بدت لنا سفرة لن تنتهي، طويلة ومضنية، نفد ما حملناه من ماء ، بدأ الجوع والعطش يتعبنا أكثر وأكثر، مقصف القطار توقف عن الخدمة في هذا الظرف، لم نجد سوى إبريق نحاسي كبير وضع في احدى زوايا ممر القطار به محلول بطعم الحشيش الأخضر قيل إنه شاي، على طرفه علّقت أكواب كرتونية أحادية الاستعمال وبعض مغلفات السكر، كَتِب على لافتة: سعر الكوب جرفنا واحد وهذا طبعاً سعر ضئيل جداً، لم نكن بوضع يخوّلنا قبول شرب هذا الشاي أو لا، فهو الوحيد المتوفر القادر على ترطيب حلوقنا وسد خواء بطوننا التي لم يدخلها شيء منذ الصباح.
تجاوزت الساعة الرابعة صباحاّ وما زال أمامنا سفر طويل، لا شيء نفعله سوى الانتظار والصبر، فقررنا أن نخلد إلى النوم علّنا نريح أجسادنا ولو قليلاً استعداداً للمرحلة القادمة التي لا نعرف عنها شيئا وما كنّا لنتخيَل مدى صعوبتها. كانت موظفة القطار قد أعطت كل مسافر وسادة وغطاء شتوياَ بكيس بلاستيكي مختوم، رتبنا أسرتنا، أغلقت باب قمرة القطار واستلقينا لننام ، لا أذكر كم مضى من الوقت قبل أن نغفو ولا ما هي المسافة التي قطعت. استيقظنا والقمرة بركابها على حالها. الشابة العشرينية تغط في نوم عميق على السرير الأعلى من اليمين، فتاة ترتدي سروال جينس غامق اللون وكنزة صوفية زهرية مع ياقة واسعة، حًلت معطفها لغطاء وقبعتها لوسادة اما مظلتها الحمراء فقد علقتها على حافة السرير. اما المرأة المسنة فما زالت تجلس مكانها تأكل بسكويتا ملأت رائحته القمرة متسربةّ نحو أنوفنا لنستفيق من شدة الجوع. أدركت المرأة ذلك فقدمت لنا بعض البسكويت نسد به رمقنا، شكرناها وبدأت بتبادل أطراف الحديث معها، كانت في زيارة ابنتها في كييف وحين تعرضت الاخيرة للقصف غادرتها عائدة لقريتها الواقعة على الحدود الرومانية وهي وجهتنا أيضاّ ليس بخيارنا بل حسب اقتراح صديقتي ريتا اوكرانية الأصل التي تعيش في قيسارية الواقعة على شاطئ المتوسط قريباّ من حيفا. ما زالت الساعة باكرة جداّ ولا يجوز ازعاج ريتا في مثل هذا الوقت، علينا معرفة البرنامج كيف والى أين نتجه بعد نزولنا من القطار؟! علينا الانتظار للسابعة صباحاّ حينها نتواصل معها عبر الواتس آب، ولكن قبل ان نفعل بادرتنا هي باتصال:
⁃ كم من الوقت ليصل القطار؟
⁃ ساعتان وربع.
⁃ حسناّ هذا اسم ورقم السائق الذي ينتظركما في محطة القطار، يوصلكما لفندق صغير في المدينة تبقيان هناك حتى الغد ريثما أرتب لكما سيارة للحدود، الوضع صعب جداّ وقد تم تجنيد كل الشباب والرجال، ابحث بمساعدة صديقتي عن شابة مع سيارة مستعدة لهذه المهمة.
⁃ حسناً سنفعل ما تقولين رغم أننا نفضل الذهاب للحدود اليوم مباشرة.
⁃ هذا غير معقول وليس بهذه السهولة.
⁃ حسناً، شكراّ من القلب ريتا العزيزة. أخيراً وبعد أكثر من خمس عشرة ساعة وصل القطار محطته الأخيرة، نزلنا وشعور بالتعب والجوع يرهقنا، كل همنا أن نجد ذلك السائق، تواصلنا معه واذا به واقف بباب مخرج المحطة ينتظرنا بالفعل، سرنا معه حتى وصلنا السيارة غير مصدقات كل ما يحدث معنا، عرفنا مسبقاً أنه يريد مائة وثلاثين غرفنا لقاء هذه التوصيلة وهو مبلغ مضاعف عن العادي لكن لا بأس فالحرب لها شروطها وظروفها، ليس مفهوم ضمناّ أبدا ايجاد سيارة وسائق بهذه الظروف.
⁃ أين حقائبكما؟
⁃ لا حقائب معنا، لم نتمكن من اخذ شيء.
⁃ لا بأس المهم السلامة. تحدّث معنا بلغة انجليزية ركيكة لم تكن كافية لنتفاهم معه، اتصلنا بالزميل أندريه سفير السلام العالمي ليكون الوسيط والمترجم فهو يجيد اللغة الروسية التي يفهمها السائق الاوكراني.
⁃ لو سمحت أطلب منه باسمنا التوقف عند سوبرماركت نحتاج لشراء الماء وبعض الطعام.
⁃ حسناّ سأطلب منه لا عليكما. فعلاً وقف قرب السوبر وقال انتظر ربع ساعة فاسرعا عندي اعمال كثيرة. شاب ناهز عمره الثلاثين بدا متوتر بعض الشيء، يتكلم ببطء وحذر شديد كمن يخشى ان يتفوَه بما لا يجب الحديث عنه، يرتدي معطفاّ باللون الزيتي، يعتمر قبعة صوفية سوداء وشالاً من نفس اللون. أذكر أننا اشترينا السجق بالخردل، علبة بسكويت شوفان، قنينة مياه غازية واربع قناني ماء كبيرة، لم نشأ أن ينفد معنا الماء ونعطش من جديد.
استغرقت الطريق حوالي أربعين دقيقة، مدينة صغيرة وهادئة تكثر فيها الأشجار الكبيرة، شوارعها متعرجة تتصاعد للأعلى نحو سفح التلًة التي بني عليها الفندق وهو بيت من ثلاثة طوابق وثماني غرف حوَلته صاحبته لغرف فندقية للايجار، جدرانه بيضاء قرميده ازرق ذكّرني بمنزل خالي شوقي زريق في بئر السبع الذي حاز على جائزة أجمل منزل في المدينة حينها وأطلق عليه اسم البيت الأبيض، إذ تميّز بهذا اللون من الداخل والخارج وحتى بأثاثه. لهذا الفندق بوابتان صغيرة للمشاة من الجهة الغربية وكبيرة للسيارات من الجهة الجنوبية، كانت مغلقة فأوقف السائق سيارته خارج السور، دخلنا الساحة ثم الفندق، لم نر احداً هناك. قرع الساب جرساً معدنياّ موضوعاّ على طاولة الانتظار فسمعنا صوت امرأة قادما من الطابق الأعلى، أدركنا أن علينا الانتظار، في هذه الأثناء تجوّلت في الأرجاء حتى وصلت قاعة الاحتفالات والاجتماعات، واسعة بما فيه الكفاية تزينها بالونات كثيرة باللون الأحمر والأبيض، باقات ورود اصطناعية بذات الألوان وكميات كبيرة من الشوكولاطة وأنواع البسكويت الموضوع بأدوات زجاجية أنيقة، يبدو أنهم لم يتمكنوا من تفريغ المكان بعد تنظيفه إثر احتفال عيد الحب 14/2/22. سمعت صوت أقدام تنزل الدرج الخشبي الأبيض استدرت لأرى امرأة بدت لي ستينية ترتدي سروالاً بنيًاً وقميصاّ قطنياً ملوناً بدرجات البني والأبيض، شعرها أشقر قصير. تضع كمية من مستحضرات التجميل فاقعة الألوان وتنتعل خفّاً بيتياً من الفرو الرمادي كما تتزيًن بالكثير من الحلي الملونة ذات طابع غجري. بدا الاستغراب على وجه صاحبة الفندق إذ تساءلت بفظاظة:
⁃ ماذا تريدون؟
⁃ هنالك حجز باسم ولاء صباغ.
⁃ لكن المكان مليء ولا توجد غرف.
⁃ نرجو التأكد لو سمحت فقد تم الحجز امس صباحاً. دون ان تكلّف نفيها عناء فحص السجل عادت وقالت أن لا غرف لديها. اتصلنا بريتا وطلبنا منها التحدث مع المرأة بالأوكرانية، أعطتها ولاء الهاتف، تناولته وتحدثت جملتين مع ريتا وقسمات وجهها تكاد تنقط سمًاّ كما يقولون. فهمنا من ريتا أن غرفتنا قد تم تأجيرها لآخرين كوننا تأخرنا عن الموعد عشر ساعات. أما نحن فقد عقدت الصدمة السنتنا.
⁃ أطلب أن تخرجوا من فندقي الان.
⁃ لكن من فضلك ليس لنا مكان نذهب إليه.
⁃ ليست مشكلتي.
⁃ هل يمكن استعمال التواليت؟
⁃ حسناً لكن بسرعة عليّ أن أغلق الباب. دخلت أنا أولاً لغسل وجهي علًني اهدئ من روعي ثم اقنعت ولاء بذاك أيضاً فلا ندري ما الذي ينتظرنا بعد.
⁃ شكرا لك فنحن بحاجة للحمام فعلاً.
⁃ باي باي، أسمح لكما بالجلوس على ذاك المقعد في الساحة.
خرجنا من الباب فقامت المراة الأوكرانية بغلق الباب الزجاجي للفندق ثم أسدلت ستارته البيضاء كرسالة لنا بأن لا نعاود أي طلب منها. المطر ينهمر خجولاً في الخارج كمن يخشى علينا من البهدلة والابتلال بالماء ويخشى علينا من برد أوكرانيا القارص في الأسبوع الأخير من شهر شباط الذي أثبت فعلاً أن لا ثقة بطقسه كما يقول مثلنا الشعبي المتداول في بلادنا (شباط اللبّاط ما في ع كلامه رباط). وصلنا ذلك المقعد الخشبي البني وقلوبنا تكاد تسقط على الأرض من الخوف والقهر. نظرنا حولنا فلم نر السائق الذي أوصلنا، حالياً هو الوحيد الذي نعرفه هنا.
⁃ شكله راح.
⁃ اه وصّلنا ورجع ع شغله.
⁃ شو بدنا نعمل اسّا؟!
⁃ وين بدنا نروح؟!
⁃ كيف بدنا نوصل الحدود؟!
⁃ فش باصات ولا تكسيات ولا حتى سيارات بالشارع!!
⁃ مجبورات نوصل الحدود، لازم نلاقي طريقة.
⁃ خلينا نهدا شوي، نوخذ نفس طويل، نشرب مي ونفكر بالامكانيات. تعانقت وولاء وصلينا معاً:
⁃ " أبانا الذي في السماوات ليتقدّس اسمك ليأت ملكوتك كما في السماء كذلك على الأرض..لا تدخلنا في تجربة لكن نجّنا من الشرير" آمين .
⁃ دعواتك لنا يا أمي، دعواتك فرندتك وولاءها الآن في الشارع وحيدتان في الغربة حيث الحرب ، دعواتك وصلواتك حبيبتي وئام احنا بحاجتها اسّا أكثر من أي وقت مضى، وئام ابنتي الكبرى وهي رمز الوئام والمحبة، مؤمنة بقلبها وأفعالها دون تنظير ودون مظاهر.
⁃ أكيد وئام ضاوية لنا شموع وعم تصلي لنا.
⁃ أكيد حبيبتي أكيد.
⁃ تخافيش يمَا راح نطلع من هون بس انت تتضايقيش عشان السكري وعشان صحتك.
⁃ ما دام انت معي مش راح أخاف.
⁃ ربنا أكيد معنا بحرسنا ويحمينا وراح يبعث لنا حدا يساعدنا ويبعث لنا اشارة تعطينا الأمل.
⁃ أنا متأكدة يا غالية، متذكرة شو عملت قبل كم شهر بالساخنة؟ متذكرة كيف رجعت الحياة لهداك الشخص وانت ما بتعرفيه ولا بتعرفي مين هو؟ ربنا مش راح ينساك وراح يقويك يقويني ونوصل بالسلامة.
⁃ يا رب رحمتك يا رب. فجأة رأينا فراشة ملونة تحط على وردة على طرف المقعد، تحط وتطير ثم تحط من جديد ثم طارت بعيداً.
⁃ فراشة بهذا البرد؟ كيف يعني؟
⁃ هاي طاقات جوجو أكيد، هي شعارها أثر الفراشة لا يُرى، أثر الفراشة لا يزول، أكيد بعثت لنا طاقاتها الايجابية الملونة حتى تحسسنا انها معنا وهيك وصلت ع شكل فراشة. رجاء ابنتي الصغيرة العظيمة المذهلة أنهت اللقب الثاني بمجال حقوق الطفل وتعمل في برلين، جاءت بعطلة عيد الميلاد الى كييف لتحتفل معنا بالعيد.
⁃ عن جد غريب بالذات انها عم تشتي كمان.
بدأنا ندندن معاً أغنية فيروز: بايام البرد بايام الشتي والرصيف بحيرة والشارع غريق، كانت لعذوبة صوت ولاء وأدائها السليم وقع السحر ليس فقط على مسمعي وقلبي بل على الكون كله من حولنا.
(يتبع)
اللوحات بريشة رجاء الصباغ - من وحي تلك المرحلة
إضافة تعقيب