عبد الناصر صالح صوت متميّز في خارطة شعرنا المحلي، فهو يقسو على نفسه ويتعبها ليبدع ـ في كل مرة ـ جديداً شعرياً متميزاً عن العمل السابق، فيحافظ، بهذا، على تميّزه عن أقرانه من شعرائنا المحليين، بامتلاكه خصوصية التطوير والتجديد والإيقاع المناسب لموضوعه.
وعبد الناصر صالح يمدّد خارطته الشعرية وفق معايير نفسية وشعورية تناسب المرحلة الإبداعية، وهو حاذق في عمله، عالم ببواطن أمور عمليته الإبداعية. وإذا كان قد أصدر " خارطة للفرح " و" المجد ينحني أمامكم " في مطلع الانتفاضة وخلالها؛ فإنه أردف هذين الديوانين بمطولته الشعرية "نشيد البحر" التي جاءت إثماراً جديداً ومنطقياً لنموّه الشعري وتطور أداته الفنية واتساع عالمه الشعري ضمن أفق عام واسع.
ومنذ البداية، العنوان ـ اختار البحر ليعبر عن الاتساع والامتداد والشمول والحياة، فالبحر زاهر بالحياة، متعدد المكونات، واسع الإيحاءات والدلالات، وقد تنبّه الشاعر حافظ إبراهيم "شاعر النيل" إلى أهمية البحر، فقال: أنا البحر في أحشائه الدرّ كامنٌ ـ مشبهاً اللغة العربية بالبحر ذي المخزون الهائل والثمين.
فماذا يعني البحر لدى عبد الناصر صالح؟ ولماذا اختار البحر تحديداً لمطولته التي اسماها "نشيد البحر"؟ ولماذا العودة إلى البحر الآن، ونحن لا نملك حديثاً بحراً بعدما حوصر بحرنا وسُلب منا؟ فهل هو تأكيد على امتلاك التراث البحري واستمراره رغم الواقع القاسي ؟ أم هو هروب إلى البحر بشكل وتقليدٍ رومانسيين ؟.
يقطع الشاعر عبد الناصر صالح تدفق الأسئلة وتداعيها بتوضيح حاد ساقه بطريقتين: الإهداء والاقتباس، فهو يهدي مطولته "إلى الذين جابوا عُباب البحر حتى أصبح البحر نشيدهم"، ويقتبس من كولريدج قوله: "وحدي / وحدي تماماً / في هذا البحر الواسع"؛ فالبحر، في الإهداء، هو البحر الحقيقي المعروف، وهو، في الاقتباس، مجازي يعني العالم المتلاطم والمتصارع، ففي أي البحرين يبحر فينا الشاعر؟
البحر في ذاكرتنا الماضية بأنه منهل للحياة من خلال الصيد والانتقال عبره إلى العالم، وهو محفّز على الاستبسال عند طارق بن زياد، وهو ملهم الشعراء أيضاً، فلنحمل هذه الذكريات ولنبحر في بحر الشاعر.
هوية:
يعرّف الشاعر بحره بأنه "بوابة الماء والملح (الحياة)"، وإنه "آخر ما تستطيع الوصول إليه عيون الغزاة، وأول ما تستطيع الدخول إليه النوارس والباخرات التي تتزيّن بالأخضر الثرّ والألوية". وهو "لون البلاد المقدس" (ص11) ، فالبحر، هنا، إنسان يمتلك صفات البحر: العطاء والجمال والمنعة والحب. وفي الصفحة التالية لهذا التعريف (ص12)، يعود البحر إلى صورته المعروفة، ويعود الشاعر إلى ماضي بحره الأول:
"يساورك العشق ـ منذ الطفولة ـ للبحرِ
حتى غدوتَ بيارقه العاليات وأمواجه السابحاتِ
وربّانه في الحروب التي تتجدّد
فارسه العربي الوحيد". ص12
إذن، البحر المقصود كان يعشق البحر منذ الطفولة، فأخلص لعشقه حتى غدا بيرقاً عالياً له، وموجاً فيه وربّاناً في الحروب المتجددة وفارساً عربياً وحيداً. ثم يعود ليتوّحد مع البحر:
"ولا بحر غيرك / يا وجع البحر
يا أيها المترّجل في البحر وحدك". ص12
"أفتحُ قلبيَ للموج في البحر". ص16
"ماذا يحدثك البحر يا صاحبي
وماذا يقول لك الصدف المتناثر". ص19
"هذا أنين المخاض".
ويتساءل فيجيب ليوضح العلاقة:
" ـ أيبعدك البحر عني؟
ـ يقرّبني البحر منك
وتقترب الأغنية". ص25
ويتساءل مرة أخرى:
"ماذا يحدثك البحر يا صاحبي". ص32
ليخرج، بعد هذه التساؤلات، بجواب قاطع وتحديد واضح:
"أنت سرّ الطبيعة يا صاحبي
فتقدم
يكتب البحر مولده
فتقدم". ص43
فالبحر والأغنية والحياة: أشياء متداخلة، أحياناً تأخذ معنى واحداً فتتوحد في الدلالة والهدف، وأحياناً أخرى تتباعد لتبقى على اتصال وثيق ينبئ بالتوحد مرة أخرى، إذ هي رموز ومترادفات لشيء واحد: البحر.
وقد نقل الشاعر البحر إلى جو قصيدته العام من خلال مفرداته التي تزاوجت مع رمزه الذي يخاطبه ـ البحر، فيجد القارئ المفردات التالية وقد وظفت لتخدم غرض القصيدة وهي تسقط رمز البحر على " بحر " الشاعر الخاص، وهذه المفردات التي رصدتُها هي:
شراع، سارية، بوصلة، الريح، الغيوم، الينابيع، رمال الشطوط، المروج، الصدف، الشواطيء، السندباد المسافر، المرافيء، مياه الجداول. وهي مفردات ذات علاقة مباشرة مع البحر الحقيقي، ولكن مفردات بحر الشاعر المجازية التي تقابلها لتدلنا على البحر الخاص ـ الرمز، هي:
حولك أعداؤنا ينصبون الشبك (ص14)، وصوّب أمام جحافلهم مدفعك (ص15)، من عيونك تنطلق القافلة (ص159)، أنا الرقم الصعب (ص16)، سأبقى برغم الجراح أقاتل (ص17)، ألا زلت تطلق أغنية للبلابل، ترسل كوفية للرمال (ص23)، أما زلت ترفع كوفية للبلاد (ص26)، وماذا تقول لمن سلّموك زمام القضية، أعطوك مفتاح هذا الوطن (29)، ها أنت تدخل عاصمة لتغادرها (ص31)، وأنت عيون البلاد التي لا تنام (ص36)، سلام عليك وأنت تقاتل، سلامٌ عليك وأنت تغادر (ص43). وبهذا يكون بحر الشاعر هو القائد، وبحديثه عن الوطن والزمن، وضع الشاعر ثلاث حركات في قصيدته وماج بها بحرُ القصيدة لتمتزج معاً في النهاية واضعة القارئ على أولى خطوات " الرغبة القادمة " ـ الاستقلال.
البحر والزمن والوطن: هي التي حرّكت موج الشاعر؛ فالبحر هو القائد، والزمن " زمن الفتح، يسقط نهج التخاذل ( ص40)، والوطن " هو الوطن اللغز، نافذة للدخول إلى القلب (ص41)".
لقد اختار الشاعر البحر رمزاً لإبداعه الشعري لما فيه من غنى في الحركة وقدرة على التحمل ومواصلة الحياة ومخزون هائل من المكوّنات والمحتويات، فيما أرى، وله ميزة من القدرة على السكون والهدوء الذي لا يدل على ضعفٍ واستكانة، إذ إنه يمتلك القدرة، في الوقت نفسه، على الثورة والتحدي، فلم يكن هروباً رومانسياً إلى الطبيعة / البحر، ولكنه كان التجاءً ثورياً تعبيرياً إليه: يشكو إليه همومه وأحزانه ويسائله، فيحرضه ويمدّه بالقوة ويقول قوله في تشخيص الواقع.
* عبد الناصر صالح، نشيد البحر، القدس: منشورات دار النورس الفلسطينية للصحافة والنشر والتوزيع، سلسلة كتاب مجلة عبير رقم 6.
إضافة تعقيب