news-details

الرَّملُ المتوحِّش| بابكر الوسيلة

(١)

جمرةُ الشَّمسِ الَّتي انطفأت

على دمع سَحابة،

أجهشت بالبكاء على طفلةٍ

غرِقت لُعبتُها الوَرَقيَّةُ في مستنقعات المُخيَّم،

عند تُخُوم الكآبة.

 

(٢)

الخيمةُ مسجِدُ النَّازحينَ من كلِّ جُرحٍ ثمين..

صلُّوا وناموا

وقاموا وصلُّوا

وصلُّوا وماتوا..

الصَّلاةُ على الأرض الَّتي تُلهبُ الطِّينَ أشجارَ أسمائه

في كلِّ نبتةِ ذكرى..

الخيمةُ بُستانُ أحلامِهم

تُلهِمُ العاشقينَ أُسطورةَ العيشِ بالشِّعرِ

من دونِ ماء..

 

(٣)

أمدرمانُ في غَبَش الفجر..

خرجت من الطَّين عن بِكرة النِّيل..

المووايل.. آه المواويل

رائحةُ "السِّيرة" للسَّاحل العبقريِّ

"نحن جئنا إليك يا أمَّها اللَّيلةَ بالجُرحِ

من الجُرح إلى الجُرح"..

الجداريَّاتُ انتزعت لحمَها من بقايا الرَّصاص

النَّقوشُ فوق معابدِ أحيائنا الشُّهداءِ غنَّت

وغنَّت مع الرِّيح أسكلةٌ لا تحلُّ إلى أيِّ عاشق   

غنَّت مهيرةُ قلبَ التُّراب القتيل..

المقابرُ في البيتِ

والبيتُ فوق المقابر.. 

مَن يبكي على النَّهر غيرُ الخليل..!

المواويلُ آه المواويل..

خوفُ العصافيرِ في الجامع دُونَ أذانِ الصَّباح،

الفقراءُ، الدَّراويشُ،

دائرةٌ من الضَّوء أرواحُهم في الزَّوايا،

التَّرنُّحُ بين المدائح،

طيرُ التَّرانيمِ

طار ببَهْوِ الكنيسة..

الصَّعاليكُ آخِرةَ اللَّيلِ عرايا العشيقات، 

المُصابونَ بالحُبِّ،

لحنُ الحقيبة،

نبعُ عُيُونِ الحبيباتِ على خرائطِ الحائط الطِّين،

رسائلُهنَّ على أُهبةِ الشَّوقِ والموتِ أجْلَ الحبيب..

و"الوَدِعُ" المَرميُّ لحظِّ الظَّهيرةِ

في جسد المرأةِ المُتعرَّاةِ

والحُرَّةِ بين الرِّجال..

المواويلُ

حزنُ المواويل..

 

هي الأرضُ منسيَّةٌ في باطن الحُزنِ يا خالقي

كما جرحِ روحٍ بليغِ الحكايةِ..

خيطُ المكانِ تدَّلى دموعاً مع كلِّ غيمٍ،

بتسجيل صوتِ المحبَّة لله في كلِّ صمت.

 

(٤)

زهرةٌ وحيدةٌ

تُفعِّلُ كلَّ هذا الموجِ على النِّيل!

صوتٌ مُقطَّرٌ من صورة العاشقِ

يُنزِّلُ سورةَ الأغنياتِ على الوَجد في اللَّحظات الجثيمة!.

 

(٥)

كلُّ ما تركتُه أمامي، أيُّها اللَّانهائيُّ في مسطبة البحرِ،

كان رمزاً لغنائي البدائيِّ يا صاحبي،

كان وَتَراً جائرَ العُرْي

وسطَ الحقول،

كانَّ غناءً ناسجاً شُعيراتِ النَّشوةِ في وردةِ البَصيرةِ الجميلة.

 

(٦)

آهِ أيَّتُها الأزقَّةُ الزَّقزاقةُ الأصدقاءِ

في بطانة النُّجُوم في" أب رووف"! 

ها هو صاحبي

يموجُ في يدي النَّضَّاحةِ الجداول،

والعُرُوقُ بين شارعٍ وشارعٍ تجوبُ بارتعاشةِ المواكبِ النُّجُومِ،

في مراكِب موجةِ الأبد.

 

(٧)

في المساء والمطر..

هل سكرتِ هذا اليومَ يا امدرمانُ في القماير؟

وهل سجدتِ أمامَ النِّيل برائحة الأزقَّةِ القديمةِ،

في التَّعانُق الَّذي يُطهِّمُ النُّجومَ للسَّهر..

في "عتيق" دِلكة الشِّعرِ

عند صفائه الَّذي يتأمَّل الدُّموعَ،

تبكي وحيدةً في طَلحها على قصائد النَّار والحديقة؟

 

يا لِجذوة اللَّيلِ باللَّواتي اشتعلنَ نشوةً بخُمرة

الأغاني،

بالقمرِ المؤنَّثِ الذُّهول،

بينما العالمُ في يومه يؤمُّ

حُلمَه العاديَّ في الحقيبة!

جوٌّ من الحياة يقطعُ الطَّريقَ وحدَهُ

عن قاطع الحياة.

 

(٨)

كم تبعدُ الكأسُ عن كُردُفانةِ قلبِكَ يا صاحبي؟

وكم يبعدُ الله عن زمنِ العنفِ والمَحرَقة؟

سألتُ،

إنِّي سألتُكَ

لم يكنِ النَّهر أعمى

كان في ظلِّ هذا الضِّياء النَّباتيِّ من ساحلي

كنتُ بصيراً بما يكفي قُبلةً متمازِجةً مع الشِّعر، ممزُوجةً بالظَّمأ،

مُتزاوِجةً بالقصيدة،

وهي تَزاوجُ عن نفسها بمُتعة الحياة.

 

كم يبعدُ العُمرُ عن دارفُورةِ حُلمِكَ

في هذه المَشنَقة؟!

 

(٩)

سألتُ بلادي على حافَّة الذِّكريات

والمشْي بين السَّراب.

لم أكُنْ أتلعثَمُ في الصَّمت أبداً..

ما الَّذي تركتْه أصابعي أمانةً عند حُرُوفَكِ

تحت الباب،

يا فمي الغريبَ عن لساني؟

لم أكُنْ بعيداً عن طقطقة الأصابعِ في يد القدر..

عندما خرجتُ لابساً خريطةً بلا دروب

في مشوارٍ كان في مُتناوَلِ الفرَح العذبِ ..

ولكنَّه قد يَستغرِقُ بين الملاجئِ

ألفَ عُزلةٍ وجُرح.

 

(١٠)

كُلِّي في الأكاذيب من مَرتَع لمَرتَع..

أعدادي في الرُّوح من الطُّيور الغريبةِ السَّماء والأشجار، ليست قليلة.

وهاأنذا نهباً لذكريات النَّاس في جسدي،

نهباً لأموال المواعيدِ الَّتي لا تُحصى ولا تَعَود،

لأمواجِ الأحضانِ الَّتي لن تُعَد.

 

(١١)

بلدي بالكاد ناضلتُ وجعلتُه رجُلاً في الموكبِ الأخيرِ في البلد.

جعلتُهُ امرأةً ناضجةَ الخُلود

في حُفرة الدُّخان،  

في مركز الخِطابِ الوُجُوديِّ للمكان.

 

(١٢)

 

آهِ يا حبيبي.. من هنا: عبْرَ جرحِ الزَّمانِ الغريق،

تعبُرُ الحياةُ الهُوَينى

ويُفسحُ النَّهرُ هُوِيَّتَه للرَّقص والتَّماوُج..

قد نعيشُ كالرَّملِ المُتوحِّشِ،

واقفاً في الحُلم يصطاد الحديقة..

قد نتعايشُ بالشَّحيحيِّ من الذِّكريات

بأقلَّ القليلِ من العائدين فجأةً للحياة،

وقد نُعرِّش أعلى سماءِ سريرةٍ في الدَّوزنة،

وقد ننام تحت أغاني البُنيَّاتِ عند كلِّ رقصةٍ مفضوحةِ الينابيع.

قد نحلمُ باصطياد سمكةِ المستقبل

من جدولٍ

هام بالوردِ قبل المواعيد،

ولكنَّه يتحسَّسُ الطَّريق جيِّداً نحو طين البُيُوت،

يَستحسنُ القُبُلاتِ عند الزَّوايا

كامتحانٍ شَفَويٍّ حاسمٍ أمام وُجُودهِ

في غناء الوُجُوه.

 

(١٣)

بيتي..

يا وطني الغنيَّ بالأحضان..

أنا يائسٌ من الحُجرة الخلفيَّةِ للشِّعر،

عائشُ الحياةِ بعُشب العناق..

اعطني قُبلتينِ

واحدةً سأَدَّخِرُها للأولاد يومَ العيد،

والأخرى سأبذلُها، مساهمةً منِّي، في ترتيبات يوم النَّسيمِ تحتَ المُلاءة.

 

(١٤)

أعرِفُ نهرَ الجَنَّة جيِّداً،

لكنَّني لا أعرِفُ الطَّريقَ إلى غرفةِ نومي،

ولا أعرِفُ الطَّريقَ الملتويةَ الَّتي يَسلكُها أمامي الملتحون بعُشب الفقراء..

لا أعرِفُ الطَّريقةَ الملويَّةَ الأفكارِ إلى قُبلة دافئة.

 

(١٥)

إلهي..

أنا شاعرٌ غنيُّ المجاهيل،

أعملُ في المجاز، ليس إلَّا في المجاز..

أشغلُ حيِّزاً من الحُزن في بلدي..

أُعمِلُ ضَوئي وأعمَلُ أعمى

في معمل الكلماتِ الحديثةِ الظُّلمة،

بالتَّناوبِ مع الفجرِ في كلِّ وَرديَّة للخيال،

أعملُ لبضعِ شهقاتٍ بإصلاح عطلِ اللَّحظةِ الَّتي تُعادلُ الكونَ في الانفجار.

أَعملُ كهربائيَّاً لبعض همزاتِ الوصولِ إلى قطع ماضيَّ عن همزةِ هذه الهاوية..

عن هُوَّةِ الكلمةِ من سياق عذاباتها في العبارة.

(١٦)

قدَري..

فاشفِني من بلدٍ كهذا،

كلُّنا فاعلٌ في الخوازيق..

أنتَ ارتكبتَ الجنينَ الَّذي فعَّل الكارثة..

لا تلمُني على وليمةِ عُشبِ اللَّيالي،

على الشَّتائم الَّتي يدِّخِرُها قلبي للعالم.

لا تلُمِ الأعشابَ حتَّى تُصبحَ أشجاراً

تمنحُ الظِّلال والثِّمارَ والعُذُوبةَ المُمكنةَ السَّهرةِ

في ساحل الخُلُود.

ولا تلُمِ النِّساء حتَّى يُصبحنَ أسراراً تُعطي نُهُودَ فواكه، ولذَّةً للتَّأوُّه في الشِّعر عند نُزُول كلمةٍ

تُولدُ بين الجِذرِ والغُصُون.

 

(١٧)

وطني..

يا معلِّمَ نافذتي على كلِّ ليل..

لو كان لكَ من الحُبِّ يا سيِّدي

فضلُ ماءٍ على لغتي

فلتكُن، ،موجةً خضراء

 ليس إلَّا ما أريد على أبديَّة الصَّحراء!

الضِّفافُ، بدائيَّةً، تطلب راعي النَّسيمِ..

سماءٌ بدويَّةٌ بالقمر العائليِّ بوجه الحبيب..

ليلتي لكَ في كلِّ ليلةٍ بالبصيص على ليلتي.

 

إنَّ

قريةَ قلبي

طينةٌ مُقدَّسةٌ من قُبَّة الصَّالحينَ

بضَوء اقتراحِ الحياة.

.

(١٨)

كلُّ القتيلِ أنا،

وبعضي شهيد

(السودان)

 

 

في الصورة: فلاح في أمدرمان، أواخر آب الأخير (شينخوا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب