news-details

ألسَّبَت الكبير (5) والأخيرة| محمد نفاع

ركدت الرياح بعد العزم والجهد طيلة النهار، ارتاحت إلا بعض النّفْحات الواهنة المولّية الى أماكن أخرى، وفي الأفق الغربي بدأت تتكوم ركومٌ من الغيم الأبيض، تطل من فوق البحر، بتثاقل رزين، مرة أخرى فيها مسارب ودروب، تلال وجبال ومرجات، كالجبال المفجّمة، يعقبها كالعادة والمألوف انهمار شتاء يعوّض النشاف والجفاف الذي تركته الرياح وهي في سورة الغضب والشراسة، ويحلْ الغسق، والعالم يكتسي بحلة سمراء فاتحة، سمرتها حلوة، وأنا أحبّ لحظات الفجر والنهوض وتلك الموجات الهادئة للهجوع والزّوال.

فجأة، اهتزاز ورجفة في القلب، خفق مُثار مع صوت عميق متموج، وتدفق الذكريات، في رمشة عين وومضة فكر تحطُ هناك، في الماضي البعيد، ثم يبدأ يتكون مشوار السنين، والذاكرة مخلصة، أمينة ودقيقة، جريئة لا تعرف اللف والدّوران والمناورة والخداع وهي جوهر خصوصية الإنسان.

في أحد أيام الصيف، والصيف ضيف، قصير، لا تحس كيف حلّ ولا كيف غادر، في بيتنا عدد من أصدقاء أبي، من جيل واحد متقارب، قلطوا السّتين من السّنين، يشتغل الواحد ساعتين في الكروم، يقلع عشبة، يقص فندًا من قلوح الدّوالي المنبسطة على الأرض، حتى تتكشف العناقيد قبالة الشمس، وتحت باطه عبطة من الحشيش والقلوح طعامًا للماشية في الدّار، بعدها يجتمعون، يتحدثون بنشاط مع وقفات من السّكوت والوجوم وسرحان التفكير.

جاء موزع البريد ودلق كومة من الأوراق، مكاتيب ضرائب، أثمان مياه وكهرباء، صحف ومجلات، وموزع البريد رجل في جيل الشباب المودّع، قد يكون في الأربعين أو على الشّط، حرِك نشيط مسرع على الدّوام، وكل واحد يسأله:

  • في مكاتيب!!
  • لأ، اليوم فِش. ويتابع السّير كمن يركض.

واستلام المكاتيب من درجات الوجاهة والمكانة، وبين هذه الأوراق، رسالة بإسمي بخطّ جميل منمّق، قليلة هي الرسائل التي أتلقاها من أشخاص. رحت أقرأها على الشرفة خارج الغرفة المّضافة. مكتوبة بخط جميل متقن وكلمات وحروف صغيرة منمقة، فقط امرأة تتقن ذلك، أكيد.

والرسالة بلا إسم ولا توقيع، فيها إشارة فقط الى اسم البلد، والبلد بعيدة. في سطورها كلمات إطراء ومديح لمجموعة "الأصيلة" أول كتاب صدر لي، ومن منّا لا يرتاح الى الإطراء والمديح، قبلها كنت أتلقى بعض الرسائل بلغة عربية مكسّرة مشقّفة مبعوثة من نتانيا القائمة عند وادي الحوارث، فيها شتائم مقذعة لي ولأسرتي دون استثناء للدين وكل الأنبياء. قد تكون من المخابرات، مع التركيز على الخط السياسي والحزب الشيوعي وجريدة الاتحاد، اكيد انها من هناك. لو يكتبون ذكرياتهم وسيرة حياتهم بصدق!!

في هذه الرسالة كلام روحاني، قد تكون متدينة!! فيها كما رغبتُ أنا ان يكون. أمنية خفيفة مبطنة ذكية للتعارف، صار اليوم أزهى وأجمل، وانشغل الفكر، والأفكار كالغيوم والجبال فيها تعرجات وتموجات، ومسارب ودروب، وهكذا الأيام.

وفي أحد الأيام، وأين!! في المستشفى، واللقاء هناك فيه فأل شَرْ، قد يكون واحد من الرّفقة ونحن نزور مريضا، ذكر إسمي، التقينا برجل وامرأة في عِزّ العمر، نظرت إليّ نظرة استفهام!! قد تكون هي!! على رأسها نقاب أبيض مرشوش على الأكتاف، هل هي متدينة!!

يبدو أننا دُرنا دورات في المشفى، وقفتُ في المدخل، طال الوقت.

  • انت فلان!!

فلان بديل للإسم واللقب، هي تبالغ في تقديري.

  • أيْوه.

ويبدأ التعارف، والهاتف يُسهل التواصل.

في المرة الأولى التقينا في "مصعد" المستشفى، وهذه من حسناته التي أكن اليها الاحترام، دوّنت ما كان في قصة.

شعْر أسود غزير منعوف، منفلت ومتحرّر من أذيال النقاب الملقوح على الرأس كيفما اتفق، وبسمة ترتاح على وجه أبيض ناعم عذب كنسمات الربيع الطرية العبقة، وعنق حي شهيّ فوّاح. كلا، ليست متدينة، لا لثمة تقسو وتخنق الثّغر الباسم، هي عادة، مألوفة، خصلات من الشّعر تسرح وتمرح على الجبين، على الجبهة العريضة الشذية النقية.

عذرًا يا "غي دي موبسان"!! المرأة في رأيه "لا تزال تواصل عملها المهلك، والكائن الضعيف المخطر الذي يكدّر صفو العالم، سرًا وعلانية، وان الله لم يخلق المرأة إلا فتنة للمرء ومحنة، فهو جدير بأن يتقيها كما يتقي الشَّرَك، فلا يدنو منها إلا على حذر، ولعلها أشبه ما تكون بالفخّ حين تبسط ذراعيها وتفتح شفتيها للرجل".

أنت تمزح وتتهكم، ومالي وللقُسُس والرهبان والشيوخ!!

في عصر يوم خريفي، وعند أذيال المدينة المدمّرة العتيقة العريقة، الصابرة المتربصة، وفي حرش من الصنوبر الدّخيل كان اللقاء. وما ذنب الصنوبر والنسمات الطرية تهسهس وتوشوش في أعبابه الشذية، وتنشر صمغه العطر الفواح، لوّذنا في عمق الحُرش المصنّع، بعيدًا عن الطريق، صَدَق قوم الرّوس في مَثلِهم: كلما توغل الحطاب في عمق الغاب تكاثرت لديه الأحطاب.

لكن أي احتطاب هنا اليوم. الصنوبر يفلت خِصَلًا ناعمة بنية، أصحاب الذوق الرفيع منها تحط الرحال على النقاب المهفهف الملقوح، قبل أن أزيحها كما يتطلب اللقاء.

من فرجات الحرش تطل جبال وروابي الجليل الجليل بسنديانها العابس الوقور، وقد عسَتْ ونضجت فُروخُه المولودة في الربيع، وقامت بدورها الملتزم الواجب لرفعه ولرفعته، ومن الشعر الحالك كظهر النمل المجتهد النشيط، ودامس الليل اليانع البهيم في خَلات ووديان وزردات الجبال، راحت تجدل خصلة على شكل سِوار، وخاتما، هدية مطلوبة ومرغوبة، للذكرى. وكم هو بائس يائس الانسان الذي يعيش في قَحْل ومحْلٍ من الذكريات، في مشوار الحياة بحلوها ومُرها. والسعادة في تركيم هذه الذكريات من الطفولة الطرية المنطلقة العفوية الى الكهولة الناضجة الحذرة وحتى الشيخوخة التي يجدر بها أن تظلّ خضراء، لاح السّوار والخاتم متعانقين متضامنين في قلب السّبَت الكبير من خشب الجوز، مخبأ مأمون.

لماذا هذه الوقفة عن اللقاءات، وتواصل الروح!! وفي هذا الجيل!!

ومع لحظات الغَسَق الموحي، وتموج الذكريات، رحت أتهيأ لتركيم ذكريات عذبة.

ضحكت على الهاتف، كتغريدة التركمان، وزغردة الشحرور المقيّل المرتاح في عبْ البطم والسنديان.

  • في هذا الجيل!! وَلَك كْبِرْنا.

منها تعلمت وَلَكْ، وِلِكْ، من هَذيك الأيام، وعلى تموجات صوت فيروز والشحرورة، وناديجْدا مرقس، أعمل على كسح وطرد الكورونا لتنقلع الى غير رجعة، ليتم اللقاء والسلام والكلام بلا كمامات ولا حَكّ الأكواع ولا المحافظة على هذه الأبعاد.

ظلت ضحكتها الربيعية تشغل البال.

  • في هذا الجيل!! ولكْ كبرنا.
  • أيوه. في هذا الجيل

وكيف لا يكون السّبتُ الأسود الكبير من خشب الجوز عزيزًا وعلى قدْ المقام!!

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب