قد تبناها منذ أمد طويل. ويراد لها أن تضفي على الشخصية إذا معنى معاصرا ومحببا. لكن الفراشة هنا هي من فئة الفراشات الملكية (monarch Butterfly) وفق تصنيفها بين سائر الفراشات، ويتميز هذا النوع بخطوط سوداء متقاطعة تشكل معا اشكالا هندسية على شكل قريب من المثلثات وبحدود خارجية للأجنحة سوداء مع صفين من البقع البيضاء. اتاحت هذه الاشكال الهندسية للجواسيس المتخفين كرسامي الفراشات المتنقلين في البلدان المختلفة ادخال معلومات عسكرية ومعطيات عن توزع الاليات لدى العدو وكان هذا النشاط نشاطا مهما قبل أن تتاح للدول وسائل أكثر تطورا4. وبينما يفسر البعض وجود الفراشة حرفيا، أي لما يحيل اليه مسمى الفراشة من عشق التنقل وسرعة القفز من جميل الى جميل، في إشارة الى قصة المغامرة التي ربطت تشارلز بكاميليا بينما كان وديانا ما زالا زوجين، يريد الرسام ان يشير الى انه اضافها لتدل على التحول وهو ما تتميز به دورة حياة الفراشة من بيضة الى يرقة الى شرنقة ومن ثم فراشة بالغة، وهكذا فاللوحة التي بُدئ برسمها عندما كان تشارلز وليا للعهد اكتملت بتحول تشارلز الى ملك. لكن أيام مجد الفراشة قليلة وحياتها قصيرة، هشة. ولهشاشتها يعتبر اختفاء الفراشات من المناطق التي كانت تتمتع بوجودها مؤشرا هاما وأوليا على ضرر بيئي مستجد في هذه المنطقة. هذه الهشاشة بالذات هي ما تضفيه الفراشة على اللوحة لولي العهد الذي وقف طويلا جدا ينتظر هذا التحول حتى انطفأت حشاشته وغادرته حيويته، فتركته ملقيا وراء ظل ستار جعل بالأحمر القاني.
في الفيديو المتداول5 عن حفل إزالة الستارة عن اللوحة، يقفز الملك حال ازالته الستارة عن اللوحة وقد اصابته هزة هلع سريعة، هل كان هذا بسبب صرخة لون الدم الطاغي المنبعث من اللوحة ام اتقاء أن تلطمه الستارة اثناء سقوطها؟ لكنها ودون شك ضربة معلم يقدمها الرسام دون (ربما) أن يدري. وهي ربما وكما يقرأها البعض ضربة تحت الحزام تشير الى تلك المكالمة التي سُجلت وتم تسريبها وبثها على الملأ لمحادثة قبيل النوم جرت بين جلالته حين كان وليا للعهد وعشيقته كاميليا وكان حينها زوجا لمحبوبة الجمهور الأميرة ديانا، ويعبر جلالته حينها عن رغبته في أن يحل محل التامبون الواقي تدفق دماء حيضها. إنها ودون شك رغبة مرضية مشوهة. وتعرف عن جوناثان يو قدرته الفائقة على تسديد ضربات من هذا القبيل ومثالنا على
هذا لوحته للرئيس الأمريكي الارعن بوش والمصنوعة من قصاصات ورق مجلات البورنو. فهل يهزأ الرسام هنا أيضا كما هزأ سابقا من ادعاءات التفوق الأخلاقي لحكام العالم؟ لكننا كأبناء المستعمرات السابقة لبريطانيا لسنا ضحايا وهم تفوق أخلاقي كهذا أو ذاك لهذا المستعمر أو ذاك، بل إننا ضحايا حقيقيون جرت دماؤهم أنهارا صبغت تاريخ الإمبراطورية، فكيف لا نستطيع إلا أن نرى في هذه اللوحة الحمراء تعبيرا عن الدماء التي ما زالت تغوص فيها بريطانيا سواء كانت عظمى أم لم تكن؟
/شواهد واحالات:
1-Symbolism: A Comprehensive Dictionary Steven Olderr 2d ed. Pp 96-97.
2- https://www.jonathanyeo.com/new-index- 41
3- https://www.vox.com/world-politics/2024/5/17/24159374/king-charles-portrait-colonialism
4- يُنظر في مذكرات هذا الجاسوس البريطاني Baden-Powell My Adventures As A Spy.
5- https://twitter.com/WorldTimesWT/status/1790420354130706928/video/1
حيفا الكرمل - أيار\حزيران 2024
هنري الثامن ثيودور ملك بريطانيا بريشة هانس هولباين الابن 1536-1537:
بورتريه تشارلز الثالث للفنان البريطاني جوناثان يو:
بسيخو، هتشكوك، الجريمة في الحمام:
جورج دبليو بوش 2007 لجوناثان يو:
إضافة تعقيب