رجاءً لا تظلموا الرّجل ولا تحمّلوه عبء الآخرين، فلا تزر وازرةٌ وزر أخرى، فقد أدرك مصطفى الطّويل منذ الخطوة الأولى أنّ الرّحلة طويلة وشاقّة تكاد تكون رحلة اللا منتهي لولا بصيص الأمل الذي ورثه عن والديه عن جدّيه. قد يختلف البعض معه في تحديد بداية الرّحلة فبينما يزعم مصطفى أنّ البداية معروفة وواضحة مثل وضوح النّهار في شهر آب في بلادنا، يرى آخرون أنّها بدأت قبل ميلاد الرّجل بكذا سنوات، وسواء كان هذا الأمر يهمّ الدّارسين والباحثين في مراكز الأبحاث المريحة والمكيّفة، الوطنيّة منها والمشبوهة، ويدعم مجنّدي الأموال أو لا يضيف لهم معلومة أو دولارًا أو يورو فإنّ مصطفى لا يلتفت إلى ذلك، فالقضيّة كبيرة ولا مكان للأمور الصّغيرة.
ما حدث لمصطفى الطّويل لم يكن كابوسًا ولم يكن حلمًا. كان أمرًا عاديًّا أن يقف الرّجل أمام المرآة في الصّباح ويطمئنّ على مظهره، على شعره الذي وخطه الشّيب مبكّرًا، وعلى حاجبيه والشّعيّرات البيضاء التي تسلّلت فيهما، وعلى عنقه الذي ما زال أملس خاليًا من خطوط الدّهر، وعلى وجنتيه النّاعمتين، وعلى الشّعرات السّوداء في صدره العريض، وعلى كتفيه البارزتين، وعلى عضلات ذراعيه القويّة وكذلك عضلات ساعديه.
كان مصطفى يعتدّ بجسده وبشبوبيّته، وأمّا في هذا الصّباح فقد ذهل فيما هو يحدّق في المرآة الطّويلة على خزانة الملابس. مدّ راحته اليمنى إلى جانبه الأيسر ثمّ مدّ راحته اليسرى إلى جانبه الأيمن، وحدّق بالمرآة بقوّة. ما زالت في جسده كما كانت منذ ولادته، عيناه وأذناه وذراعاه وساعداه وراحتاه وكتفاه ورقبته. ولكنّ مصطفى يتحسّس أعضاء جسده. ويتحسّس ويتحسّس. مدّ راحتيه الاثنتين إلى الوراء واستدار يمينًا واستدار يسارًا وزادت صدمته. كان يبحث عن عضو نقص في جسده. عن عضو اختفى من جسده. عن عضو غير موجود.
الرّجل بلا ظهر.
لا ظهر لمصطفى الطّويل.
من أخذ ظهر مصطفى؟ من سرقه؟ من سلبه؟
وهل سيقضي عمره بلا ظهر؟
لا بدّ من أن يستعيده. لا بدّ من ذلك!!
حمل عصا التّرحال وسار. سار مصطفى مصرًّا على أن يستعيد ظهره. وواثقًا بأنّ النّصر آتٍ فالظّهر ظهره وأنّه هناك. هناك وراء الوادي. وراء الجبل. وراء اللا وراء. ولا بدّ من أن يصل إلى هناك حيث ظهره.
كان يرتدي سروالًا أسود من الكتّان قادرًا على استيعاب عرق جسده وغبار الطّريق. وكان يلبس فوق السّروال قميصًا قطنيًا ذا كمّين طويلتن وذا جيبين، واحد في الميمنة والآخر في الميسرة، وينتعل حذاءً جلديًّا ذا عنقين طويلتين يذكّران بأحذية جنود المظلّات. وكان يحمل على كتفه اليمنى حقيبة صغيرة رماديّة تتّسع لوجبتي طعام لشخص متقشّف، وحاجات ضروريّة، وأمّا على كتفه اليسرى فقربة ماء من جلد الماعز الأسمر.
معذرة. نسيت أن أصف لكم لون قميصه الذي اختفى من كثرة الاستعمال فبدا يحمل لون حاكورة الدّار في فصل الخريف. ولا أدري إذا كانت مثل هذه الأمور تهمّكم على الرّغم من أنّها لا تهمّ مصطفى، فالرّجل ابن عائلة ذات سمعة طيّبة. كان جدّه فلّاحًا تقيًّا يأكل خبزه بعرق جبينه. وكان قنوعًا يدعو الله الذي يصلّي له خمس صلوات في اليوم دعاءً واحدًا وحيدًا لا يتغيّر ولا يتبدّل: "اللهم أبعد عنّا الحكومة والحكيم!" والحكيم في لغة الفلّاحين هو الطّبيب. وكان ايمانه راسخًا بقوله تعالى "فإنّي قريب، أجيب دعوة الدّاعي إذا دعاني"، ويبدو أنّ الله استجاب إلى النّصف الثاّني من دعائه فلم يعانِ من مرض سوى الخفيف منه، الرّشح والبرد، فيعالجه بفنجان ميرميّة ساخن أو فنجان زوفا حارّ، وأمّا النّصف الثّاني من الدّعاء فقد وجد فيه وصيّة الغجريّة التي قرأت له خطوط راحته الخشنة ذات الأصابع الغليظة وحذّرته من الاقتراب من الحاكم "لأنّ السّلطان مثل قضيب الرّجل لا صديق له ولا يؤّتمن!". وكان الرّجل يعتقد بأنّ قوّة الجذور تقهر الرّياح وتنتصر على العاصفة وقد أوصى أولاده وهو على فراش المرض قبيل احتضاره بأيّام أن يحافظوا على كرم الزّيتون وعلى الخرّوبة وبئر الماء في وادي الصّفا وعلى كرميّ العنب والتّين في أمّ الحجارة كما تناول خمسة أغصان طريّة من زنزلختة البيت وجمعها وطلب من أولاده الخمسة واحدًا بعد واحد أن يكسرها فلم يفلح أحدهم.
لقّبني إخوتي بالنّتفة بعد أن تقاسموا ميراث جدّي مع العدوّ ولم يتركوا لي منه سوى نتفة وقالو لي: تبحبح طولًا وعرضًا يا مصطفى. كيف يتبحبح المرء في نُتفة بلا طول وبلا عرض، يا من لا عرض لكم؟
أعي جيّدًا أنّني بلا ظهر يا أولاد الذّئبة ولكنّي أستطيع أن أقف صامدًا في وجه الرّيح وأعرف أن أسير إلى الأمام وأعرف أن أتمتّع بعينيّ الثّاقبتين وبعقلي النّيّر. وذو العقل يشقى بالنّعيم بعقله وأنتم تنعمون بلا عقول!
أحنّ إلى أمينة وفراشها الدّافئ وعطرها الأخّاذ، وشرب الشّاي مع النّعنع في المساء على برندة البيت والتّمتّع بنسيم البحر، وتناول الفطور معها. زيت الزّيتون الصّافي مثل الذّهب، ولبنة الماعز وحبّات الزّيتون الأسمر وخبز القمح، وقهوة الصّباح المهيّلة.
ديري بالك على عائشة يا أمينة!
يعترضني في دربي مارد. قدماه في الأرض ورأسه أبعد من رأس سروة الحاكورة.
ذراعاه طويلتان وذاتا أظافر، ومخالب كالمدى. قذف من منخاريه حممًا في الفضاء، سقطت على حقول القمح فحرقتها. وصرخ: دخلتَ مملكتي بدون استئذان!
مملكته؟
"الدّار دار أبونا وأجا الغربا يطحونا"
لا تؤاخذوني. لن أخفي ما حدث لساقيّ. هذا الحقل لي. وهذا القمح النّورسيّ لي. وهذا الكرم لي. وهذه السّنديانة لي. وهذا الزّيتون لي. الدّار دار أبونا...
قهقه المارد وصرخ: وتقول ذلك؟ ألا تعلم أنّ الله وهب هذه الدّار لجدّي ومنحه الهواء والماء والغداء من البحر الغربيّ إلى البحر الشّرقيّ ومن الوادي الجنوبيّ إلى الجبال التي تناطح السّماء في الشّمال.
وقفت على صخرة وأجبته: لو سألت تراب الحقل لأجابك بأنّه يعرف عرق جسدي. ولو سألت الزّعتر والعكّوب والشّومر والعلت والخبّيزة والهليون لحدّثوك عن أناملي. ولو خاطبت أشجار الكرمة والزّيتون والخروّب واللوز والمشمش والصّبّار لأجابوك من هو مصطفى. يا هذا، أجل يا هذا، انها وقاحة أن تسأل الحبيب عن مدى حبّه للمحبوب.
ماذا أقول؟
لو كان ظهري معي لفركتُ منخاريك بالتّراب وقصفت رقبتك!
أرغى الماء وأزبد...
وأبرقت السّماء وأرعدت.
ومشيت.. ومشيت.
أنا المشّاء العصريّ.
أنا الخميرة في لجن العجين.
ولولاي ما كان رغيف الخبز.
والرّحلة طويلة وشاقّة.
ولا بدّ من أن أصل إلى رأس النّبعة وأشرب منها.
لا بشرب من رأس العين لا بظلّ عطشان!
وأنا أمشي.
مزّقت الأشواك سروالي ولم يرحمّ البلان قميصي ولم يشفق عليه القندول والسّنديان.
لا بدّ من أن يعود الغائب.
سألتني عائشة: لوين رايح يابا؟ لمين تاركني يابا؟
من أجل عينيك السوّداوين أمشي وأمشي. كي تفرح عيناك بالورد الجوريّ والقرنفل وشقائق النّعمان. من أجل البسمة الحلوة على شفتيك، كي تبقى أملًا وحبًّا. من أجل نقاء النّسيم الذي يداعب شعرك الأسود النّاعم. ومن أجل العجينة التي سوف تلصقها أناملك على قنطرة باب الدّار.
سرقوا ظهري يا عائشة في ليل طويل، في ليل دامس.
في ليل بلا نجوم وبلا قمر.
سرقوا ظهري عندما غفوت.
لوين رايح يابا؟
لا بدّ من أن أستعيد ظهري، فلا نصر لمن لا ظهر له.
لا مستقبل لمن لا ظهر له.
يا قراصنة البرّ ويا قراصنة البحر.
أنا وأنتم والزّمن طويل.
احتضنتُ عائشة وقبّلتها فأنا أحبّها حبّين. حبّ الأب لابنته وحبّ الأمّ لفلذة كبدها. حبّان لا يمكن أن يكونا معًا حبًّا غاب.
لو كان الطّبيب حاضرًا عند الولادة لما رحلت زهرة إلى الآخرة وما ترمّل مصطفى وما تيتّمت عائشة. وما قالوا لي هذا الكلام كفر. اتقِ الله يا مصطفى. لو كان الطّبيب حاضرًا ما ماتت زهرة على الجورة يا ناس.
أنا وعائشة توءمان.
سرقوا طفولتي يا ابنتي في ليلة ليلاء وعشت بلا طفولة.
لا شيء في الدّنيا يعوّض المرء عن طفولته المسروقة.
لا العلم ولا النّجاح يعوّضانها، ولا المال، ولا البحر ولا البرّ ولا الثّورة الفرنسيّة ولا ثورة البلاشفة.
شاهدت في منتصف القرن العشرين شابًّا أسمر واقفًا على قمة هرم خوفو بإباء وعزّة، وكانت عذارى النّيل اللاتي قدّمهن الشّعب له طيلة قرون يرقصن ويغنّين. وقال الشّابّ بصوت عالٍ سمعه البشر من منابع النّيل حتى مصبّه "ارفع رأسك".
انتصبت قامتي وارتفعت هامتي وغنّيت مع عمّال التّراحيل للأرض وللسدّ العالي. وردّدت أغاني عبد الحليم حافظ، مغنّي الثّورة.
وعدني النّيل أن يمنحني ظهرًا، والنّيل معطاء يروي العطشان، والنّيل صادق.
رقصت في الشّوارع وفي الميادين وفي نشوة فرحي زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت أثقالها فاستشهد أحد أصدقائي ورحل صديق ثانٍ وسُجِنَ صديق ثالث وهاجر إلى الجزائر صديق رابع وتدجّن رفيق خامس وشاهدتُ بلاد العرب تسير إلى شفا حفرة من الانهيار.
نصحني صديقي مدرّس التّاريخ أن أزور موسكو كي أجدّ فيها ضالّتي فامتطيت طائر الفولاذ ولمّا وصلت وعدني الفولغا بظهر من الفولاذ.
وجدت طوابير النّاس واقفة في البرد القارس لزيارة قبر المسيح فوقفت معهم وصلّيت جماعة في السّاحة الحمراء وحفظت مختارات لينين كأنّها سورة يس ورددتها مع الّناس والرّجال الواقفين في محطّات القطار وفي حوانيت الطّعام حيث العصافير بلا أجنحة بعدما هاجرت طيور السّمّان وأدركتُ ما قاله قيس بن الملوّح حينما قال "وشاة بلا قلب يداوونني بها / وكيف يداوي القلب من لا له قلب".
لن أترك عائشتي.
أوصيت أمينة أن تعتني بها وأعدت الكلام ثلاث مرّات.
خالتك زوجة أبيك ستهتمّ بك. هل تثقين؟
تزّوجتُ أمينة كي تعتني بك يا عائشة. هكذا تظاهرت أمينة أمام الأقارب وأمام أهل البلدة. والحقيقة التي كنت أريدها وكانت تريدني. والخالة تبقى خالة والأمّ تبقى أمًّا.
لا امرأة من نساء الكرة الأرضيّة تسدّ مكانة أمّك، التي قتلها الجهل، ولا بدّ يا عائشة من أن أجد ظهري الذي سرقه القراصنة وتركوني بلا ظهر في مهبّ العاصفة. تركوني بلا ظهر. كيف يحارب من لا ظهر له؟ كيف ينتصر على الغيلان من لا ظهر له؟ كيف يكون العربيّ وطنيًّا في وطن ينهبه السّلطان في وضح النّهار؟ ما زلت أذكر موقعة السّنديانة عندما استدار عمّي جدعان وهو في مقدّمة الفرقة وصاح: يا شبّان!! احموا ظهري وأنا لها!! احموا ظهري وأنا أبدّد شملهم!! ولكنّني يا عائشة بلا ظهر. سرقوا ظهري عندما غفوت. وأنا واقف في وجه العاصفة بلا ظهر. زيتونة روميّة يروى جذعها ملحمة القرون. تعدو الذّئاب على من لا ظهر له. تتنمّر الثّعالب على من لا ظهر له. تتكاثر الوحوش في المراعي ولا أحد يربط فم الوحش، وتصير حريّة الذّئب وأنيابه مطلقة، ويخرج الوحش السّجين من كهفه، ويمشي على الأرض العذراء، ويدمّر الهدوء، ويعكّر الينابيع. ولا بدّ من أن أواصل المشي. أواصل المسيرة.
ومصطفى يمشي ويمشي ويمشي.
وتخرج غولية من عباءة الظّلام.
أهلًا أهلًا مصطفى. سوف أطعمك الزّبيب والعسل، وأسقيك الخمرة والقهوة، وأضمّك إلى فراشي الدّافئ!!
ويتذكّر مصطفى وصيّة أمّه قبيل احتضارها: على يسارك أفعوان، وعلى يمينك ذئب، فلا تلتفت يسارًا ولا تلتفت يمينًا. سرّ إلى الأمام يا ضناي.
والغوليّة تنادي.
ومصطفى يمشي.
ويجتاز أودية وتلالًا وجبالًا.
وما حكّ جلدك مثل ظفرك.
ولا بدّ من أن يجد مصطفى ظهره.
هناك. هناك. هناك.
في المزارع. في المصانع. في الأسواق. في المدارس. في الجامعات. في روضات الأطفال.
في غرف الولادة.
رجاء. لا تظلموا الرّجل ولا تحمّلوه عبء الآخرين، فلا تزر وازرة وزر أخرى. كيف ينتصر الفارس وهو بلا ظهر؟
وكيف يقعد عروة بن الورد وصغاره جياع بينما السّلطان يشكو من التّخمة؟
ومصطفى يمشي ويمشي ويمشي.
خمسة عقود وهو يمشي.
ستّة عقود وهو يمشي.
سبعة عقود وهو يمشي.
لا بدّ ممّن لا بدّ منه.
لا بدّ من أن يجد ظهره.
آه.. آه.. يا مصطفى..
آه..
الصبّار في ميعار
إضافة تعقيب