news-details

باقية بجذر أخضر، تكتب بالأحمر

قبل تحوّل الإعلام إلى ما هو عليه اليوم، قبل الفيسبوك والمواقع والتطبيقات والإشعارات، قبل برامج الراديو الإخبارية وفائض المضامين والمعلومات والأخبار والـ"فيك نيوز"- كانت هناك. كلمتها بوصلة، ومنبرها بيت ومدرسة لمئات العاملين ولآلاف القرّاء. زخمٌ لا يجرؤ أحدٌ التعدي على مكانته في صون البقاء وتشكيل الموقف والهوية الجمعية. كيف لا يكون لها رواية مختلفة وأوائل رؤساء تحريرها هما إميل توما وإميل حبيبي، ومن محرريها محمود درويش وسميح القاسم وعشرات الأسماء التي لن أتمكن من تعدادها هنا.

ترتبط الجريدة لدي بطفولتي، في اصطحاب جدي لي كل يوم جمعة لمكاتب الجريدة والحزب في عكا ثم لتظاهرة رفع الشعارات الأسبوعية دعمًا للانتفاضة، في مشهد رفاق ورفيقات وأشخاص عاديين يتأبطون الجريدة كأنها جزء منهم. ترتبط بجدتي، بطقوسها الصباحية من قهوة وسيجارة و"فصفصة" الجريدة، التي غالبًا ما كانت ترافقها تعليقات تشيد بمواقف الرفاق أو شتائم أدبية للاحتلال والحكومة وسياساتها (وأميركا والرجعية العربية).

كانت تتصل أحيانًا لتسألني إن كنت قرأت كلمة الاتحاد ذاك اليوم، أو المقال الفلاني، لتشدّد على صحة الموقف وعلى ضرورة اعتماده وتبدأ بتفصيل تاريخ كاتب المقالة والعلاقة التي تجمعها وجدي به، وذكريات عديدة لا تحصى كانت الاتحاد حاضرة فيها. في سنوات لاحقة،

أذكر كم كان يتعكّر مزاج الرفيقة جدتي إن لم تصل الجريدة ذاك الصباح (ومزاج الموزّع من توبيخها)، فذلك انتهاك فاضح لقدسية صدور الجريدة ولصباحها هي. أذكرها تباشر فورًا بالاتصال بعدة رفاق مشتركين بالجريدة لتتأكد إن كان هناك غيرها من لم تصله الجريدة لتعمل على ضمان إيصالها، ثم للاتصال بمسؤولين في الحزب أو الجريدة للاستفسار عن سبب هذا التقاعس. مثل جدتي عشرات من الرفاق الذين ما زالوا ينتظرونها – يوميًا، فالاتحاد لم تكن في أي يوم من الأيام مجرد جريدة، ففي قاموس الرفاق والقرّاء هي "الجريدة" – لا يُمكن أن يكون غيرها.

في عامها الخامس والسبعين، الاتحاد تتجدّد لتبقى؛ تتجدّد لتصل قرائها وتعيد تشكيل جمهور قرّاء جديد محلي وعربي يتابعها كلسان حال الجماهير العربية الباقية في وطنها وكإنتاج صحفي محلي حقيقي في وجه الهيمنة الإعلامية التجارية والاستهلاكية الإسرائيلية والعالمية على المعلومة والموقف وصناعة الوعي.

لقد تغيّر العمل الصحفي والإنتاج الإعلامي شكلاً ومضمونًا مع تطوّر وابتكار وسائل وتطبيقات ومنابر جديدة، ولم يعد بإمكان الصحف عامةً، والاتحاد من بينها، الحفاظ على مكانتها في التنافس مع هيمنة عالم "الديجيتال" على هواتفنا ووعينا ووقتنا؛ عالم أصبحت الكلمة المطبوعة أثقل على روتين يومنا في فيض الأخبار الواردة إلكترونيًا، فكم بالحري إن كانت تلك الكلمة غير استهلاكية وغير تجارية-بل عمالية وطنية أممية تقدمية، مناهضة للاحتلال والإمبريالية، للتدجين وطمس الوعي ولتشويه الموقف واللغة؟

بالرغم من ذلك، وبعيدًا عن النوستالجيا والمكانة العاطفية التي تحتلها الاتحاد في وجدان قرائها - لا يعقل وضع التطور التكنولوجي متهمًا وحيدًا في تراجع انتشار كلمة الاتحاد في السنوات الأخيرة أو عدم وصولها لجمهورها، ففي ذلك تنصّل من المسؤولية على المصير وتجاهل لحقيقة يعرفها قراء الجريدة ومشتركيها، أن الصحيفة مرّت وتمرّ بصعوبات مادية أدّت لتتالي العقبات أمام أدائها وهنا، بالرغم من أني لن أخوض في تفاصيل تلك العقبات، لا يُمكن للمنطق إلّا أن يعجز أمام قدرة الطاقم على إصدار الجريدة يوميًا في أحلك الظروف وأصعبها – فالاتحاد كلمة تُصِّر أن تُقرأ.

أطلقنا قبل نحو أربعة أشهر موقعًا إخباريًا مرافقًا للصحيفة. موقع ما زلنا نعمل على تحديثه وتحسينه، ولم يأت ليحلّ محلّ الجريدة، إنما ليغذّيها ويمدّها بالمضامين والطاقات الشابة ولتعزّزه هي بدورها بالخبرة والموقف والمهنية. خطوة، مع أن تنفيذها طال، إلا أنه كان لا بد منها حفاظًا على هذا الإرث العريق وتمسّكًا بالخط السياسي والفكري الذي وضعته عصبة التحرر الوطني وحافظ عليه الحزب الشيوعي ورؤساء تحريرها على مدار عقود واضعين الموقف البوصلة من القضية الفلسطينية والعربية والأممية وقضايا العمال والحرب والسلام.

في عامها الخامس والسبعين، الاتحاد تتجدّد لتبقى؛ تتجدّد لتصل قرائها وتعيد تشكيل جمهور قرّاء جديد محلي وعربي يتابعها كلسان حال الجماهير العربية الباقية في وطنها وكإنتاج صحفي محلي حقيقي في وجه الهيمنة الإعلامية التجارية والاستهلاكية الإسرائيلية والعالمية على المعلومة والموقف وصناعة الوعي.

باقية بجذر أخضر، تكتب بالأحمر.

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب