في مداخلته امام مؤتمر معهد دراسات الامن القومي ومعهد مسغاف (27/5)، اوضح تساحي هنغبي رئيس مجلس الامن القومي أنه بعد الانتهاء من عملية رفح والتي تجري بشكل عسكري مكثف، سوف تتحول الانظار بشكل جوهري نحو الجبهة الشمالية. وفقا لتقديره فإن عملية رفح سوف تستغرق أسابيع معدودة لتنتهي هذه المرحلة من الحرب في غزة أي الحرب المكثفة. وأكد هنغبي على أن ما يطلق عليه اليوم التالي هو "اليوم التالي ما بعد حماس"، اي ما بعد القضاء على حماس، مشيرا الى ان المهمة تتطلب وقتا طويلا وهناك عدة خيارات بلورها مجلس الامن القومي وعلى الحكومة الاختيار واتخاذ القرار. تتراوح هذه الخيارات بين سيطرة عسكرية وحكم عسكري اسرائيلي لغزة وهذا ليس خياره المفضل وانما بصيغة مسؤولية أمنية اسرائيلية مسنودة بإدارة دولية عربية فلسطينية لحكم غزة وادارة شؤونها المدنية.
يشير هنغبي الى انه بعد استكمال عملية رفح سوف تنتهي المرحلة الثانية من الحرب والتي يعرّفها بأنها "الحرب الاستراتيجية" والقائمة على الاجتياح العسكري القوي والواسع بهدف السيطرة الكاملة، وتتراجع وتيرة الحرب الكثيفة على غزة، وتتمحور في "العمليات المحددة"، في حين يتيح ذلك تحويل كل القوات اللازمة الى الجبهة الشمالية والتي ستشهد وفقا له تحولات جوهرية.
في هذا السياق أعلن الجيش الاسرائيلي (19/5) انسحاب لواء المظليين من مخيم جباليا في شمال القطاع. مقابل الاعلان قبل ذلك بيوم عن اضافة لواءين لتكثيف عمليته في اجتياح رفح. كما يعتبر الخروج من جباليا مؤقتا الى حين تتطلب الاوضاع اجتياحا مجددا، ليكون هذا نمط عمل جيش الاحتلال في غزة.
- يسعى هنغبي كما يبدو الى تأمين خط تراجع لنتنياهو عن التزامه بما أطلق عليه "النصر على بعد خطوة" بعد ان اعتبر الاخير بان رفح هي الخطوة المتبقية لتحقيق "الانتصار الساحق". كما ويوفر مستشار الامن القومي الاسرائيلي مسعىً توافقيا بين نهجين داخل كابنيت الحرب؛ موقف الاغلبية القائل بضرورة وقف الحرب حاليا واعطاء الاولوية للصفقة، وهو الموقف الداعي الى رفض انتقال الوجود الاسرائيلي الى احتلال دائم لغزة بما فيه اقامة منظومة حكم عسكري وادارة مدنية، مقابل موقف لا يرى افقا لإنهاء الحرب، بل استمرارها مهما كان الثمن سعيا لتحقيق اهدافها في إطار القناعة بأن الاهداف تتحقق فقط بالخيار العسكري المكثف. وبين منظومة عربية ودولية وعناصر فلسطينية محلية خارج سلطة حماس وخارج السلطة الفلسطينية، وبين من يرى اهمية للتعويل على ادارة السلطة الفلسطينية، كل ذلك في سياق مسؤولية أمنية اسرائيلية دونما حكم عسكري اسرائيلي.
- في حديثه يوم 29/5 عن ان الحرب على غزة ستستغرق سبعة أشهر اضافية على أقل تقدير، يسعى هنغبي الى خلق اساس توافقي داخل كابنيت الحرب وكما يبدو للحفاظ على تركيبته والحيلولة دون انسحاب غانتس وايزنكوت الوشيك، وذلك لمن يعتبرها حربا مستدامة ولمن يسعى لإيجاد مخرج منها للحيلولة دون تورط اسرائيل اكثر مما تتورط اليوم. كما أنه يوفر قاعدة للتوافق بصدد الصفقة والتي لا تتعارض مع تقديرات الامن القومي الاسرائيلي، بل تتكامل معها. وفقا له، فإن الموقع الاستراتيجي هو محور فيلادلفي الذي "تسيطر اسرائيل حاليا على 75% منه" وطوله نحو 14 كم، يجعل انجاز المهمة ممكنا ويحول دون "تدفق السلاح الى حماس"، واعتقاده بامكانية تسوية الامور مع مصر في هذا الصدد، وذلك بعد ان تراجعت اسرائيل عن لهجتها الهجومية تجاه مصر في اعقاب التوتر بين البلدين.
- يطرح هنغبي ترجمة مجلس الامن القومي الاسرائيلي لمفهومي "الحرب المستدامة" و"الاحتلال المستدام"، واذ ينفي امكانية استيطان قطاع غزة التي يروج لها تيار الصهيونية الدينية وتحظى بتأييد بين اوساط الليكود، الا انه يتطرق الى ذلك من باب التقدير السياسي لمصلحة اسرائيل وليس للقرار السياسي في هذا الصدد، كما انه يتجاهل الحديث عما يمكن تسميته بالمطبات السياسية الاستراتيجية مثل عودة النازحين الفلسطينيين الى شمال غزة، و"الهجرة الطوعية"، والانسحاب ومستقبل المنطقة العازلة وممر نيتسريم والرصيف العائم والقواعد العسكرية الأمامية، كما يبقى أمد الحرب مفتوحا.
- يكشف هنغبي أن اسرائيل معنية بمعالجة كل جبهة على انفراد بمعزل عن الجبهات الاخرى، وبعكس حزب الله الذي حدد استراتيجية المواجهة باعتبارها في حدود حرب الاسناد لغزة وتنتهي حين تنتهي الاخيرة، فإن المسعى الإسرائيلي هو عدم ادارة الحرب و"التطورات الجوهرية" على جبهتين معا، بل ان الوجهة الاسرائيلية هي التفرغ للجبهة الشمالية مع لبنان باعتماد الابقاء على الخيارين السياسي الدبلوماسي والعسكري قائمين فعليا، وهو لا يتجاوز المحادثات الفرنسية والامريكية المكثفة مع لبنان، بل ضمن سقف مطالب الدولتين الغربيتين.
للخلاصة، تشير تقديرات مجلس الامن القومي الاسرائيلي الى تعاظم القناعة بصدد تفضيل التوصل الى صفقة وتبادل أسرى في هذه المرحلة من خلال صيغة تتيح مخرجا من الحرب مقابل امكانية لمواصلتها ما يعني صفقة جزئية؛ واذ تنتقل الاولوية العسكرية الاسرائيلية الى الجبهة الشمالية مع لبنان، الا ان ورطة اسرائيل في حربها على غزة تتعمق ولا من مخرج عسكري. التحول في الاولوية الى الجبهة الشمالية لا يعني بالضرورة حربا غير محسوبة النتائج ولا يزال من المستبعد توسيعها الى حرب مفتوحة، على الاقل مرحليا؛ هناك متغيّر ميداني قائم على أن السيطرة الاسرائيلية على غزة باتت كاملة عملياتيا، باحتلال مستدام، لكن اهداف الحرب الرئيسية لم تتحقق. وعدم تطرق هنغبي الى الوضع المتفجر في الضفة الغربية يعني التصعيد فيها، وتغييب اي افق للحل السياسي إسرائيليا. داخليا، ورغم مساعي هنغبي بصفته الرسمية فإنه في الواقع السياسي الحزبي المأزوم وتورط الدولة في الحرب على غزة، لا تبدو اية افاق لوقف التصدع بين المنظومات او بين التيارات السياسية.
صورة ملتقطة يوم 25 أيار 2024، مشهد لدخان ناجم عن قصف إسرائيلي في الجبين بلبنان. (شينخوا)
إضافة تعقيب