الزفرة الأولى: التلم الاعوج من الثور الكبير
قال الصديق المرحوم محمّد نفّاع مرّة "التلم الاعوج من الثور الكبير"، قال وهو يتحدّث عن دور أمريكا في المنطقة. أمريكا هي الثور الكبير قال أبو هشام. وقال أيضًا أينما تولّي أمريكا وجهها نحن نولّي وجوهنا بالاتجاه المعاكس. سألته من تقصد ب"نحن"، قال: الحزب. وأمريكا التي يعنيها أبو هشام هي الإمبرياليّة. لكنْ ما قصّة التلم الأعوج والثور الكبير بالضبط؟ إذا كان هناك ثور كبير فهناك ثور صغير. من عادة الفلّاحين أن يحرثوا أرضهم بمحراث اسمه فدّان. والفدّان عندهم على نوعين. الفدّان الفردانيّ، وهذا يجرّه واحد من البقر أو الحمير أو الخيل. وهو يصلح بصفة أساسيّة لأرض السهل. والفدّان "المِجْوِز" أي المزدوج. وهذا يجرّه اثنان منها. وهو يصلح على العموم لأرض وعريّة أو سليخ بور. وراء المثل المعروف قصّة حقيقيّة نحن مصدرها. وهي تتحدّث عن حرّاث من بلدنا كان يحرث بفدّان "مجوز" يجرّه ثور كبير وثور أصغر منه. كان الثور الكبير في الفدّان أقوى من الثور الصغير، أقدر وأسرع. وحتى تستقيم الأتلام لا بدّ من تكافؤ قوى الدفع بين الثورين. لا بدّ أن يجرّ كلاهما بنفس القوّة والوتيرة، وإلّا ستطلع الأتلام عوجاء ملتوية بالاتجاه الذي يشدّ إليه الثور الأكبر والأقوى والأسرع. منطق فيزيائيّ طبيعيّ محسوم. وهكذا يجد الثور الصغير نفسه يلهث وهو يسير بشكل معوجّ وراء الثور الكبير.. ألا يعلم الفدّان "المجوز" في المنطقة أنه يحرث في أرض سليخ وعرة صعبة لا تقبل العوج؟! ألم يسمع بالمثل الذي يعرفه كلّ طفل فينا "اقعد إعوج واحكي صحيح"؟! ألا يعرف أننا نحبّ الصحيح ولا نحبّ الأعوج؟!
وهذا المثل يحمل معنيين اثنين: القوّة تحكي ولها كلّ الحكي. هي صاحبة القرار بصرف النظر عن الأثر. والقوّة قد تعمي البصر عن الصراط السويّ المستقيم. وأمريكا ثور كبير وتيس. تضع رأسها في التراب لا ترفعه. تمشي مواربة فتخرج كلّ أتلامها عوجاء بعيدة عن الاستقامة سنوات ضوئيّة.. ولو كانت تريد السلام العالميّ فعلًا لنصرت الحقّ الفلسطيني وأنصفته من إسرائيل. لو كانت تريد السلام العالميّ، وسلامة إسرائيل وأمنها فعلًا، لألزمتها بالسلام العادل الشامل الذي ينهض على الحقّ، السلام الذي يسعى إليه شعبنا باستمرار بكلّ ما يملك من قوة الإصرار، السلام الذي ينبغي لإسرائيل أن تلاحقه، هو الأولى أن تطارده، بيديها وأظافرها تطارده.
الزفرة الثانية: الديموقراطيّة الإسرائيليّة وفنّ الطرديّات
حكومة إسرائيل كاتم صوت. الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط كلّه، من محيطه غربًا إلى خليجه شرقًا، تحوز أضخم ترسانة من أسلحة الطرد والكتم. أعني بالطرد الصيد. والكتم من معلولات الطرَد. يظلّون يطاردون الفريسة حتى يكتموا أنفاسها، وتلك تأبى أن تنكتم. الطرديّات فنون وأشكال وأنماط. كنّا نحن العرب نتقنها مع حيوانات البرّ والطير، ثمّ صيّرناها غرضًا من أغراض شعرنا، حتى جاءت أنظمتنا العربيّة الحاكمة وحوّلت مسارها إلى البشر. ويبدو أنّ الطرديّات هي الغرض الشعريّ الوحيد في الشعر العربيّ الذي لم يندثر. لم يندثر حتى يومنا هذا ولم يتراجع، بل تطوّر باتجاهات جديدة ومبتكرة. انتقل الطرد من القفار والبراري والفيافي إلى ميادين المدن الكبرى، إلى الحارات والأزقّة والشوارع، إلى المقاهي والقاعات والنوادي. ومن يقرأ الأدب العربيّ المعاصر يدرك مقدار الطرَد الذي تمارسه الأنظمة العربيّة ضدّ شعوبها. والنظام في إسرائيل، الذي يباهي كذبًا وبهتانًا بما ليس عنده، لا يختلف عنها في هذه الجزئيّة ولو بمثقال قيراط إن لم يكن أسوأ منها.. وحتى لا أتّهم بالمزايدة الشعاراتيّة أذكّر بثلاثة أمثلة:
حين تطارد الجامعات الإسرائيليّة طلابًا وأساتذة فيها على موقف مبدئيّ إنسانيّ، على جملة أو كلمة هنا أو هناك، على توقيع، على أغنية، على بيت شعر قاله شاعرٌ قبل ألف عام أو يزيد، حتى على إصبع إبهام في "لايك" خجول غافل مارق لا يعني نفسه، فاعلم أنها تحرّم على نفسها الجامعات أول معاني الديموقراطيّة. خزيٌ يتبعه عار! حين تحاول منظّمة الطلّاب الجامعيّين العامّة في إسرائيل التأثير على الجامعات بقوانين مكارثيّة تطلبها طلبًا من الحكومة الفاشيّة فاعلم أنّ الجيل القادم المؤتمن على مستقبلنا يسير باتجاه ظلاميّ قمعيّ مرعب. خزيٌ يتبعه عار! وحين تطارد دولة المؤسّسات الرسميّة في إسرائيل، بطلب رسميّ من رئيس الحكومة نفسه، الهيئات القضائيّة الأمميّة في العالم بأدوات بوليسيّة استخباراتيّة ظلاميّة تكون الدولة قد تحلّلت من آثار التفكير الديموقراطيّ أصلًا. ومن يتحلّل فكره من مبدأ أو معتمد لن يقدر على ممارسته بتفاصيله. خزيٌ يتبعه عار!
ولو نظرنا إلى هذه النماذج الطرديّة الثلاثة لوجدناها كلّها تستقيم في معادلة ثلاثيّة واحدة دوالّها سياسيّة بالضرورة. كلّ هذه الدوالّ موصولة، بصفة أو بأخرى، بالسياسة الإسرائيليّة تجاه قضيّة فلسطين. كلّها على الإطلاق والتعميم. لا يمكن فصل السياسة عن تعريف الديموقراطيّة لا بصفة نظريّة ولا بصفة إجرائيّة. لا تنفصل السياسة الخارجيّة عن السياسة الداخليّة. لا يمكن فصل الاحتلال عن ثقافة الملاحقات والفنون الطرديّة. فهذه من تلك. ثقافة الصيد والكتم تتدحرج بسرعة، من فوق إلى تحت، إلى الوعي الجماهيريّ العامّ. تنسرب بقوّةِ ضاغطة إلى التفكير الجمعيّ الشعبيّ. وعند الأزمات والعواصف تذوب الفوارق وتُرفس الخلافات الحزبيّة خارج الدائرة وتتآكل القدرة على التفريق بين يمين ويسار. الاحتلال يقزّم مفهوم الديموقراطيّة يمسخه ويشوّهه على المستويين الرسميّ فالشعبيّ. المعادلة ثلاثيّة بالضرورة: الاحتلال يكرّس حالة حرب تراكميّة تصاعديّة، والحرب تبلور وعيًا جماهيريًّا قمعيًّا لا يطيق الآخر. الاحتلال والحرب والحسّ الديكتاتوريّ القمعيّ ثلاثةٌ ينسل الواحد من الآخر. الاحتلال أصلٌ خبيث ومصدر شرّ، عنه تنشأ كلّ تمظهرات الخراب. الحرب المستمرّة منذ عقود، رديفة الاحتلال، تنمّي رهابًا جماهيريًّا في إسرائيل يضخم ويعظم باستمرار، يتأزّم ويستعصي ويصير جنون ارتياب.
الزفرة الثالثة: أحزاب الوسط و"كندرة" محامٍ متبرجز مستقرط
سمعت أنّ حزب جانتس عالق في الحكومة علقة سخنة لا يُحسد عليها. إذا خرج منها عاقبه الجناح الأيمن في الحزب وإذا بقي عاقبه الجناح الأيسر فيه. زي بالع الموس ع الحدّين. ما هذه الأحزاب التي هي لا يمين ولا يسار؟ ما هذا الوسط؟ ما هذا الشيء الذي فيه من اليمين بمقدار ما فيه من اليسار؟ ومن أقدر من محمّد نفّاع على الإجابة عن هذه الأسئلة! يقول أبو هشام وهو يشبّه الأحزاب الوسطيّة ب "كندرة" محامٍ صغير متبرجز مستقرط: الحذاء "بنّيّ لامع مزهوّ مشقرق على ظهره من الضحك لا هو بالطويل ولا بالقصير كأحزاب الوسط".
قبل سنوات قليلة نشرتُ سلسلة مقالات عن هويّتنا الجمعيّة. وكان بعض هذه المقالات وقتها تعقيبًا على مقالات كتبها النائب أيمن عودة في مسألة الهويّة. في كلّ هذه المقالات أكّدت بإصرار على أنّ هويّتنا في الواقع ثلاثيّة بصرف النظر عن حقّنا أو مشيئتنا في تصديقها أو إنكارها. هذي حقيقة. وهي المركب القوميّ العربيّ والمركّب الوطنيّ الفلسطينيّ والمركّب المدنيّ الإسرائيليّ. وعن توتّرات هذه المركّبات الثلاثة وتعالقاتها تحدّثت وقتها باستفاضة. وأذكّر بأنّ الخلط بينها أو اختزالها في اثنين من شأنه أن يشوّش على الذاكرة التاريخيّة الفلسطينيّة حتى وإن كنّا، بصفة استراتيجيّة وإجرائيّة، نصرّ على الحقّ في اللعبة المدنيّة. تضييع الذاكرة التاريخيّة الفلسطينيّة، على المستوى النظريّ، في الوقت الذي تصرّ عليها الحكومة الإسرائيليّة وتجعلها حجّة علينا في تعاملها الميدانيّ معنا، يضعنا أمام مفارقة غريبة عجيبة نبدو فيها مثل مصيّف الغور. حين تناسى بعض القادة في الأحزاب العربيّة هذا الأمر انزلقت ممارساتهم المدنيّة إلى حضيض لا نرتضيه وزلّت ألسنتهم!
شاءت الأحداث التاريخيّة المتلاحقة، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أن أمارس دوري المدنيّ الإسرائيليّ من أوسع أبوابه بقصد أو بغيره. في كلّ مرّة أستمع فيها إلى نشرات الأخبار المركزيّة أسمع وأرى الخراب في غزّة وفي المناطق المحتلّة الأخرى وفي إسرائيل نفسها. وحين أسمع وأرى كلّ هذا الخراب، الذي تخلّفه حكومة الاحتلال، أجنّد كلّ طاقاتي في الشتم والسبّ فلا تسعفني في شيء علمًا بأنّ ترسانتي من الشتائم الأصليّة عامرة بكلّ الأنواع مثلما يليق بفلّاح وعريّ خشن. أشتم وأسبّ نتنياهو ولا الشتم ينفع ولا الدواعي تقطع. أسبّ وأتوق لأن ينقلع أو يتقلّع أو ينصرف أو يرينا عرض كتفيه أو يروّح حتى نستريح. ثمّ أجدني خفية أتوق إلى استبداله بجانتس وزمرته. كان منطق "نصف المصيبة أفضل من مصيبة كاملة" يتسلّل بصمت إلى وعيي دون أن أحسّ. كنت أضبط نفسي متلبّسًا بخطيئة المفاضلة بين المصيبة ونصفها، وأنسى للحظات أنّ حزب جانتس "الوسطيّ" يشبه "كندرة" ذاك المحامي الصغير المتبرجز والمستقرط. أنسى أنّ هذا الحزب الوسطيّ هو حتى الآن شريك فاعل في الخراب الحاصل في المنطقة كلّها. أنسى أم أتناسى؟! والتناسي هو جزء من الثمن الذي ندفعه ونحن نترجم المركّب المدنيّ في هويّتنا إلى فعل. مفارقة كبرى لا يفسّرها إلا تفاضل الشرّ. وتفاضل الشرّ قرينة براجماتيّة تشهد بأنّ الواقع أكبر من مادّته، في كثير من الأحايين، أكبر وأقدر على القمع.
(الصورة لنوعم موشكوفيتس – اعلام الكنيست)
إضافة تعقيب