news-details

العظماء (12): المهاتما غاندي (الجزء 1)| علي هيبي

من الحسين:

"تعلّمت من "الحسين" كيف أكون مظلومًا فأنتصر! ولقد قرأت بدقّة حياة "الحسين" الشهيد العظيم، واهتممت اهتمامًا كافيًا بتأريخ واقعة كربلاء، واتّضح لي أنّ الهند إذا أرادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بثورة الإمام "الحسين". هذا قول للمهاتما "غاندي" الزعيم الهنديّ، الثائر يدرك تمام الإدراك أنّ الثورة كمسار تاريخيّ جدليّ كانت قبله بثوريّين عظماء سبقوه، قادوها بثوريّة ونضال وكفاح ذي أشكال وأساليب متعدّدة، وستمضي بعده بعظماء سيأتون ويقودون وحركات كفاحيّة، من أمثال الثوّار العظماء: "لوثر كينغ" في أميركا الشماليّة، "جيفارا" في أميركا الجنوبيّة وَ "مانديلا" في أفريقيا، بمضمون أساسيّ وواحد هو النضال ضدّ الظلم بكافّة صوره وأشكاله ومضامينه، في كلّ مكان على هذه الأرض التي يملكها كلّ الناس، ومن أجل سيادة العدالة فيها كي يتمتّع الإنسان بإنسانيّته وينعم بخيراتها، وأساس هذه الخيرات تأمين الحياة والحريّة والكرامة والثروات الماديّة التي تملأ باطن الأرض وسطحها وأجواءها، والثروات الروحيّة والفكريّة التي يؤمن بها الإنسان نظريًّا ويبتغيها مسارًا حياتيًّا ويحبّ أن يحيا تحت كنف قيمها ومثلها ومفاهيمها، ولِ "غاندي" مقولة رائعة كأنّها مقتبسة عن حديث للرسول: "عِش كما لو كنت ستموت غدًا، وتعلّم كما لو كنت ستعيش للأبد".

لقد بدأت مشاكل الإنسان منذ أن جاء أحد من الناس وسيّج قطعة صغيرة من الأرض وقال: "هذه لي"، لأنّه من هذه المقولة وهذه القطعة الصغيرة التي تعكس حبّ التملّك والأثرة والاستئثار تفاقمت المشاكل وتراكمت والاستغلال عمّ وطمّ وسادت الأطماع، وأصبح الحكَم الفاصل بين الأفراد والمجموعات هو الصراعات بكافة أشكالها ومضامينها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والدينيّة والحزبيّة والقوميّة والطبقيّة. لقد آمن "غاندي بأنّ الأرض توفّر ما يكفي لتلبية احتياجات كلّ إنسان، ولكنّها لا تكفي لجشع كلّ إنسان". هذه الأرض وبكلّ ما فيها من ثروات وخيرات لكلّ الناس على كلّ أنواعهم وأجناسهم وعروقهم وألوانهم وقوميّاتهم وأديانهم وانتماءاتهم الفكريّة، وليست لمجموعة واحدة منهم مهما امتلكت من أسباب القوّة ووسائل الغطرسة والقدرات على الاستغلال، فالاستغلال يتنافى مع كلّ القيم والمثل الإنسانيّة السامية، وينزع الرحمة من القلوب عن الإنسان قبل الحيوان، وَ "من لا يستطيع أن يرحم حيوانًا صغيرًا لا يستطيع أن يرحم أيّ إنسان"، كما قال العظيم "أبراهام لنكولن"! أين أميركا "رائدة" الاستغلال والاستبداد في العالم، أين هي منه الآن! هكذا تعلّم "غاندي" من "الحسين"، وتعلّم من "غاندي" ولا عنفه "لوثر كينغ"، وهكذا يتعلّم ثوريّ من ثوريّ وعظيم من عظيم على امتداد التاريخ: القديم والوسيط والحديث.

 

الروح العظيمة:

"موهانداس كرمشاند غاندي" هذا اسمه الكامل بلغته "الكجراتيّة" عند الولادة، يوم 2/10/1869، في "بوربندر" في ولاية "غوجارات"، طفل في عائلة عاديّة ومحافظة، لها باع طويل في السياسة، جدّه وأبوه مارسا العمل السياسيّ من خلال مناصب عالية على مستوى الولاية، وقد يكون لذلك تأثير على نمو الفكر السياسيّ عند "غاندي". بعد نضوجه وانخراطه في العمل السياسيّ اشتهر بأسماء وألقاب كثيرة، من خلال ممارسة حركة الاستقلال لدورها الوطنيّ، لقد أصبح السياسيّ البارز ورائد مقاومة الاستبداد بالعصيان المدنيّ والمقاطعة (السانتاغراها) واللاعنف (الأهمسا)، هذا الأسلوب الكفاحيّ المُجدي الذي ألهم جميع ثوّار العالم الأحرار، وعلى رأسهم الأميركيّ الأسود "مارتن لوثر كينغ" ولفترة ما في "نيلسون مانديلا". لقّب "بابو" أي الأب ولقّب "أبو الأمّة الهنديّة"، ولكن يبقى لقبه الذي سمّاه به شاعر الهند الكبير "رابيندرانات طاغور" وهو "المهاتما" أشهر ألقابه، وتعني الكلمة بالعربيّة الجميلة "الروح العظيمة"، ويعتبر يوم مولده في الثاني من أكتوبر من كلّ عام يوم عطلة رسميّة وعيدًا وطنيًّا هنديًّا، وكذلك يعتبر اليوم العالميّ لِ "اللاعنف". فلتفتخر الأمّة الهنديّة بزعيمها الروحيّ أو بروحها العظيمة "المهاتما غاندي" ولتفتخر معها الأمم جميعًا برمز ثوريّ ومكافح ضدّ الظلم ومن أجل العدالة. فليس للظلم والفقر وطن وليس لمقاومتهما وطن أيضًا. كنت عندما أنظر إلى صورة "غاندي" وهو يلبس ملابسه الهنديّة التقليديّة، القطنيّة البيضاء البسيطة أتساءل! أيّ روح تكمن وراء بساطة هذا الرجل؟ وعندما عرفت أنّ معنى "مهاتما" بعربيّتنا العظيمة "الروح العظيمة" أدركت تمامًا أنّ شاعر الهند العظيم "طاغور" أصاب التوصيف وأحسن التسمية بتطابق رائع بين بساطة الشكل وعظمة المضمون.     

 

التكوّن الفكريّ:

في أجواء عائلة سياسيّة نما طفلًا عاديًّا، وتحت ظلّ تأثير التقاليد الهنديّة تزوّج وهو ابن ثلاثة عشر عامًا، وأنجب أربعة أبناء، الأوضاع الاقتصاديّة وغيرها من تقاليد دينيّة وتربويّة كان لها دور في اختياره أن يصبح نباتيًّا، وقد نمّى هذا الاتّجاه في نفسه في لندن التي سافر إليها سنة 1882، ليدرس القانون، وكان يصاحب اختياره ذاك رغبة في تهذيب النفس والتحكّم بالأهواء والحواسّ عن طريق الزهد والتنسّك، وفي لندن أسّس مع مجموعة من المعارف والأصدقاء ناديًا نباتيًّا  برئاسة " د. أولد فيلد" صاحب مجلّة "النباتيّ" ونيابة "د. أدوين آرنولد"، وكان "غاندي" أمينًا للسرّ.

مع أنّه في البداية كان يلبس البدلة الرسميّة ويرغب بالبقاء في "لندن" كرجل إنجليزيّ، ولكنّ ذلك كما يبدو لم ينسجم وروحه الهنديّة البسيطة والتربية التقليديّة، فغادر "لندن" بعد تحصيل الشهادة إلى بلاده، ليعمل في المحاماة. كانت الفترة اللندنيّة في بدايتها مرحلة ضياع نتيجة عدم الاستقرار والظروف الاقتصاديّة الصعبة، ويجاهد "غاندي" لتحقيق الذات، وهو الذي آمن فيما بعد: "بأنّ الفقر هو أسوأ أنواع العنف". من خلال تجواله في الأرياف واطّلاعه على معاناة الفلّاحين البائسين، وكانت "لندن" أيضًا بداية قليلة التأثير على مستوى تكوّنه الفكريّ، إذ اطّلع على المسيحيّة من خلال قراءاته في "الإنجيل" ممّا أكسبه القليل من المعرفة في مجال الأخلاق والمواعظ والسياسة، وكذلك باتّباع نظام حياة يتلاءم مع روحه وشخصيّته، في ممارسة الصلاة والصوم والصمت كلّ أيّام الاثنيْن من كلّ أسبوع، إيمانًا منه بأنّ على الإنسان أن يحرّر ذاته قبل تحرير الآخرين.

عاد إلى الهند سنة 1890، يلبس اللباس الهنديّ التقليديّ البسيط "الدوتي والشال"، كرمز للتواضع والاكتفاء الذاتيّ، ألم يقل: "احمل مغزلك واتبعني"! سنة 1920 ويقال أنّ "غاندي" النباتيّ، الصائم لفترات طويلة، نسج ملابسه المشهورة تلك بيديْه على "الشاركا"، كان ذلك ردًّا على احتكار بريطانيا للقطن الهنديّ وشرائه بثمن بخس، ومن ثمّ تصنيعه في المصانع البريطانيّة وإعادته إلى الأسواق الهنديّة وبيعه بأسعار باهظة، فقاطع "غاندي" الملابس القطنيّة البريطانيّة واقتدى به كثير من الهنود، فخسرت شركات النسيج البريطانيّة خسارة ماليّة فادحة، (سيكون ذلك مؤشّرًا لمقاطعة السود بقيادة "مارتن لوثر كينغ" لشركات النقل الأميركيّة التي تمارس التفرقة العنصريّة). أمّا "عنزة غاندي" أشهر عنزة في التاريخ، التي كانت لا تفارقه في حلّه وترحاله، ويتغذّى من حليبها رمزًا لمقاطعة البضائع البريطانيّة كأسلوب للمقاومة السلميّة المؤثّرة، وقد اشتهر القول: "إنّ عنزة غاندي قلّمت أظفار الأسد البريطانيّ"، وليس غريبًا هذا عن العنزة كحيوان قويّ، فقد نقل "أبو علي سلام الراسي" ضمن مرويّاته القرويّة اللبنانيّة مقولة: "لو إلها العنزة مخلب وناب لهجمت عَ سباع الغاب". كلّ ذلك وسائل هامّة تعكس مضامين هائلة تُقتدى ونماذج عزّ تُحتذى في النقاء الذاتيّ والاحتجاج الاجتماعيّ والسياسيّ. وفي سياق ذِكْر اللباس لا بدّ من قصّة قصيرة ذات مغزى بعيد ومعنًى عميق ودلالة ثوريّة رائعة، نقلها "غاندي" نفسه يقول: "عندما زرت بريطانيا سألني صحفيّ بريطانيّ بسخرية: لماذا ترتدي هذه "الشماميط" التي لا تستر جسدك؟ (يعني لباس "غاندي" التقليديّ: الشال والدوتي، ع. ه) فأجبته: لأنّني أمثّل أمّة تستعبدها بلادك فجعلتها أمّة من الجائعين والعراة".

 

جنوب أفريقيا:

سنة 1893، "غاندي" في سنّ الرابعة والعشرين، يسافر والعائلة من الهند إلى جنوب أفريقيّا ببعثة، كانت هذه المرحلة من أعمق المراحل الحياتيّة إدراكًا ومن أغناها اكتمالًا ومن أكثرها مواجهة مباشرة ونضالًا حقيقيًّا، على مجمل الأصعدة والمستويات، وبخاصّة ذلك التصادم مع العنصريّة المتمثّلة في تسلّط الأقليّة البيضاء على الأكثريّة السوداء والغرباء الآسيويّين وأكثرهم من الهنود، في جنوب أفريقيا، وفي أشهر مدنها "دوربان" الواقعة في إقليم "ناتال" حيث عمّال مزارع قصب السكّر وصناعة السكّر والتبغ، بدأ في عمله كمحامٍ يناضل نضالًا قانونيًّا من أجل حقوق العمّال الفقراء الهنود والبوير وجماعات أخرى، وفي "ناتال" تجمّعات مختلفة من العرب المسلمين والهندوس والمسيحيّين تربط بينهم أواصر وعلاقات اجتماعيّة جيّدة، قاسمها المشترك العمل بظروف قاهرة بلا حقوق وبمهانة وظلم وعنصريّة.

لكنّ الأهمّ أنّه هنا وفي هذه الظروف المعيشيّة القاهرة بدأ "غاندي" حياته كمناضل ضدّ الظلم والعنصريّة والاستغلال البشع. لقد كانت لذاك الشابّ المتحمّس تجربة "عاشها على جلده" كما نقول في لغتنا العربيّة الحبيبة. يوم 21/5/1893، ما أن وطئت قدماه بلاد "الأبرتهايد" حتّى وجد نفسه في مواجهة مع التفرقة العنصريّة، اشترى تذكرة راكب درجة أولى في القطار وجلس في مكانه ببدلة جديدة، رغم أنّ القوانين العنصريّة تمنعه من ذلك، بلّغ عنه أحد الركّاب البيض فطرد وأهين ومنع من الركوب في هذه الدرجة، انتابه شعور بالمهانة والإذلال! لكنّ هذه الحادثة لم تكن فرديّة بل عانى من جرّائها وأمثالها المواطنون السود والغرباء الأسيويّون بشكل يوميّ. كانت هذه الممارسات على كافّة صورها وحالاتها محفّزًا لسلوك طريق جديد في حياته، أنّه طريق الكفاح.

هناك إلى جنوب أفريقيا ذات العنصريّة المقيتة والاضطهاد العرقيّ والظلم والقتل والإبعاد والملاحقة والسجن، أرسلته المؤسّسة الهنديّة لسنة واحدة وامتدّت السنة لعشرين، كانت أكثر الفترات التي تبلورت فيها شخصيّته وفلسفته ومواقفه السياسيّة بالأساس. هناك اطّلع على حقائق مفزعة، جعل بيته ملاذًا للفقراء والمرضى والمحرومين، وللدفاع عن حقوقهم، ورفض أن يرسل أولاده لمدارس أوروبيّة احتجاجًا على العنصريّة، وكان يكرّس وقته لإسعاف المرضى ويدفع من ماله كي يساعدهم، وأقام هناك "المؤتمر الهنديّ" المناهض للعنصريّة والمدافع عن العمّال والفلّاحين الهنود المسلوبي الإرادة والحقوق والقيادة، وأسّس جريدة "الرأي الهنديّ" الناطقة بالإنجليزيّة وبثلاث لغات هنديّة، بهذه الأدوات بدأ ثورته وكفاحه ضدّ العنف والظلم والقتل باتّباع أسلوب "الساتياغراها" العصيان وَ "الأهمسا" اللاعنف، لقد اختار "غاندي السلاح الذي يخشاه العدوّ وليس السلاح الذي يملكه العدوّ"، السلاح الذي يقاوم الأعداء الحاقدين بلا عنف ولا حقد من شعور بالقوّة والمحبّة وليس من شعور بالخوف والجبن.

 

مظاهرات، هراوات وسجون:

في إحدى المظاهرات التي قادها سنة 1906، كانت ضدّ القانون العنصريّ في "الترانسفال" وهي مستعمرة تابعة للتاج البريطانيّ، ذلك القانون كان يحظر على الهنود أن يقيموا في جنوب أفريقيا، وعليهم أن يتسجّلوا بطلب جديد للإقامة، وذلك يتطلّب أموالًا طائلة وضرائب، وهُدّد المخالفون بالترحيل بالقوة أو بالسجن أو بدفع غرامات عالية. أدّى ذلك إلى اندلاع المظاهرات في "جوهانسبرغ"، وقد تعاطف وتضامن العمّال الصينيّون مع الهنود وانضمّوا للاحتجاجات، ممّا أدّى إلى اتّساعها حتّى وصلت أصواتها ومطالبها إلى بريطانيا، وعلى أثرها سجن "غاندي" وأفرج عنه في سنة 1908.

وردًّا على قانون عنصريّ آخر يمنع العمّال الأجانب المقيمين حقّ الاقتراع وأغلبهم من الآسيويّين، وخاصّة الهنود والصينيّين، قامت مظاهرات صاخبة تطالب السلطات الحاكمة بالتنازل عن هذا القانون، لكنّ الحكومة العنصريّة تمادت في وحشيّتها فاعتدى البوليس بالهراوات متّبعًا سياسة تكسير العظام، وزجّ بقادة المظاهرات وعلى رأسهم "غاندي" وبغيرهم من المناضلين في السجن، وهناك تعرّضوا للتعذيب والضرب والجلد والإهانة، ولكنّ ذلك كان يقابل منه بِ "يمكنك أن تقيّدني، يمكنك أن تعذّبني، يمكنك حتّى أن تقوم بتدمير هذا الجسد، ولكنّك لن تنجح أبدًا في احتجاز ذهني". وَ "يمكنك قتل الثوّار، ولكن لا يمكنك قتل الثورة". وتستمرّ الثورة ففي هذه الظروف النضاليّة وتحقيق الإنجازات للعمّال الهنود والأجانب، سيولد "مانديلا" ومتأثّرًا في الأسلوب الكفاحيّ لغاندي سيكون له شأن في هذه المنطقة "الترانسفال".

لقد كانت هذه المرحلة حافلة بالنضال السلميّ والانتصارات الكبرى، وظلّ فيها حتّى سنة 1914، غادر جنوب أفريقيا بعد عشرين عامًا باعتزاز المنتصر، هذا الرجل الذي مُنع من ركوب الحافلة في الدرجة الأولى عندما دخل، لا يخرج منها إلّا بعد تسوية مع الحكومة العنصريّة التي ضاقت ذرعًا به وبأسلوبه الكفاحيّ، بتسوية تقضي بضمان الحقوق المدنيّة للعمّال الهنود وإسقاط قانون حظر الاقتراع العنصريّ. لقد آمن "غاندي بأنّه يجب أن يعيش الأغنياء ببساطة أكثر حتّى يستطيع الفقراء أن يعيشوا"، وقد لخّص مسيرته في هذه الفترة بهذه المقولة التي لا تتأتّى إلّا من ثوريّ عظيم ذي صبر وصمود، "أوّلًا يتجاهلونك، ثمّ يسخرون منك، ثمّ يقاتلونك، وبعد ذلك تنتصر"، أليس هذا تصويرًا لصمود النبيّ "محمّد" وانتصاره على طواغيت "قريش" ولصمود السيّد "المسيح" وانتصاره على جبروت الأباطرة والقياصرة ولصمود "مارتن لوثر كينغ" وانتصاره على السياسيّين العنصريّين ولصمود "بلال بن رباح" وانتصاره على عبوديّته وعلى الظلم القبليّ! لقد انتصر "غاندي"، انتصر اللاعنف على العنف والوحشيّة، لقد انتصر "الحسين"، انتصر الدم على السيف! وانتصر ضعف "محمّد" على قوّة "قريش" وانتصر الصليب على المسامير، وانتصر "سقراط" على السمّ القاتل، وكما سيتنصر هدوء "مارتن لوثر كينغ" وسلميّة كفاحه على الصخب العنصريّ، وكما ستنتصر قلّة المقاتلين وعتادهم العسكريّ على كثرة الجنود المدجّجين في جبال "السييرا مايسترا". لأنّ "القوّة لا تأتي من مقدرة جسمانيّة مادّيّة بل من إرادة روحانيّة لا تقهر"! على حدّ تعبير "غاندي" العظيم.    

 

أساس نظريّ وتثقّف فكريّ:

أعتقد أنّ ثقافة غاندي التي اكتسبها من مصادر عديدة ومتنوّعة وعلى مدى حياته كثوريّ ذي أسلوب مميّز، كانت في خدمة أهدافه وقيمه التي ناضل من أجلها، ولم تكن مجرّد هواية أو تسلية أو قراءة غير وظيفيّة، بل كانت وظيفتها محدّدة وهادفة لإنجاز أحلام وتحقيق انتصارات على طريق الثورة والنضال. لا أعرف إذا قرأ "غاندي" المثقّف الثوريّ "التوراة" وتعرّف على قليل من اليهوديّة، ولكنّه بالتأكيد تعرّف على المسيحيّة وعلى الإسلام لأنّ هاتيْن الديانتيْن وأتباعهما كانتا على تماسّ اجتماعيّ وسياسيّ ووطنيّ مع الهندوسيّة والمؤمنين بها في المجتمع الهنديّ. وما يؤكّد ذلك أنّ له مقولات حول الديانتيْن بيّنت تأثّره بهما أو على الأقلّ اطّلاعه على تاريخهما وأسسهما الدينيّة والأخلاق التي قامت عليها الديانتان. فله مقولة شهيرة تدلّ على معرفته للتاريخ الإسلاميّ ومبادئ الدين تقول: "لقد اقتنعت أكثر من أيّ وقت مضى بحقيقة أنّ السيف لم يكن هو من انتصر وجلب المكانة للإسلام، في تلك الأيّام بل كانت البساطة والاحترام الدقيق للعهود"، وله مقولة كنت افتتحت بها المقالة حول إعجابه بالإمام "الحسين" وتعلّمه منه كيف ينتصر المظلوم، وكيف باتّباع أسلوب نضاله وثورته على الظلم تنتصر الأمّة الهنديّة على مغتصبيها ومستعمريها البريطانيّين.       

ثمّة أربعة مصادر مكتوبة كانت ذات أثر على "غاندي" ومساره وأسلوبه الكفاحيّ، بما يعني أنّ هذه الكتب شكّلت أساسًا نظريًّا وفكريًّا وفلسفيًّا لانتهاج المسلك الروحانيّ في تهذيب النفس والجسد وفي الكفاح بمسلك سلميّ، لقد قرأ في بداية مسيرته لتكوين شخصيّته "النشيد الطوباويّ" وهو عبارة عن ملحمة شعريّة هندوسيّة استلهم منها أفكاره الروحانيّة، ومن هنا نعتقد بأنّ "غاندي مال إلى تقديس الروح عن طريق نقائها وتطهيرها، ومن هذا النشيد ومن "الموعظة على الجبل" للسيّد المسيح في الإنجيل، بنى "غاندي عالمًا من المثل التي تعتمد على الصلاة والصوم ونظام طعام وكلام لم يتّبعه أحد من قبل، وبهذه المثل والسجايا والطهارة الروحيّة يتميّز العظماء. وكان لكتاب "حتّى الرجل الأخير" للمفكّر "جون راسكين" تأثير عليه في تمجيد الروح الجماعيّة والعمل الجماعيّ والوطنيّ، ومن هنا أدرك أهميّة الوحدة بين الهندوس والمسلمين والنضال الهنديّ المشترك، لأنّه كان يدرك سياسة "فرّق تسد" التي مارسها الاستعمار البريطانيّ كي يطيل عمر استبداده وهيمنته بخلق تناحر جانبيّ داخليّ، ليبعد الهنود عن التناحر الأساسيّ وهو طرد المحتلّ المستعمر، ولذلك نبّه "غاندي" شعبه باليقظة لتلك الفتن والدسائس: "كلّما قام شعب الهند بالاتّحاد ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ قام الإنجليز بذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين كي ينشغلوا بينهم بالصراع ويتركوا الاستعمار".

وكان للكاتب الروسيّ الكبير "تولستوي" صاحب "الحرب والسلم" ومؤلّفاته وبخاصّة كتاب "الخلاص في أنفسكم"، الذي يربّي الفقراء على الاعتماد على أنفسهم في الثورة، وليس على المبشّرين المسيحيّين الذين جنّدهم النظام القيصريّ لتثبيط العزائم وترويضهم على تقبّل الواقع كقدر من الله، إنّ لهذا الكتاب تأثيرًا على "غاندي" في استنهاض الهمم والكفاح ضدّ الظلم، ولا ننسى أنّ "تولستوي" إقطاعيّ وزّع أملاكه على الفلّاحين العاملين في الأرض، ممّا أغضب زوجته الأرستقراطيّة ومن ثمّ طلّقها. أمّا الفيلسوف الأميركيّ "هنري ثورو" فهو صاحب كتاب "العصيان المدنيّ"، وهو إنجيل الكفاح السلميّ واللاعنف الذي اتّبعه "غاندي في جنوب أفريقيا أوّلًا وفي الهند ثانيًا، واستخدمه متأثّرًا من أسلوب "غاندي" ضدّ التفرقة العنصريّة وَ "القوّة البيضاء" في الولايات المتّحدة الأميركيّة المناضل الأسود العظيم "مارتن لوثر كينغ"، وهو ما لم يره مناسبًا في كوبا وبوليفيا والكونغو الثائر العظيم "تشي جيفارا" وسلك مسلك الكفاح المسلّح، فلكلّ بلد ظروفه ولكلّ ثورة أسلوبها وقادتها وقدراتها، المهمّ هو انتصار الإرادة الشعبيّة للمظلومين المسحوقين على كافّة أشكال الاستعباد والاستبداد والعنصريّة والهيمنة على الموارد الوطنيّة والثروات القوميّة. قال "غاندي": إنّ المجد يكمن في محاولة الشخص الوصول إلى هدف وليس عند الوصول إليه، وأن تقول "لا" بقناعة عميقة عند وجوب قولها، وليس لإرضاء الآخرين بها".

آمن "غاندي" أنّ الكفاح المسلّح والعنف ليسا هما الأسلوبيْن الكفاحيّيْن لتحرير الهند من ربقة الاحتلال الاستعماريّ البريطانيّ، مع أنّ له مقولة تبيّن أنّ الكفاح المسلّح له جدوى في بداية الصراع، بشرط أن لا يرتاح لاستخدام ذلك السلاح عدوُّك، "إنّ طريق الاستقلال يجب أن تمهّده الدماء"، ولكنّه كثيرًا ما كان يردّد عبارة هامّة تبيّن ميله إلى أسلوب كفاحيّ آخر "حارب عدوّك بالسلاح الذي يخشاه، لا بالسلاح الذي تخشاه أنت"! فإذا كان عدوّك لا يملك من الأسلحة إلّا العنيفة فسلاحك المؤثّر لا بدّ أن يكون "اللاعنف".

وبعكس معلّمه "طيلاق" القائد الرديكاليّ والوطنيّ الهنديّ، وهو أحد مؤسّسي "حركة الاستقلال الهنديّة" الذي آمن بأنّ مقاومة الاستعمار والتركيز على مطلب الاستقلال يمكن أن يأتي بأساليب مختلفة وليس فقط باللاعنف، ولكنّ "غاندي" الذي كان يحترم معلّمه ويبجّله لم يتأثّر بنهجه الراديكاليّ، الذي كان يعارض الموقف المعتدل للمؤتمر الوطنيّ الهنديّ، لقد نعتت السلطات البريطانيّة "طيلاق" بِ "أبو الاضطرابات الهنديّة"، ولذلك اختلفا بالموقف السياسيّ والنهج الكفاحيّ، ولِ "طيلاق" مقولة شهيرة: "الاستقلال حقّ مكتسب بالولادة وواجبي أن أسعى جاهدًا لنيله"، ورغم اعتراف "غاندي" بشجاعة معلّمه وقدراته العلميّة والسياسيّة وبقدرته على القيادة الحكيمة وإعجاب الناس به، "إلّا أنّني لن أختطّ الخطّ الذي سار عليه".  (يتبع)      

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب