news-details

حسين مهنّا يُراودُ الموتَ "على سَريرٍ أبيض"

المبدع الحقيقي هو الذي يشدّك إلى ما يُقدّمُ لك، شعرا كان أم نثرا. وهناك من المبدعين مَن وُهِبوا القُدرة على مُراودة الكلمة فتأتيكَ مُتهاديةً، جاذبة، مُوقّعة، فلا تملكُ أمامها إلّا القبولَ والاستسلام. وهؤلاء قلّة.

لكنّ الشعرَ، مهما بلغت قُدرةُ صاحبه، يظلّ عاجزا عن تَصوير تفاصيل الجزئيّات وإيصالها إلى المتلقّي، وإذا ما أراد الشاعرُ أنْ يُفصّلَ ويشرحَ وينقلَ كلّ التّفاصيل، وجدَ نفسَه يُقدّم قصيدة مُترهّلة مُثيرةً للمَلَل يرفضُها القارئ. فالإطنابُ والتّفصيلُ من خصائص النّثر، بينما الإيجازُ والتّلميحُ من ميّزات الشعر. وهذا ما يحملنا على الاعتقاد بأنّ في داخل كلّ شاعر قصّة أو قصصا ذاتيّة خاصّة يعجزُ عن التّعبير عنها شعرا، فيُداورها ويجتزئ منها، ويُشير إلى بعض من تفاصيلها، ولكنّه يظلّ عاجزا عن تَقديمها كاملة في قصيدة واحدة، ويظلّ ينتظرُ الفرصةَ الأولى ليُقدّمها في نصّ نَثريّ، قد لا يكون قصّة أو رواية أو مسرحيّة، لكنّه نصّ نثريّ جميل تتوفّرُ فيه كلّ خصائص اللغة الشّعريّة. ويكفي لتأكيد ذلك أنْ أشيرَ إلى نثر الشاعر نزار قبّاني الأخّاذ الذي لا يقلّ جَمالا وإيقاعا وسحرا عن شعره.   

وحسين مهنّا أحَدُ مُبدعينا الذين رَسّخوا موقعَهم على السّاحة الأدبيّة المحليّة. وقد بدأ طريقَه الإبداعي في مَسارَيْن متوازيَين: القصة القصيرة والشعر، وإذا كانت عروسُ الشعر جذبته إليها فاختارها في رحلة عمره الإبداعيّة المعطاءة فإنّه اكتشف أنّ هناك ما يُريد قوله تعجزُ القصيدةُ عن الإيفاء به، وقد حاول، واعتقد لفترة أنّ ما يريد تَحقّقَ... ولكنّ إلحاحًا داخليًا ظلّ يُطارده، بأنّه لم يوصل الذي يُريد. 

ولأنّ العمرَ، مهما طال، يظلّ قصيرًا، ويجعل المبدع الحقيقيّ يخافُ أنْ يأتيه الموتُ على غفلة، ويتوقّف عن العطاء قبل أن يقولَ كلمتَه الأخيرة، ويبوحَ  بقصّته التي يحملها، دفع بحسين مهنا إلى مواجهة الحقيقة والتّعبير عن استشعاره هذا في قصيدة يقول فيها:

ليس لي ما أقرأ الآن سوى

نعي ليلاي وتأبين السّحر

ليس لي ما أكتبُ الآن سوى

لحنِ مَرثاتي

على وجه حجر

ليس لي ما أحملُ الآن سوى

قبضةٍ من ريح أحلامي

 وأشلاءِ صوَر..

وحاول حسين مُسابقَةَ الزّمن ورَسْمَ قصّته التي يحتفظُ بها في ثلاث عشرة قصيدة هي أجمل قصائد مجموعته الشعريّة “ليس في الحقل سوسنٌ للفرح”(1995)، لكنّ السؤالَ الذي ظلّ يُراوده: 

-هل قلتُ كلَّ ما أريدُ وأوصلتُ للآخرين القصّة التي أحملها سنوات عمري كلّه؟

ولأنّ سؤالَ الذّات لا يعرفُ الاستكانة.. وعذابَ الذّات في مواجهة السؤال لا عذابَ بعده، فقد ظلّ يتقلّبُ بين السؤال وعذاب الذّات إلى أنْ كانت لحظةُ التّفجّر الذّاتيّ وطَلَق الولادة المنتَظَر وخروج المولود الموعود.

 

هذا النصّ الأدبي يُعيدُني إلى ساعات تأرْجُحي بين الموت والحياة 

حسين مهنا الصّديقُ العزيز وابنُ صفّي كان زميلي مدّة أربع سنوات، مدّة دراستنا في مدرسة الرامة الثانوية. كلانا أحبَبنا لغتَنا العربية، وخرجنا لنلتقي معا في طريق الإبداع والموقف والرُّؤية والرُّؤيا . وكلانا اخترنا التّدريسَ مهنة لنا لإيماننا بقُدسيّة الرّسالة التي نحملُها. ويبدو أنّ نصيبَنا كان أنْ نُواجهَ الموتَ أيضا.

أعادَني نصُّ حسين مهنا "على سرير أبيض" إلى ذلك اليوم من منتصف شهر كانون الثاني عام 1973، يوم سافرتُ وحدي إلى مدينة حيفا لمقابلة بروفيسور "بيلك" رئيس قسم القلب في مستشفى "رمبام". وإلى تلك اللحظات، وأنا لا أزالُ في منتصف العشرينات من عمري، عندما قال لي الطبيبُ، بعد أن أطال في فَحْصه وأسئلته وقراءة الأوراق التي أمامه:

-لك قلبٌ ضعيف وبحاجة لعمليّة، لكنّ نجاحَ العملية لا يتعدّى الخمسين بالمائة فقط. 

ووافقتُ رأسا على إجْراء العمليّة والطبيبُ ينظر إليّ مذهولا مُحاولا ثَنْيي عن التّعجّل في اتّخاذ القَرار. 

وقّعْتُ على الأوراق الرّسميّة وأنا في اقتناع تام أنّ الموتَ، إذا كان لا بُدّ منه، فليأتني الآن، حيث لا زوجة تُترَكُ لتُواجهَ قَسْوةَ الحياة، ولا أولاد يعيشون ذُلّ اليُتم الذي عِشْتُه وعانيتُ منه منذ الرّابعة من عمري.  

وعدتُ إلى البيت والأهلِ وطلّابي مُحتفظا بسرّي لليوم الموعود، يوم إجراء العمَلية. وبالفعل عدتُ إلى مستشفى "رمبام" وقد تركت أهلي وأصدقائي وطلّابي في حالة ذهول وحزن، ودخلت غرفة العمليات لإجراء عملية القلب يوم 10.4.1973. 

وفي ساحة مستشفى رمبام (البناية القديمة) تجمّع العشراتُ منَ الأقارب والأصدقاء والطلاب وأهالي قريتي الرامة وهم في حالة عَدَم تَصديق، يبتهلون للربّ لعَلّ وعسى.  

وها هو العزيز حسين مهنا يأخذُني معه إلى السّرير الأبيض، وتلك الساعات الفاصلة في تأرْجَحْنا بين الموت والحياة.

"على سرير أبيض*" النّص الجميل الذي يتراوحُ بين الشعر والنثر هو تَفجّرُ الذّات المبدعة وجوابُ السؤال الملحاح، وهو كما قالت فرجينيا وولف: “ تأكيدٌ على أنّ الفنّ الحقيقي هو الفنّ الذي يقوم على الاستبطان ومتابعة ما يجري في نفوس الشّخوص والأبطال."

وقصّة حسين التي حملها سرًّا عزيزًا سنوات العمر كلّها.. نصّ جميل يُحاورُ فيه قلبَه المتعَبَ بكلام هو أقربُ إلى عتاب العاشق للمعشوق:

“ لماذا أيّها القلب؟/ يا صديقي اللدود.. لماذا؟/أتوسّلُ اليكَ!!/ لا تُقامر على صَداقة بيننا /غذّتْها بُلَهْنِيَةُ العَيش/ وقَوّتْها الشدائد /أيّها القلب../ يا حاكمي من قَبلُ ومن بعدُ /ما كنتُ لأخذلَك يومًا / فهلّا أنْصَفْتَني؟"(ص16)

نَصُّ "على سرير أبيض" هو نتيجة حوار الذّات مع الذات، والذّات مع الحياة، والذّات مع الآخرين، والذّات مع الموت. هو استعادة لأحداث مرّت في حياة الرّاوي طوتها السنون ولكنّها ظلّت تُشكّل المستقبلي من حيث يدري ولا يدري، وهو تأكيدٌ على أنّ الأشياءَ الصّغيرة التي نُصادفُها في حياتنا تَحفرُ لها عميقًا في داخلنا وتظلّ تترصّدُ انطلاقتنا المتباعدةَ في درب الحياة المنتظرة لحظة اللهاث من الرّحلة الطويلة لتتفجّر قويّة في داخلنا مُذكّرة بأنّها الألصَقُ بحياتنا وأنّها الآهةُ الأصدق والتّجربةُ الأعمق. 

يرصد حسين مهنّا في نصّه الجميل تلك الأفكار التي راودته والذكرياتِ التي عاودته والأحزانَ التي هاجمته خلال الأيام التي قضاها على سرير أبيض في الطابق الخامس في مستشفى الكرمل حيث خضع لعمليّة جراحية صعبة.. وهو ككلّ إنسان في مثل هذه السّاعات الضّبابيّة والحَرجة يُواجه ذاتَه بكلّ الصّدق، وتنتصبُ أمامه تلك الأشياء الصّغيرة التي استكانت سنوات العمر الطويلة لتكون الأكثرَ وضوحًا والأكثر إلحاحا.

 

يا لحزن الوالدَين!

وطبيعي أنْ يكونَ الوالدان الأكثرَ حضورًا في مشاهد الحزن والوداع، وأنْ يكونا الأكثر َ إيلامًا وتأثيرًا. وإذا كانت أمّه التي فارقت الحياة قبل عام ونصف قد جاءته من عالم ما وراء الحياة قد شدّته إليها وجعلته يتمنّى لو أنّه لا يستيقظ من نومته ليظلّ إلى جانبها يشكو لها اضمحلالَ الحياة ببُعْدها فإنّ دموعَ والده كانت الأكثرَ إثارة. فالأبُ يُمثّل لأبنائه القوّةَ والصّلابةَ والمواجهة والتّحدّي. وأنْ يرى الدموعَ تنسابُ على وجنتيه يكاد يُصعق: “يا لعُواء الشيخوخة الحزينة المستوحشة! دموعُ أبي تسيلُ فتبلّل لحيتَه الجليلة الملحاء وتجفّفُ مصادرَ فرحي، دموع أبي سائل عاديّ، لكنْ له قدرة عجيبة على تحويل فرح هذا العالم، في عينيّ، إلى بحيرة حزن غير عاديّة، تشدّني.. إلى أعماق أعماقها، وأنا لا أحسنُ الغَطسَ أو العَوم.

هكذا مرّة واحدة، وعلى غير توقّع تنهارُ تلك الصّورة الوَقورة المَهيبة لشيخوخ والده، وتبدو حزينة مستوحشة جريحة، تنزفُ ولا تقوى على مُواجهة القَدَر فتسكبُ الدّموع! شيء لا يُصدّق فيُعلن وبصدقٍ "قد أنجو من السّكتة القلبيّة لأموت غرقا بدموع أبي."

 وكما وقف مذهولا وحزينا أمام عُواء شيخوخة والده، وتوقّع الموتَ غرَقا بدموعه، فقد رفض أنْ يستسيغَ مَشهد تخلّف والده بخطوة أو خطوتين وراء عكّازه، واعتبر ذلك وقاحة من العكّاز. فوالده المَهيب يجبُ أنْ يسيرَ في المقدّمة: "لأوّل مرّة ألحظُ وقاحة عكّاز أبي وقلّة أدَبها. فهي دائما، ورغم شيبته الجَليلة، وبياض عمامته، تسبقه بخطوة أو خطوتين ". لكنّه بحسن التّخلّص يقبلُ تقدّمَها "سأغفرُ لها لما تحملُه من شباب أبي".

 

الهرَب إلى سنوات الطفولة الجميلة والحبّ البريء

وبشفافيّة وحَساسيّة الشاعر تستثيره المَشاهدُ التي تلتقطُها عدَسةُ المبدع الفنّان، وتُخرجُه من قَيْد  المكان ليُحَلّقَ بأفكاره وتساؤلاته أمام مَشهد "زوجَين من حمام في حالة عشق إلهيّ" الصّدرُ يُلامسُ الصّدرَ بما لا يخدشُ خجَلَ العذراء، والعنقُ على العُنُق في حركات تَبادليّة". تُرى بماذا يهجسان؟ 

وليستجديَ العينَ أنْ تكفَّ عن دَغدغة الرّوح إلى حين. ويستحلف القلبَ الموجع أنْ يكفّ عن خوض بحار مُزبدة عالية الموج وهو يُسْتَثارُ من جسَد الممرّضة الحسناء المتوثّب ، جسَد لَبُؤة، وبصدرها المتشامخ بفتوّته المتوحّشة وبحلَمَتَيْها الناتئتين وعطرها الأنثوي. وليعودَ إلى واقع الحياة البائس وهو يُراقبُ المريضَ العجوزَ الذي يقطعُ حبّة البندورة على مَهَل، ويقول له: ما هذه الحياة سوى صحن كبير وكلّنا فيه مُقَطّعون مأكولون، الغنيّ يذهبُ ولا يأخذُ شيئا معه، والفقيرُ يذهبُ ولا يتركُ شيئا وراءه.

ولأنّ الطفولةَ تظلّ الفترة الزمنيّة الأكثر التصاقًا بالإنسان والأكثر تأثيرًا عليه والمكوّنة لشخصيّته المستقبليّة فهي تظل مَرجعيّته الأبديّة، في العودة اليها يجد الرّاحة، وفي البَوْح بأسرارها التي اختزنتْها سنوات عمره يشعر بالسّعادة. 

وطفولة حسين مهنّا غنيّة بأسرارها، فهو يأخذنا إلى مشهد جلسات جَده الصبّاحيّة وهو يقوم بإعداد القهوة حسب طقوس إكليريكيّة صارمة لا يتساهلُ فيها. فالقهوة في رأي 

جَده: كالفرس الشّموس أو كالمرأة الملول، إن لم تُلاغِها صباحًا وتُناغِها مساءً هجرتك، وخسرتَ حبًا ما بعده حب، وصداقة ما بعدها صداقة. 

والقهوة لا تؤخَذُ سرًا، إنّها كالصّلاة، وأسمى حالات الصّلاة أنْ تُؤخَذَ جَمعًا وتُمارَسَ علانيّة. والقهوة مُرّةٌ كالحياة وحُلوةٌ كالحبّ وغامضةٌ كالموت. 

وهو يستعيد سنوات الطفولة المعذّبة عندما سقط عن سطح المعصرة القديمة وكسر فَكّه الأسفل، ورحلته الليليّة إلى حيفا وكيف فقَد فرحة ركوب السيارة لأوّل مرّة في حياته ما بين الشّهقات والزّفَرات الموجعة. ويتذكر كيف كان يطلب من والده شراءَ أشياء مختلفة، وكيف كان والده يُماطله ويَعده ولا يفي له بوعده بسبب الحالة الماديّة الصّعبة، وكيف علّمه ذلك درسًا في الحياة؛ أنْ يشتهيَ دون أنْ يطلبَ، وأنْ يتمنّى دون أنْ ينتظر.

ويتذكّرُ بفرَح حزين تلكَ الفَرحة التي كانت تغمرُ أفرادَ بيته عندما كان والده يُسافرُ إلى عكا، كيف ينتظرون عودتَه بما لَذّ وطاب من حلويات المدينة. ويتذكّرُ فرحتَه الكبيرةَ، بل وكلّ أولاد الجيران عندما اشترى له والده طابة، هذه الفرحة التي علّمته أنّ فرحَ ساعة في بيت فقير يمسحأحزانَ سنة كاملة بأيّامها وأسابيعها وشهورها وفصولها وتقلّبات طقسها. ويتذكّرُ بألمٍ كيفَ كان يشتهي أنْ يأكلَ بعضَ ما كانت أمّه تخزنُه من طعام للضيف فتُجيبه بحزم: لا .. هذه للضّيف!! وتتركه ليتساءلَ وهو يرى الدّموعَ في العيون في حالتي الحزن والفَرح:

-هل حياة الفقر تؤهّلُ أهلَها إلّا للحزن؟! واللقمة المُغمّسة بمَنْقوع الألم، هل تسندُ قلبا كَسيرا؟ 

ويصلُ إلى نتيجة أنّ أفراحَ الفقراء لها أوّل وآخر أمّا أحزانُهم فلا أوّل لها ولا آخر. فضحكُهُم شرّ وبكاؤهُم فَرَج!. 

ويتذكّر بيتَه الأوّلَ، البيت الترابي بسقفه ومصطبته: "في هذا البيت التّرابي وضعتني أمي بملامح تُرابيّة، وأكلتُ لقمة ترابيّة المضغة، وشربتُ شرابًا ترابيّ الجرعة، وتعلمتُ لغةً ترابيّة الأبجدية ،واعتنقتُ عقيدةً ترابيّة الهَديْ والهداية. في هذا البيت الترابي تكوّرت أحلامي وانفردت أجنحة نسريّة قويّة ضربتُ بها أبعاد سماوات وأعماق بحورٍ وآفاق أرضين".

والعودة للطفولة تُذكّره بمَدرسته الأولى وبمعلّمته الأولى التي كانت "خلطة عربية بتوقيع إلهيّ وتوزيع سماويّ، نخلة بقامتها، قهوة بسُمرتها وسواد عينيها، واحةً نجديّة بعَطفها 

وانعطافها، تدمريّةً بكبريائها وشموخها"، هذه المعلمة الأولى التي علّمته الأنشودة والقصّة والرّسم، والرّسم بالحروف، وعلّمته بلمسة يدها كيف يُحبّها ويحبّ الحياة، وكيف يلبس عروبته جلدًا تحت جلده ولا يهمّ بعدها إنْ سار عاريًا.

وتُذكّره بتلك الطفلة الشقيّة فاطمة التي أشعلت عودَ ثقاب فاشتعلتْ ولا من مُجير أو مُطفئ سَعير فاشتعلت ولم يبق ما يدلّ عليها سوى حذائها الأحمر الصّغير هديّة العيد!. 

وتُذكّره، أيضا، بعائشة التي ذبحها أخوها من الوَريد إلى الوريد، عائشة التي كان كلّما ذهب ليلعب مع اخيها ينظر اليها ويُطيل النظر، فتلاحظ ذلك منه وتمدّ أصابعَها العاجيّة وتغرسها في تجاعيد شعره وتهمس: أأنا جميلة إلى هذا الحدّ؟ عائشة صاحبة العينين السّوداوين المكحّلتين بميل إلهيّ، والشّعر الأسود المسدَل على قامة لا تُقاس بمعايير بشريّة. عائشة تلك المرأة الوردة التي غرسَت بين ضلوعه قلبًا عاشقًا وعلّمته ان رائحة الانثى أذكى من أيّها رائحة، وأنّ قلبَ المرأة أثمن من أيّ كنز، وأنّ صدرَها أرحبُ من أيّ بيدر.

 

في حواره مع قلبه وتَحدّيه للموت

المُبدعُ الخَلّاقُ ليس مَنْ يُغرقُنا بكلمات حلوة مُنمّقة وتعبيرات جميلة تقليديّة، بل هو مفكّر صادقٌ حسّاس، ينقلُ إلينا حقيقةَ النّفس الإنسانيّة وجَوْهرها. هو المُبدعُ الذي عندما "يختلطُ حُزنُه بحزنِ الآخرين تذوبُ ذاتُه، وتُصبحُ مَحلولا بلا طَعْم وبلا لون". كما يقول حسين مهنّا. وهو الذي " يُصبحُ حزنُه دمعة في بحر وَهْمه شيئا من هَمّ الجَماعة وقلبُه  يتّسع لكلّ العالم" كما يُؤكّد. 

ويصحّ ما قاله الناقد الانجليزي دونالد ديفي: “ لكي يكونَ الشعرُ عظيمًا يجب أنْ تفوح منه رائحة الإنسان” على الوصف الرائع لمشهد وقوف حسين أمام اتّخاذ القرار الحاسم بالنسبة لإجراء العمليّة الجراحيّة، فهو يقول بكل عفَويّة الصّدق:  “ لا تستطيع أنْ تكونَ موضوعيّا وحياديًا، تعود الى سريرك الأبيض، في حالة شرود، ذهني قسري، تسترجعُ ما قاله طبيبك كلمة كلمة، لترجع نفسك الهاربة بأعنتها الى حظيرة الرأي ومَرابط الحكمة". 

ويسأل بحزن صادق:

-هل مِنَ السّهل أنْ توضَعَ بين خَيارَين كلاهما يبدأ بما لا تحبّ وينتهي بما تكره؟!

وكيف يكونُ الصّدق في غير هذا الحوار الرّائع بين حسين وقلبه قبل اتّخاذ القَرار:

-لا..لا! أرجوكَ لا تفعل.

هكذا يخاطبُه قلبُه متوسّلا:-"فما عسى قلب مثلي يصنعُ إذا كان يُعاني من التّضخّم ويشكو من ضَعف في النّبّاض وتُرهقُه الفوضى وعدم الانتظام؟

ولأنّ الإنسان كما قال هيجل:" هو خَلْق الإنسان خَلْقا مستمرّا للإنسان" وهو بذلك يعني الخَلْقَ الفكري والمَفاهيم. ولأنّ أحدَ الدّوافع الرّئيسية للخَلق الفنيّ، كما قال جان بول سارتر "هو بالتّأكيد الحاجة إلى شعورنا بأنّنا جوهريّون في علاقتنا بالعالم" فإنّنا نجد هذا التّجلي الخَلّاق في حوار كاتبنا حسين مهنا مع الموت، وهذا الحوار الفكريّ الهادئ العميق المُرتكز على إيمانه الرّاسخ الذي اكتسبه من مُعْتَقَده التّوحيديّ حول عَلاقة الرّوح بالجسَد، ومَحدوديّة الموت ومَفهومه، وأنّ الحياةَ ما هي إلّا رحلة، ولكّنها رحلة شقاء تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ.  

فحسين يقف في مواجهة الموت في تلك اللحظات الرّهيبة التي يُقرّرُ فيها إجراءَ العمليّة وسؤالٌ كبير يرتسم أمامه ويلحّ: ما أنتَ أيّها المهيبُ المخوف من أبَد الآبدين الى دهر الدّاهرين؟ هل أنت خاتمة الحياة الدنيا أم تراك بداية حياة عليا تَعصى مَداركَ الأحياء؟ وإذا كان الملاك عزرائيل يقبض الروح ليُعيدَها الى بارئها.. فما أنت إذا؟

وبرغبة من الإنسان الواثق من صدق إيمانه الرّاسخ يُتابع مُتحديًا: والله ما أنت إلّا مقاول هياكل تَبلى وأجساد تندثر. وما دامت الرّوح عَصيّة عليك فأنا لا أخافك إلّا بمقدار ما أفرحتني الحياةُ، والحياة لم تُضحكني بقَدر ما أبكتني.

وبتَحدٍ لا يعرف الخوف والتّردّد يخاطب الموت قائلًا: "فخذ هذا الجسد/القميص البالي إنْ شئتَ، متى شئتَ لتفيضَ روحي الناشطة باحثة لها عن ثوب جديد يحفظ لها ديمومتَها ودورتَها الأبَديّة الدائمة: نطفة، ولادة، طفولة، صبا، شباب، كهولة، شيخوخة، نهاية/بداية. 

هذه الرحلة الدائريّة الأبديّة لصخرة سيزيف المتدَحرجة أبدًا، وما الإنسان إلّا صورة لسيزيف الشّقيّ أبدًا، الذي يبدأ رحلة شقائه من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ.

ويؤكد بكلّ الثّقة أنّه لن يُقَدّمَ للموت استرحامًا لأنّه يرفضُ أنْ يزيد إحساسَ الموت بالكبرياء، ويرفضُ أنْ يزيدَ من إذلال الموت له، فقد هيّأ نفسَه وأهلَ بيته: الزوجة والأبناء والأصدقاء لهذه الرّحلة الطويلة، وها هو أمام الموت وجهًا لوجه يُعدّ العِدّة ليخرجَ من ردهة الدنيا وهو ليس مَدينًا لها ولا هي مَدينة له. مؤكّدا للموت بقوله: لن أرتعدَ إذا ما حمَلتَ روحي على جناحيْكَ الفولاذيّين وطِرْتَ إلى حيث تشاءُ أنتَ ولا أشاءُ أنا.

 

في لحظة الاستسلام وانقطاع الأمل يأتيه الفَرج

وبتقريريّة افتقدْنا فيها الشاعرَ الفنّان، ووجدنا حسين مهنا الإنسان، ابن الثانية والخمسين من عمره، نراه يقفُ ضعيفا مُستسلما أمام الإله يستعطفُه كي لا يضمّه إلى سَدرةِ المنتهى حيث ميزان الحساب الأكبر قبل أنْ يُسمع نشيدَ اعترافه. ثمّ يبدأ بسجلّ اعترافه ويُنهي بكلّ خشوع قائلا:

"وأخشى ما أخشاه أن أكونَ قد أخذتُ من الحياة أكثرَ ممّا أعطيتُ".

لكنّ الشاعر الفنّان يعودُ ليعزفَ إيقاعَه الأخيرَ ليُؤكّدَ أنّ الفنّ أسمى درجة من درجات الفرح التي يُمكنُ أنْ يهبها الإنسانُ لنفسه.

وبفرح الطفلِ البريء يستيقظُ على لكزة ناعمة وصوت أنعم يهمسُ له:

-لقد عبرتَ درجةَ المراحل الخَطرة، فيسأل:

-ربّاه ! هل ما زالت في العمر بقيّة؟

وإذْ يؤكّدُ له الصوتُ النّاعم الهامسَ ذلك، يصرخُ بسَعادة بادية وبفرح يتفجّرُ:-لأعِش إذا.

وبفرح أخفّ وسعادة بالكاد تُرى:

- لأعش إلى أنْ يُلْقي مَصيري بي في ظلمة لا شكّ قادمة.   

واذا كان الفنان المبدع كما قال أودن: يرجو أنْ يُحقّق ثلاثة أمور ؛ أنْ يصنع شيئًا، وأنْ يحسّ بشيء يأتيه إمّا من عالَم الحسّ الخارجي أو من عالم المشاعر الدّاخلي، وأن ينقل هذه الأحاسيس إلى الآخرين، فإنّ حسين مهنا كان هو هذا المبدع، وكان هذا الفنّان الخَلّاق.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب