هي ثلاثٌ وثلاثون مسبحة. منها يسر ومنها كارب ومنها كهرمان، وبينها اندسّت بعض سُبحات من الخرز.. ديوان الدكتور إياد الحاجّ مجموعة من السُبحات الثلاثيّة. هي تسبيحات وترتيلات وترنيمات، هي نداءات وتضرّعات وصلوات تطلع خاشعة مهموسة مستكينة مَرْضيّة فتعلو وتصخب، أحيانًا تصخب، يجأر بها قلبٌ حبا بين الحقول والسهول، وبين "السناسل والسنابل" درج.. حبا ودرج حتى شبّ وشاب. ثلاثٌ وثلاثون مسبحة جعلها الدكتور إياد كلّها معلّقة واحدة. على صدر الأدب جعلها معلّقة... وبعد، هي مقدّمة كغيرها لا تسمن ولا تغني من جوع. كلّ المقدّمات تقول ولا تقول. لا تقول من الحقيقة إلا ربعها. لن أفصّل كلّ منقبة في الديوان حتى لا يحثوا في وجهي التراب. ولن أحدّد كلّ مثلبة لأنّ محلّها الدرس والنقد. وهو متروك لأهله وأصحابه.
أقول كلّ قصائد الديوان مناجاةٌ بالبرّ، مناجاة رقيقة عذبة طيّبة لا إثم فيها ولا عدوان. يحبّ الدكتور إياد ثلاثًا في واحدة، ثلاث عصفورات في قلب واحد على قلب واحد. والقِدر لا يقعد إلا على ثلاثٍ من الأثافيّ. ثلاث عصفورات تتجاور تتوازى تتقاطع ثم تفترق لتلتقي من جديد، من البداية إلى النهاية، من "طفولةِ الحبِّ إلى كُهولةِ الهوى". والفرق بين حبّ الطفولة وهوى الكهولة هو دمعة. كلّ الفرق في الدمعة. دمعة الطفل تطلع من شعاب القلب ودمعة الكهل تنسرب من مآقي الرأس والوجدان. دمعة الكهل وحدها كافية حتى تذيب القلب، أقسى قلب. وفي الديوان دمعتان اثنتان، فيهما حنين وأنين وقلق وخوف.
للحبّ في ديوان الدكتور إياد مرافقات ومصاحبات. وكلّ مرافقة تجعل للحبّ صفة جديدة ترتقي إلى مرتبة التسمية. الحبّ عنده حزمة. الفلسطينيّ يشتري الحبّ في بقجة فيها حلاوة التلاقي ومرارة الفقد الافتراضيّ الذي قد يقع، في يوم من الأيام قد يقع. الحبّ عندنا يلازمه إحساسٌ بفقدٍ مرتقب. في الحبّ شيء من الحنين والأنين، شيء من الشوق والتوق، شيء ما لانهائيّ غير مختوم. فيه شيء من وجع وخوف. أقصد وجع الخوف من فقد الحبيب. كلما اشتدّ لهب الحبّ واشتعل وسجر تلاقى الحبيبان في وحدة حال تُغني عن الدنيا ومن فيها. وهكذا لم يقدر الدكتور إياد على الفصل بين محبوباته. وهنّ ثلاث: امرأة وطفولة ووطن، امرأة أنشأها إنشاءً أعطاها شطر الحسن، وطفولة ممتدّة أعطاها حلاوة الأمان والأمن ووطن منحه سرّ الأمن والأمان. وكلّها في مرتبة عطف البيان. تبدّل الواحدة مكان الأخرى فيستوي البدل ويستقيم. هكذا لم أستطع أن أميز المرأة من الوطن، في الديوان، ما دامت المرأة وطنًا وما دام الوطن امرأة يسكن إليها وفيها وبها. أحببتُ المرأة حين صيّرها الدكتور إياد وطنًا، وأحببتُ الوطن حين سوّاه امرأة. حين تصير المرأة وطنًا في شعره تكبر وتتّسع وتمتدّ وتعظم. وحين يصير الوطن امرأة يرتقي إلى مَن جعله الله على صورته فخَلَقه "في أحسن تقويم". بالأنسنة يتكلّم التراب والحجر والشجر والنهر بالفلسطينيّة العربيّة. أشجار التين والزيتون والعنب والصبّار تتقن فنّ الزغاريد وأهازيج النساء ومحوربات الفلّاحين ومواويلهم في حرثهم وزرعهم وقلعهم. ثمّ لم أرَ المرأةَ تتبيّن من الطفولة والطفولةَ من مدارجها. وهل ينفصلان؟! وما الطفولة إن لم تكن تاريخًا محقّقًا من الملذّات والمذاقات واللهو واللعب في حضن الأمومة؟! هي لحظات من متع الزمان الذي اغتُصب. أحبّ الدكتور إياد طفولة الوطن وأحبّ وطن الطفولة. وهل ينفصلان؟! الأولى زمانٌ طعمُهُ حلو وموروث أصيل والثاني مكانٌ شكلُهُ جميل محميّ بأجداده وآبائه الأوّلين من صلاح الدين إلى يوم الدين.
ما هذا الحبّ الأخطبوطيّ الذي يعرف كيف يتمدّد ويتشعّب ويتّسع لكلّ فضاء معرفيّ؟! الحبّ الذي يجمع بين المرأة والرجل هو نفسه الذي يجمع بين الإنسان وبلده، بينه وبين وطنه، وبينه وبين طفولته. الحبّ في الديوان حالة يقين صوفيّ. حالة توحّد يصير فيها الدكتور إياد جزءًا عضويًّا خِلقيًّا مفطورًا من ضلع الحبيب، والحبيب مثله من ضلعه مخلوق. يحبّ الدكتور إياد ثلاثًا في قلب واحد على قلب واحد، ويبغض اثنتين. وعلى قدر الحبّ يأتي البغض. يبغض الدكتور إياد بقدر ما يحبّ لأنهما لم يُخلقا على انفصال. يبغض السرقة والخيانة. والسرقة حرام والخيانة ضلال. سرقوا طفولة الأولين والآخرين جيلًا فجيلا. سرقوا طفولته وطفولة آبائه وأجداده مثلما سرقوا مدارج الطفولة ويسرقون. وهل ينفصلان؟! ويبغض بأدب جمّ لا يليق بالمبغوض المغضوب عليهم. قرأت الديوان قصيدة قصيدة بيتًا فبيتًا ولم أجد فيها ما يخلّ بالأدب. "يصرخ" الدكتور إياد بهدوءِ ملهوفٍ، يصرخ بأدبٍ بوجه من لا يعرف الأدب "إخوته العرب". صحيح يا دكتور، كلّ واحد يعمل بأصله.. لكنْ، من أين تأتي بكلّ هذا الأدب؟! والعرب في الأدب عَرَبان: عرب عاربة وهي صامتة وعرب بائدة، بإذن الله، وهي صائتة ما زالت حناجرها المبحوحة الصدئة تنعب. مثل الغراب ينعق في الخراب. العربيّ الأصيل ملجوم مكتوم، صحيح، لكنّه مثل النمور لا يُروّضها المروّضون الأدعياءُ الأرذلون. وكلّ دعيّ زنيم مثلما تعلم يا دكتور إياد. تعلم، علم يقين لا علم ظنّ، ورغم علمك جعلتَ نبيّ الله يوسف قدوتك الحسنة، لا تتبرّأ من "إخوتك".
آمن الدكتور إياد أنّ "الوعا الكبير يسع الصغير". ولمّا آمن فقد عرف كيف يعمل من اللغة ماتريوشكات روسيّة ساحرة. عرف كيف يُدخل الصغيرَ في الكبير والكبيرَ في الأكبر بفنّيّة فاتنة. عرف كيف يجعل الصغير والكبير وحدة عضويّة واحدة لا تنفصم ولا تنقسم، لا ترتكس ولا تنتكس. عرف كيف يُدخل الوطن في الوطن. والوطن عنده ثلاث ماتريوشكات تحضن الواحدة الأخرى حضانة الأمّ لوليدها وحيدها. الوطن الأول وطن خاصّ يبدأ من مدارج الطفولة في ساحة البيت عند معاميل القهوة والدلّات والمصبّات في ديوان والده الشاعر العروبيّ الأصيل أحمد الحاجّ "أبو نزار" أطال الله في عمره وأسبغ عليه نعمة الصحّة والعافية وهدأة البال. والوطن الثاني وطن صغير يحضن شقاوة الصبا والشباب. فضاؤه وادي المجنونة قرب كفر ياسيف والطّوَّال وأبو خير والمـــُصرارة وغْبار. والوطن الثالث وطنٌ كبير، وطن الكهولة وطن شيخ امتدّت أطرافه من رأسِ النّاقورة إلى أم رَشْرَش. بينهما يافا والكرمل والبروة وعكا والجليل والزيب. "وبرق الزيب لا يخيب". وطن الفيجن وعصا الراعي والبلّان والبُصّيل والحبق والميرميّة والتوت وقرن الغزال والبلّان ودُقّة العدسِ والزّوفا والزيتون. وما دام هناك زيتون عامر سيظلّ الزيت يملأ الخوابي، وسيظلّ جرن الكبَة يدقّ، وستظلّ الملاتيت والزّلابيةُ تعقب الكبّة وستظلّ القهوة السادة، التي يتقنها أبوه، خاتمة أتعابنا بعد الكبّة والملاتيت!
قرأت الديوان قصيدة قصيدة ولم أسأل ما هذا الشعر؟ أهو هذا الذي حدّ حدوده ابن طباطبا أم هذا الرفضيّ المشاغب النمرود؟ لم أسأل لأنّي انغمست في الأثر. انغمست في الفعل والصفة ولم أغرق في أسئلة الاسم والذات. الشعر صفات والاسم واحد. إذا استطاعت قصائد الديوان أن تنقل إليّ عدوى الشعور، الشعور الذي سوّاه الدكتور إياد حبرًا على ورق، إذا استطاعت أن تصدّر إليّ قفزات القلب والوجدان فما حاجتي إلى تسميته وتجنيسه وتوصيفه؟! قرأت. والمقروء يُقرأ من عنوانه. والعنونة غير التسمية. العنوان يغلق النهاية يحكمها ويختمها. العنونة كاشفة، حتى في مكرها ومراوغتها تظلّ قادرة على الفضح والبوح. ستّون شمعة تنير الطريق. أطال الله بقاءك إلى ستّين فوقها. طريقُك ما زال طويلًا يا دكتور. والطريق مستقيم ممهّد متاح مباح، فيه الحلال بيّن والحرام بيّن. والحلال في الديوان حبّ والحرام فيه بغضاء. وقد أحبّ ثلاثًا وأبغض اثنتين. الطريق مستقيم تنيره ستّون شمعة بكمالها وتمامها. هي تجربة عاقلة أصيلة رصينة رزينة جمعها الدكتور إياد على امتداد ستّين عامًا أو يزيد، كتب فيها على نفسه الأمل لا يلهيه عن العمل... سقيًا لك ورعيًا يا دكتور!
إضافة تعقيب