news-details

تداعيات النّكبة والتهجير بدءًا من كييف مروراً ببولندا ورومانيا (الجزء الثالث)| د. رندة زريق- صباغ

" الحقّ الحقّ أقول لكم، مهما كانت مشكلاتكم ثقوا بالموسيقى الراقية، هي مرهم أوجاعكم".

 بهذه الروح الحلوة انتهى شهر أيار قي بولندا لأغلق حلقتي مع هذا البلد الذي أغلق حدوده مع أوكرانيا حال وصولنا اليها 26/2/22، ضمن مئات النازحين الأوكرانيين منهم وغيرهم ممن عاشوا فيها لغرض العلم أو العمل، حينها أكملنا طريقنا لساعات طوال حتى وصلنا مدينة على الحدود الرومانية.

 حفلة استثنائية للموسيقار عازف الكمان الهولندي الشهير (أندريه ريو) وفرقته المذهلة. كما لو أنك في حلم تمشي فوق الغمام محلقاً في فضاء الموسيقى العذبة، يرقص قلبك على ألوان وأنغام الفرح المنتقل بالعدوى بين الحضور ماسحاً الكآبة ولو لساعات معدودات.

اشتهر هذا العازف بجولاته حول العالم مع فرقته المكونة من عشرات العازفين والمغنيين من الطراز الرفيع، يرتدون الملابس الزاهية بألوان الطيف وأكثر، يغنون بفرح، يعزفون بفرح، ينظرون اليك بفرح. في هذه الحفلات يقدمون لك أغنيات الأوبرا، معزوفات الباليه، الفالس، الجاز، يرقصون برشاقة كفراشات تبث فيك طاقات ايجابية ملونة.

أحد أهم إنجازات ريو تكمن في تأسيس أوركسترا يوهان شتراوس في عام 1987. بدأت بتشكيل متواضع يضم 12 موسيقيًا وتوسعت لتشمل فيما بعد مجموعة قوية تضم ما بين 50 و60 فنانًا. تعزز مهارة ريو الموسيقية بمزامنته لكمان ستراديفاريوس من عام 1667، مما يعزز جاذبية الأوركسترا. تحت إدارة ريو، نجح هذا التجمع الموسيقي في سحر جماهير في أوروبا وشمال وجنوب أمريكا واليابان واستراليا. تجدر الاشارة أنه من مواليد 1949 وإن رأيته تعتقد انه في الستينات من العمر ليس أكثر، يعزف ويغني، يقود الفرقة، يرقص ويقفز كطفل تغمره السعادة لا تفارق البسمة وجهه ووجوه أعضاء فرقته المتربعة على مسرح الموسيقى بأزياء جميلة تمدك بالفرح والابتسام. تذكرني هذه الفساتين بتصميمات أمي المبدعة كميليا زريق ربما أول مصممة أزياء فلسطينية في البلاد، الكميليا التي وصلت تصاميمها العالمية ضمن عروض أزياء الهوت كوتور حتى باريس، ميلانو وبرشلونة كما القاهرة في سنوات التسعينات، خاطتها بأناملها وقلبها لتتميز بكونها مصممة وخياطة في أنٍ معاً وهو أمر نادر، فعادة لا يكون المصمّم هو ذاته الخياط، كما لا يكون مهندس البناية هو ذاته بانيها.

حضر ريو للبلاد ضمن جولته السنوية 2018 وأهدتني ابنتي تذكرة حفل في تل أبيب، كان ذاك في عيد ميلادي الخمسين، أن تحظى بكل هذا الفرح غير المؤقت إنّما هو هدية لا تقدر بثمن تستحق سعر التذكرة المرتفع وأكثر. هذا العام أيضاً في أيار أهدتني تذكرة لحفل أندريه ريو في كاتوفيتسي بولندا حيث تقيم وتتعلّم طب الأسنان. في كل عرض يقدّم ريو فنانين جددا يلقي الضوء على مواهبهم وأصواتهم، كانت نجمة الليلة مطربة أوكرانية قدمت أغنية تراثية رومانسية بأداء جميل جداً وكلمات تصف صفاء السماء هذه الليلة لدرجة تتمكن فيها من قطف النجوم. احب الجمهور الأغنية كما تعاطفوا مع الشابة الهاربة من الحرب، تساءلت ترى هل يجد موهوب أو موهوبة من غزة يداً تمد له العون والانتشار في هذه المرحلة القاسية؟!.

 نجمة الحفل كانت اليافعة الهولندية ابنة الخمسة عشر عاماً (أيما) الفائزة ببرنامج The kids voice في هولندا، تتمتع بصوت قوي ساحر وقسمات أوروبية لطيفة، يخبرنا الموسيقار قائد الحفل أنها تعاني من مرض نادر في المعدة والأمعاء ، فلا يمكنها تناول الطعام والشراب أبدا بل يتم إدخال ما يحتاجه جسمها من خلال جهاز ملصق بمعدتها، فتاة صغيرة لا تعرف طعم الطعام والشراب ليس لعدم توفره كما هو حال أطفال غزة، بل لأن خللاً خطيراً ينغّص جسدها ويعيق معدتها، تحب الغناء وتطمح لأن تصبح مغنية مشهورة، ها هو الفنان الانسان أندريه ريو يأخذ بيديها ويسعى معها لتحقيق حلمها.

أطن أن هذه الفتاة بطموحها وتحدياتها قد تكون مثالاً لنا جميعاً لنقاوم ونقاوم حتى نحقق مرادنا. يصفق لها الملايين ويحتذون بها كما يدعمون الجمعية التي أسستها لمساعدة وعلاج الأطفال المصابين بأمراض مشابهة. لم ترَ عيناي منظراً كهذا من قبل -أعداد لا تحصى من البشر- سوى في حفلة الفنان المصري مصطفى قمر خلال مشاركته بمهرجان غزة الدولي للثقافة والفنون 1999, كانت زيارتي لغزة الأولى والأخيرة للأسف، ذهبت لتغطية نشاطات المهرجان مندوبة عن إذاعة (راديو 2000)، كمعدة ومقدمة برنامج (أدب، فن وطرب)، رافقتني في هذه الرحلة التاريخية رفيقة دربي وتوأم روحي أمي العظيمة الفنانة كميليا زريق، أما بناتي فقد بقين تحت رعاية وعناية أختي الحبيبة وشاح التي تعتبر أختهن الكبرى الحنونة والطيبة. خمسة وأربعون ألف شخصٍ ملأوا مدرج ستاد كرة القدم حيث أقيمت حفلات المهرجان، نحن الصحافيون سمح لنا طبعاً بدخول كواليس المسرح لإجراء المقابلات والتقاط الصور مع الفنانين، أزحت الستارة الرمادية السميكة لألقي نظرة على الحضور، أذهلني هذا الكم من البشر المتمايل فرحاً يغني بصوت عالٍ بانتظار بدء الحفل المنتظر، أستذكر الآن كيف أخافني هذا المشهد من الرؤوس التي لا تبدو تقاسيم وجوهها واضحة وهذه الأيدي المرفوعة إلى الأعلى رقصاً، طرباً وفرحاً. أغلقت الستارة حتى دون التقاط صورة للذكرى بكاميرتي المهنية التي اقتنينها من مالي الخاص قبل عام لأوثق مشاركتي وتغطيتي لمهرجان جرش الثقافي العريق بالأردن.

 

 /مغادرة كييف

 

 آلاف يقفون بالانتظار، لا يعرفون السبيل كل همهم ايجاد تذكرة ومقعد في أحد القطارات بهدف الخروج من العاصمة بل من الدولة فيصلون بر الأمان، يملأ هؤلاء الفارون كل سنتمتر من ساحات المحطة، يفترش بعضهم الأرض، يتوكأ بعضهم على حقائب أو وأكياس تحوي ما خفّ حمله وغَلى ثمنه، لن أكون أنا طبعاً إن لم يعد بي ذلك للتهجير الفلسطيني وطرد أهالي قريتي عيلبون منها بعد مجزرة دامية، أهالي عيلبون كغيرهم من سكان القرى المهجرة لم يجدوا الوقت ولا الامكانية لحمل ما هو ثمين ولا ما هو بخس، خرجوا من ديارهم بملابسهم، بعضهم حفاة أيضاً، بكى الأطفال خوفاً، جوعاً، عطشاً وطبعاً بكوا من البرد والمطر، لا قطار ولا حتى حافلة تقلّهم بل سيراً على الأقدام.

 كان لا بدّ لنا من التدافع بين هذه الجموع الواقفة لنصل قمرة موظفة التذاكر، عدد المنتظرين بالدور كبير بدا عليهم التعب واليأس.

            ⁃           إلى أين أنتم متوجهون؟

            ⁃           ليس ذلك مهماً، المهم أن نجد تذكرة وقطار ينطلق من هنا، لا تهمنا الوجهة حالياً.

            ⁃           ماذا تقصد؟

لا تذاكر، لا قطارات وحتى لا موظفين للاستفسار. نظرت وولاء لبعضنا البعض وقرّرنا أن علينا الاستفسار أكثر والبحث عن السبيل. لن نقع فريسة هذا الكلام والاستسلام،. نظرنا باتجاه اللوحة الرقمية الالكترونية التي تغطي ثلثي حائط مدخل المحطة الأيمن، عشرات الأرقام والأسماء للمدن والمحطات لأرقام القطارات والأرصفة وغيرها من معلومات تيسّر أمر المسافر، بحثنا عن وجهتنا فلم نجدها ضمن القائمة، انتظرنا ظهور معلومات جديدة، انتظرنا وانتظرنا لكنها لم تتغير فأدركنا أنها عالقة قد تم توقيفها بسبب الحرب وتغيير كل المسارات بل والغاء الكثير من الرحلات خوفاً على حياة المسافرين من القصف.

 بدا التعب يتغلغل الى نفوسنا، بحثنا عن مساحة ولو صغيرة نجلس فيها على الأرض فلم نجد… اهتمت ولاء بإيجاد نقطة لشحن الخليوي طبعاً وقفت بالدور مع العشرات ذوي نفس الهدف حتى حان دورها، فلا يعقل أن نبقى بهاتف دون شحن فهو أداتنا الوحيدة حالياً للتواصل مع الغوالي نطمئنهم عنا والسبيل الوحيد للتواصل مع السيدة ريتا صديقتنا من مدينة قيسارية -ناشطة اجتماعية عضو في مجلس السلام العالمي- ريتا أوكرانية الأصل وصلت البلاد قبل عشرين عاماً ولها الكثير من الأصدقاء فيها وفي رومانيا وهي وجهتنا التي نصحتنا بها صباح اليوم قبل أن نترك شقتنا في كييف.

 نقف بين هذا الحشد الأوروبي لا حول لنا ولا قوة، غريبتان لا نجيد اللغة الأوكرانية، هم لا يجيدون الانجليزية وطبعاً لا مجال للتفكير بالعربية، قبل أن أعلن الاستسلام لمحت شابين بملامح بدت لي إنجليزية، توسّمت خيراً وتوجهت أستفسر منهما عن بعض الأمور.

            ⁃           نحن أمريكيان وصلنا كييف قبل أسبوع بهدف توثيق الأحداث، كنا في زيارة سياحة للبرتغال، هناك وبعد سماع أنباء الحرب على أوكرانيا قرّرنا السفر لكييف الآمنة لنتحقق ونلتقط بعض الصور وبعض التقارير، اهتممنا بهذه الحرب وهذه القضية فرغبنا برؤيتها عن قرب.

            ⁃           قررتما المغادرة فور احتدام الأمور في كييف؟

            ⁃           نعم للأسف، نخشى تطورات الحرب ونخاف أن نصاب بأذىً فيحزن أهالينا الموجودون في نيويورك عبر البحار.

            ⁃           هل شجع أهاليكم على دخول أوكرانيا رغم الحرب؟! نظرا لبعضهما، ابتسما وقال الأكبر - طويل القامة رفيعها، أزرق العينين ذو شعر أشقر ناعم:

            ⁃           لا يعرفون أننا هنا، سافرنا لأوكرانيا بالسر دون إعلامهم فنحن متيقنان من رفضهم، ها نحن عالقان لا نعرف سبيلاً للخروج من هنا.

            ⁃           نحن أيضاً نحاول الخروج لكن لا قطارات ولا تذاكر ولا سبيل، لكننا سنحاول ولن نيأس، نتمنى لكما الخير، مع السلامة. قلت لولاء مازحة أحاول ترطيب الأجواء:

            ⁃           "جبناك يا عبد المعين تتعين طلع بدك مين يعينك". ضحكنا، تعانقنا وقالت:

            ⁃           كلشي راح يكون منيح ماما، ما دامنا سوا راح نمرق هالأزمة ع خير. يا إلهي ماذا سنفعل الآن؟! هل نبقى هنا نفترش الأرض بانتظار جودو؟ هل نعود لشقتنا في كييف سيراً على الأقدام وقد نضل الطريق؟ جلسنا على الأرض نستجمع بعضاً من قوانا فجأة سمعت أحداً يتحدث بلغة بدت لي عربية، كغريق يتمسّك بقشّة شنّفت آذاني ووقفت دون السماح لوجع ركبتي ومفاصلي بمنعي، أسرعت ولاء وأمسكتني كي لا أقع، نظرت باتجاه الصوت فرأيت شاباً بملامح شرقية، توجهت إليه وسألت:

            ⁃           مرحباً، هل تتكلم العربية من فضلك؟

            ⁃           نعم، تفضلي

            ⁃           هل تعيش في كييف؟

            ⁃           نعم أنا طالب اقتصاد وإدارة أعمال.

            ⁃           حضرتك من المغرب؟

            ⁃           أنا من الجزائر، حضرتك؟

            ⁃           أهلا بك، نحن من فلسطين.

            ⁃           فلسطين الحبيبة با هلا ومرحب بيكم، نحن في الجزائر نحب فلسطين والفلسطينيين برشا (كثيراً). ويش تحوسون (كل ما تريدون) أنا جاهز إبشري خيتي.

            ⁃           تسلم شكرا بالزاف، والفلسطينيون أيضاً يحبون بادكم ويقدرون دعمكم للقضية ولحق الشعب بدولة مستقلة، ولا ننسى نضال الجزائر ام المليون شهيد.. علينا الوصول للحدود الرومانية لكن المشكلة لا توجد تذاكر.

            ⁃           وانا عليّ الوصول للحدود البولندية وأعاني من نفس المشكلة. في هذه اللحظة بالذات التي أمكن أن نقع فريسة التعب والقنوط رن هاتف ولاء توسّمنا خيراً، كان المتصل خال بناتي الذي لم تلده أمي هائل شحادة، أراد الاطمئنان علينا، شرحنا له الحال وأن لا تذاكر.

            ⁃           "تذاكر شو هاي!! انتو بحرب حرب.. بهيك حالة بطلع بقعد محل الشوفير.. يلا فش وقت اعرفوا وين الترين واركبوا فيه، حرب هاي حرب وخطر، مسألة حياة أو موت"! كان هذا الكلام من الخال هائل الجدع بمثابة حقنة أدرينالين في دمائنا، لنعود إلى قرارنا أن لا استسلام.

            ⁃           بس اذا ممكن تواصل مع رجاء ووئام طمنهن عّنا.

            ⁃           تهكلوش هم أنا معهن كل الوقت بطمنهم وبهديهن، المهم انتو ديروا بالكو ع حالكو وانطلقوا. توجهت بالكلام لجواد الجزائري طلبت منه مساعدتنا بمعرفة رصيف قطار رومانيا، فلبّاني مباشرة وقال اتبعوني لو سمحتم. هو يمشي ونحن نتبع خطاه صعوداّ الدرج ثم نزولاّ ثم سيراً بين القطارات فعودة للبداية حتى نجح اخيراً بايجاد القطار المطلوب الذي وقف أمامه طابور من المسافرين، وقفنا معهم ننتظر ونعدّ كلمات نقنع بها مراقب التذاكر للسماح لنا بركوب القطار، شكرنا جواد من الصميم، ودّعنا ودمعة في عينيه، تمنينا لبعضنا الخير والسلامة، لوّح بيديه الاثنتين وبقي واقفاً حتى استقليت وولاء القطار. تدربنا على خطاب وأعذار نحكيها للمراقب ليسمح لنا بركوب القطار، لكن لم نحتج لقول أيّة كلمة، كانت الأبواب مفتوحة والدخول سهلاً دون تعقيدات لا مراقب ولا مفتش، قلنا في أنفسنا سنجلس على الدرج أو أرضية القطار لا بأس المهم الوصول بسلام، لم يكن قطاراً عادياً ذي كراسٍ بل كانت قمراته مزودة بأربعة أسرّة من الجلد الأحمر، اثنان من كل جهة، فهو قطار المسافات الطويلة جداّ يحتاج خلالها المسافرون للاستلقاء والنوم لبضع ساعات، وجدنا قمرة بها سرير فارغ، سارعنا بالجلوس عليه، السرير الذي فوقنا استلقت عليه صبية عشرينية، قبالتها أم وطفليها وعلى السرير الذي تحتهم مسنة قابعة في طرف السرير الداخلي تنظر من الشباك للخارج. كما لو انها تصلي أو تنتظر الفرج. قاربت الساعة الخامسة والنصف عصراً، أعلنوا أن القطار سينطلق بعد سبع دقائق، لم نحتج للتبرير، لم نحتج لمساعدة أحد ولم نضطر للجلوس مكان السائق طبعاً كما نصحنا الهائل، لكن هذه الجملة من قبل هائل شحادة هي التي دفعتنا للمغامرة حتى بوجود المخاطرة لتتكلّل هذه المرحلة بالنجاح.

 أرسلت ولاء رسائل واتس اب للعائلة في البلاد للاطمئنان علينا ورسالة للصديقة روتي في قيسارية التي تابعتنا خطوة بخطوة. كنا على قناعة تامة بأن المراقب/ة سيتوجه الينا عاجلاً أم آجلاّ طالباً التذاكر التي لا نملكها، استعدادا لامتصاص غضبه ودفع المخالفتين أخذنا نعدّ ما نملك من نقود ونحضرها في جيب الحقيبة الصغيرة. أطلق القطار صفّارته وانطلق برحلة وجب أن تكون سبع ساعات لكنها استمرت ثلاث عشرة ساعة لأسباب أشرحها في الجزء التالي. دخلت امرأة ممتلئة تعقص شعرها الأشقر للخلف ترتدي بدلة شركة القطارات الرسمية، ظنّنا أنها المراقبة، ليتضح أنها توزع للركاب شراشف ووسائد ليرتاحوا، كما قامت بغلق ستائر نافذة القطار، أطفأت الضوء وتحدثت بالأوكرانية ثم أغلقت الباب وخرجت تكرر العملية ذاتها في باقي قمرات القطار. مضى وقت قصير حتى عادت نفس الموظفة برفقة مسافر يرتدي بزّة ريمية بربطة عنق، يحمل حقيبة جلدية فخمة، ينتعل حذاء أسوداّ لامعاً، ذي ملامح أوروبية وقسمات قاسية، جلس على طرف السرير الأسفل من اليمين، بدا عليه الانزعاج من وضع القمرة وساكنيها، لف الوسادة الصغيرة -التي ناولته اياها الموظفة- بشال كحلي من الصوف كان على عنقه، وضعها خلف رأسه واتكأ على جدار القمرة مغمض العينين كمن لا يرغب برؤية أحد قربه. عادت ذات الموظفة بعد نصف ساعة تقريباً خاطبت الرجل بالأوكرانية فما كان منه سوى ان وقف مبتسماً فرافقها خارج القمرة مسروراّ ليعود بعد دقيقة لأخذ الشال والمظلّة التي كان قد علّقها على طرف السرير، لم نفهم ما دار من حديث لكن أدركنا أنه كان قد حجز قمرة خاصة به منذ البداية وبسبب الوضع حدثت خربطة معينة جعلته يتقاسم مع عامة الشعب ليس فقط قمرة بخمسة مسافرين وانما اضطر للجلوس على حافة سرير المرأة العجوز. من الطبيعي أنه لم يطفىء النور ولم يغلق الباب خلفه فما كان من الموظفة سوى العودة للاعتذار على الجلبة واغلاق الباب، اما نحن تنهدنا ثم ابتسمنا باستغراب من نفوس البعض التي لا تغيرها الظروف ولا حتى الحروب.

في المحطة التالية بعد ساعتين نزلت الصبية العشرينية من القطار ليفرغ مكانها في الاعلى، بعد مسير القطار وعدم دخول مسافر جديد للقمرة صعدتْ ولاء للطابق العلوي وبقيت أنا في السفلي، فتحنا والوسائد والشراشف استلقت كل منا على سرير من الجلد الأحمر علّنا نغفو قليلاً فنرتاح وتستجمع قوانا للمراحل القادمة. تجاوزت الساعة الثامنة مساءً لا زال بعض الضوء يتسرب عبر النافذة، أزحت الستائر لأريح نفسي بمناظر السهول الخضراء اليانعة حيناً وغابات الأشجار الباسقة الرفيعة حيناّ ليدقّ باب أفكاري سؤال موجع: ما دامت أوروبا تحظى بهذه المساحات الشاسعة التي لا يعيش فيه بشر، تتمتع بالبحيرات والمياه الوفيرة، لماذا اذن لم يمنحوا اليهود أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض هنا؟ لماذا منحوهم أرض أجدادنا وليتهجر الفلسطينيون في أصقاع الأرض!!

 

 الفن والموسيقى

 بالعودة لحفل نهاية أيار وفي كلمته الختامية خاطبنا أندريه ريو قائلاً: "بعد أكثر من ثلاثين عاماً من سعيي لمنح الفرح لنفسي أولاً وللناس ثانياً برفقة اعضاء فرقتي الجميلة أخاطبكم من القلب فصدّقوني : "مهما كانت مصاعب حياتكم ومشكلاتكم ما عليكم سوى أن تثقوا بالموسيقى فهي مرهم أوجاعكم مهما عظمت، عليكم بالموسيقى فالموسيقى ثم الموسيقى هي ما يرقى بأرواحكم ذواتكم، وقلوبكم، ولا تنسوا المحبة فهي السبيل للاطمئنان والأمان".

هنا لا بد من استذكار الخالد جبران خليل جبران:

" أعطني الناي وغنّي فالغنا سر الوجود (...) المحبة تطحنكم تجعلكم كالثلج أنقياء".

 ترافقت وولاء إلى هذا الحفل الضخم وصلنا قاعة الإيرينا بأسرع وأسهل السبل لتعود بي الذاكرة لتلك الطريق الطويلة التي سلكناها معاً قبل أكثر من عامين، كم تعبنا حتى وصلنا، طوال فترة الرحيل هذه أدركت ولاء أن الموسيقى هي الحل والمرهم، وأدركت أن محبتي لها، لوئام ورجاء، لأمي، زوجي واخوتي هي السبيل والأمل للتحدّي والاستمرار، اختارت أغاني جميلة راقية كروح ذوقها الراقي، تشاركنا سماعات أذن الهاتف الصغيرة وكلّ منا وضعت سماعة في أذن واحدة نصغي لأجمل واعذب الألحان فيهدِّأ ذلك من روعنا ويمدّنا بالهدوء تماماً كما تصرّفت في رحلتنا الطويلة الشاقة سيراً على الأقدام التي امتدت بين آخر بلدة شمالي أوكرانية لنقطع الحدود ثم نصل أول بلدة جنوبي رومانية.

(يتبع)

كاتوفتسي/ بولندا

 

 

/صورة توضيحية – محطة قطارات في كييف، 2022 (شينخوا)

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب