دعاني أخي وصديقي وقريبي مصطفى طه أبو علاء، الأمين العامّ السابق لحزب التجمّع، لحضور المؤتمر الثامن للحزب. كان المؤتمر تظاهرة سياسيّة معنويّة منحتني لحظات من التسامي الروحيّ والسكينة النفسيّة في هذا الخراب الحاصل. سُرّ خاطري بوفد الحزب الشيوعيّ والجبهة يشارك في المؤتمر، يقدّم تحيّة ويدعو لإدارة حوار وطنيّ يؤسّس لشراكة سياسيّة على قاعدة الثوابت الوطنيّة. أسعدني ما رأيت وما سمعت وتوسّمتُ خيرًا.
غير أنّ التوتّرات المتراكمة بين الحزب الشيوعيّ والجبهة من جهة أولى وبين حزب التجمّع من جهة ثانية ما زالت تغذّي خلافات تحتاج إلى حوار عاجل. منها خلاف تكتيكيّ حول التفاعلات الميدانيّة بينهما، وما ترتّب عليها من ممارسات وسلوكياتّ، ومنها خلاف جوهريّ يمسّ التباين العقائديّ في المنظومة الفكريّة السياسيّة. الخلاف الأول باطل والثاني حقّ. الأول مقدور عليه مشروط بصفاء النوايا والسرائر. والثاني حقّ طبيعيّ لكلّ منهما. التوفيق البرلمانيّ بين الحزبين هو مطلب جماهيريّ ومصلحة قوميّة ووطنيّة عُليا وليس شأنًا حزبيًّا في هذه المرحلة المصيريّة. لست عضوًا في لجان الإصلاح، ولا أسعى أصلًا إلى تصالح عقائديّ بين الحزبين. من جانبي، فليصرّ كلّ حزب على فكره ومنهجه. نبض الشارع يتغيّر باستمرار. وهو لن يغفر هذه المرّة أيّ خلاف، حقيقيًّا كان أو مفتعلًا، قد يعطّل هذا التلاقي المنشود بين الحزبين.
أعلم علم يقين، لا علم ظنّ، أنّ وجعًا كثيرًا قد تراكم وازدحم في تجربة التفاعل الميدانيّ بين الحزبين في السنوات الأخيرة. وأعلم أنه وجع حقيقيّ ناشئ عن تفاصيل كثيرة وصعبة. كنت وقتها أنصت إلى هذه التفاصيل الدقيقة بمجموع حواسّي كلّها. واليوم أصغي برهبة إلى حزمة المشاعر المؤلمة التي أفرزتها تلك التجربة بتفاصيلها وتكدّست عليها.. لكنّي احترت وارتبكت وكظمت. ظلّ السؤال الصبيانيّ ينقر ويحفر رأسي بإلحاح: وماذا يفعل البسطاء من الناس بتفاصيلكم وأوجاعكم تلك؟!
لا تستنزفوا كلّ طاقاتنا ولا ترهقوا أعصابنا ولا تهرقوا وقتنا المحدود في ملاسنة تغرقنا في تفاصيل سلوكيّة لا حدّ لها! كلّ مفاوضات تصالحيّة بطبعها تبدأ بتذاكر ما حدث وما أفرزه من وجع. أينما كانت ومتى كانت، هذا هو طبعها. يتذاكر الطرفان ما حصل وما تراكم عليه من مشاعر وانفعالات حقيقيّة أو افتراضيّة. في كلّ مفاوضات محتملة أو مرتقبة بين الحزبين ينبغي أن يتّفق الطرفان على مصداقيّة الحدث التاريخيّ. كلّ مصالحة تنهض بالضرورة على مصارحة. والمصارحة هي مبدأ الكشف عن حقيقة ما حدث فعلًا. والمكاشفة يتبعها إقرارٌ بحقّ. القائد الجماهيريّ القويّ هو هذا الذي يعرف كيف ينحني أمام الحقّ الذي ينهض على الحقيقة. والحديث في هذه المرحلة للطرفين، لكليهما بنفس القدر بالضبط. وأنا أطمئنكم بأنّ لغتنا العربيّة قادرة على توثيق هذا التاريخ، وتبعاته من مكاشفة وإقرار، بألف صيغة وصيغة يرتاح لها ضميرنا الجماهيريّ. اعتباراتكم الحزبيّة الضيّقة لم تعد تهمّ الجماهير العريضة في مرحلة حرجة لا تخلو من خطورة. التحدّيات المرتقبة أكبر من اعتباراتكم الحزبيّة وخلافاتكم!
والتاريخ، الذي نصرّ على تدوينه، هو مسألة مرحليّة موقوتة، عليها تتأسّس سياسات مستقبليّة. لا يحقّ لأحد أن ينفيه أو يقفز عنه أو يتنكّر له مثلما لا يحقّ لأحد أن يتمترس بداخله ويجعله سرديّة وجوديّة مصيريّة يحميها بالنذور القطعيّة كلّ شبر بنذر. أدعو الإخوة في الحزبين لأن يحملوا أوجاعهم في قلوبهم ويأتوا بعقول مفتوحة لحوار موجع. لا يحقّ لأحد أن يصرّ على الوجع معلولًا لعلّة. لا بدّ أن نغيّر المواقع ونصيّره سببًا لانفراج. هو الوجع نفسه الذي يدفعنا إلى البحث عن مخرج دفعًا لا يُقاوَم.
الغاية القصوى لأيّ حزب سياسيّ هي تحصيل أجندات أيديولوجيّة محدّدة. وهذه لا بدّ أن يسبقها تقعيد فكريّ نظريّ مفصّل. ما يعني أنّ كلّ حزب هو بطبعه فعلٌ حواريّ جدليّ بين الأيديولوجيا واستراتيجيّات تحصيلها. وكلّ تقعيد فكريّ أيديولوجيّ لا بدّ أن ينسل من الهويّة الجمعيّة، ينسل ويتناسل. وكلّ استراتيجيّات التحصيل هي مسألة براجماتيّة. والبراجماتيّة هي دالّة شرطيّة تاريخية بالضرورة. الدرس الأول في مادّة "سياسة الهويّة" (Identity Politics) هو النظر إلى الهويّة بوصفها وعيًا غائيًّا ينبعث أصلًا من نزعة البقاء (Survival) بمفهومه السيميائيّ العضويّ الشامل. الهويّة فعل سياسيّ ثقافيّ اجتماعيّ ونزعة البقاء غريزة وطبيعة وفطرة. الهويّة أنتروبولوجيا ونزعة البقاء بيولوجيا.. ومتى كانا على انفصال؟!
ليس هناك اختلاف حول التوليفة الثلاثيّة لهويّتنا الكلّيّة لأنها حقيقة، بعضها موهوب وبعضها مكتسب. ولا ينبغي أن يكون. وهذه التوليفة الثلاثيّة هي الحدّ الأدنى الذي نلتقي عنده كلّنا للبدء بأيّ فعل ميدانيّ جمعيّ. المركّبان القوميّ العربيّ والوطنيّ الفلسطينيّ موهوبان بالفطرة، وُلدنا فيهما ومعهما، ينتقلان جيلًا فجيلًا بالتوريث. المركّب المدنيّ الإسرائيليّ مكتسب بقوّة الظرف التاريخيّ. الاختلاف بين الأحزاب هو في كيفيّة النظر إلى هذه المركّبات وترتيبها في بنية الوعي. اختلافٌ يُفضي إلى خلاف حول استراتيجيّات العمل السياسيّ. الخلاف، في محصّلته النهائيّة، يتحلّق حول الحدود القصوى التي قد يمتدّ إليها الحبل البراجماتيّ الواصل بين الهويّة والممارسة. أول أشراط البراجماتيّة هو العقل وينعكس. أعني أنّ العقل براجماتيّ بطبعه. المشكلة في الأيديولوجيّات السلفيّة القبْليّة، بصرف النظر عن وجهتها الأيديولوجيّة، أنها تموضع العقيدة فوق العقل. العقل هو ما يكتب المعتقد أصلًا وهو ما يُنتج الموقف ويرسّم حدوده وآليّات تحصيله، ولا ينعكس. البراجماتيّة هي أمّ المفاضلة بين المصيبة ونصفها. والمفاضلة في هذه الحالة مساومةٌ أو مفاصلةٌ مباحة. والأصل في كلّ شيء هو الإباحة وليس التحريم. والإباحة التي نعنيها هي حالة تفاوضيّة ضمن حدود ما تُتيحه المحظورات.
والمحظورات السياسيّة، في التعامل المدنيّ مع الدولة الإسرائيليّة، موصولة بالمركّبين القوميّ العربيّ والوطنيّ الفلسطينيّ في هويّتنا الجمعيّة. هذان المركّبان خطّ أحمر أو أسود لا يجوز تجاوزه باسم التقيّة أو التشاؤل أو نصف المصيبة. تجاوزهما تحلّل من الفطرة. وهذه حالة مرَضيّة أُصيب بها بعضهم. لا حاجة لنا بقائمة مشتركة واحدة لا تعرف كيف تنضبط بضوابط الهويّة. لا حاجة لنا بقائمة مشتركة قيمتُها القصوى بعدد أعضائها في الكنيست. نحن في مسيس الحاجة إلى تحالفات تُنعش الهويّة، تمحو عنها غبار السنين الثقيلة وترمّم الوعي بها. ومن لا تسعفه نواياه ومداركه في الالتزام بهذا الشرط لا يستطيع أن يكون شريكًا في أيّ نضال سياسيّ. منّا من يصرّ على قطع الحبل بينه وبين هويّته العروبيّة والفلسطينيّة، ويصرّ على استبدال الذي هو خير بالذي هو أدنى وأخسّ، بكامل وعيه المنقوص والمقصور يصرّ. من يفعل ذلك عدوانًا فسوف يلقى صدودًا وهجرانًا. واجب القادة السياسيّين الارتقاء بالوعي الجماهيريّ إلى مستوى التحدّيات، التي قد تغيب عن عامّة الناس وهم في كبدٍ يسعون إلى لقمة العيش. على أساس هذا الفهم، أو ما يشبهه، ينبغي أن يتّكئ الحوار بين الحزب الشيوعيّ وبين التجمّع. أعني ترسيم انتمائنا القوميّ والوطنيّ بالخطّ الأحمر وما بعده تأتي الإباحة التي يعقلها منطق المفاصلة وتجيزها المفاضلة بين المصيبة ونصفها. وهذه كلّها من شروط العمل البرلمانيّ الذي قبلنا أن نكون جزءًا منه.
إضافة تعقيب