"إنقلعْ، تقلّعْ، إنصرفْ، فرجينا عرض كتافك، روّحْ"
قبل يومين بالضبط كنت في صيدليّة عبد الله الجودي. كنت آخر واحد ينتظر دوره. الدور طويل قبل الغروب بقليل. كلّهم ينتظرون بصمت رهيب: أمّهات ومرضى وكهول وشيوخ.. وأنا. وأنا متضايق. متضايق جدًّا. ومن أين تأتي هدأة البال وجرائم السياسة الفاشيّة الإسرائيليّة تتراكم باستمرار وإصرار؟! كلّ جريمة أفظع من سابقتها.. حين جاء ورآني أقبل عليّ هاشًّا باشًّا كما لو كنت نزلت عليه من السماء السابعة! احتفى بي واحتفل وهو يُمطر عليّ سلامه وتحيّاته ودعاءه! قال لي: "ابن حلال يا أستاذ! مليح إللي لاقيتك! وين هالغيبة؟!".. "خير إن شاء الله يا أبو أحمد؟!" قال: "صار لي أسبوع وأنا محتار بين إنصرف وروّح وإنقلع وتقلّع وفرجينا عرض كتافك!" تفاجأت تمامًا فالرجل لم أعهده إلا مؤدّبًا يحرص على ضبط لسانه مثلما يحرص على قراءة الاتحاد. وأبو أحمد رفيق عريق. لا أقول إلا الصدق ظننته يقصد نتنياهو بكلامه هذا ولا يقصد سواه. لكنّ فكرة طريفة قد قفزت إلى ذهني بسرعة كما تقفز السعادين والقرود فسألته: ومين صاحب الحظّ السعيد المقصود بهاي الدُّرر؟! قال أبو أحمد وقد فهم كلامي من باب المفارقة: "كثااااار". قال وأطلق الألف المتوسّطة زيادة في التكثير. فقلت: أرتّبها لك حسب فهمي ومعرفتي وأنت حرّ. أنا لا أراها إلا حزمة واحدة لا تتجزّأ ولا يجوز فيها الاختيار، وهي على النحو التالي: "إنقلعْ، تقلّع، إنصرفْ، فرجينا عرض كتافك، روّح". بهذا التراتب والتعاقب بالضبط.
إنقلعْ: مطاوع الفعل قلع فانقلع. أي هو من أثره. وزن انفعل متأثّر. هو معلول أو نتيجة. وهو وزنٌ يمنح الفاعل قدرة مجازيّة أو ورقيّة على الفعل. وهكذا حين تقول، يا أبو أحمد، "إنقلعْ" لأحدهم كأنك تدعوه إلى أن يقلع نفسه بنفسه. وهذا أفضل من أن يقلعه الناس بالمعاول والفؤوس. وأنت بهذا، كما ترى، تحافظ بصفة افتراضيّة على ما بقي من ماء وجهه بصرف النظر عن المقصود بهذا الكلام! وإن لم يفلح في الانقلاع فعليه أن يتقلّع.
تقلّعْ: أقوى من "إنقلعْ". وهي أقوى لأنّ فيها شيئًا من التكثير والإصرار والمعاناة في بذل الجهد. حتى أنّ الفاعل في وزن "تفعّلَ" يصير من أهل الفعل مثلما يقول سيبويه، كأن تقول مثلًا "تعلّم" أي صار من أهل العلم لقدرته وإصراره على اكتساب العلم. والقلع انتزاع شيء من شيء. أي هو انتقال من حالة ثبات واستقرار وسكون إلى حالة حركة أو استعداد لحركة. الحقيقة أنّ هذا الفعل لا يخلو من إطراء ومديح لأنك تثق بقدرات الفاعل وإصراره على النجاح في الفعل! معنى ذلك، يا أبو أحمد، إذا كان الرجل قد اجتهد وأفلح في اقتلاع نفسه من جذوره الضاربة في التراب فقد صار قادرًا بصفة مبدئيّة على المشي والانصراف.
إنصرِفْ: في اللغة تعني صرف الشيء إلى شيء أي عودته ورجوعه إلى حالة أخرى قد تكون معروفة ومألوفة. في قولك "إنصرِفْ" إذًا، يا أبو أحمد، دعوة "الرجل" إلى العودة حيث كان أو ينبغي أن يكون. وهي كلمة فصيحة لا يعلق بها أيّ من الملحقات السلبيّة المعروفة في التداول اللغويّ التراكميّ. وهو لا يستطيع الانصراف إلا بعد أن يفلح في التقلّع طبعًا.
فرجينا عرض كتافكْ: وحين تراه ينصرف إلى بيته عندها يمكنك أن ترى عرض كتفيه وهو مدبرٌ. "فرجينا عرض كتافك" تعبير ملطّف مرقّق. وهو من باب المجاز لأنك لا ترى عرض كتفيه إلا إذا كان مدبرًا. وهذا احتيال على الحقيقة. وفي هذا الاحتيال نوع من الاحترام. فحين يصعب عليك أن تزجر الرجلَ وتدفعه بشيء من الفظاظة إلى ترك المكان والإدبار فتخفّف عنه الطلب بتعبير مجازيّ كقولك "فرجينا عرض كتافك". ولذلك حين تقول هذا الكلام فأنت، يا أبو أحمد، تحترم الرجل من حيث تدري أو لا تدري!
روّحْ: وحين يصل "الرجل" إلى أهله ومسكنه، بعد أن رأينا عرض كتفيه وهو يعود مدبرًا، يكون قد روّح. والرواح من الراحة. حين تعود إلى بيتك بعد عناء تستكين وتشعر بشيء من الراحة. وهكذا، حين تقول له "روّحْ" فأنت تدعو له بالراحة. وحين يرتاح هو يريح غيره. وبهذا يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد، عمل معروفين اثنين واكتسب صدقتين: استراح وأراح.
ما ألطفك يا أبو أحمد وما أطيب قلبك! ضحك أبو أحمد وقهقه! وقال وهو يقحّ: "طلعت لغتنا فاضية ما فيها ولا مسبّة ولا تشقيعة! فقلت بقطوب غير متكلّف: أو هي عاجزة عن احتواء القرف الذي تقصده وقاصرة عن توصيفه! قلتها بالفصحى فضحك أبو أحمد مرّة أخرى، واستطاع بضحكته أن يفضّ مغاليقي ويُذهب عبوسي ويبدّد تكشيرتي وتضايقي للحظات!
كنت قد وصلت. أخذت حصّتي من الدواء وانتظرته حتى يأخذ هو نصيبه. وضع يمينه على كتفي ونحن خارجان من الصيدليّة وقال بما يشبه الهمس: يا أستاذ تزعلش منّي إنت لازم تعتذر للرفيق عصام مخّول على مقالك عن القفّة! غربال أبو حنّا أحسن من قفّتك! لم أفهم شيئًا ممّا قاله أبو أحمد. صدقًا. خرجنا من الصيدليّة وأنا أفكّر بما فاجأني به أبو أحمد.
إضافة تعقيب