أي ينبوع حنان – وبستان حب – وفيض رقة وجمال نودع اليوم!
غير حزنك حنان، لم يقو عليك، ولولا لوعة الفراق الحقيقي والأبوي الأول العميق، لما تمكن منك المرض ولما حسم أمرك بهذه العجالة... وأنت أنت، بلسم آلام المرضى وسندهم في هذه المواجهات الفاصلة المقيتة..
وحنان، الانسانة التي ضاقت سنوات العمر عن طموحاتها، وعن شغفها بالمعرفة والمساهمة في فهم هذا العالم والتأثير فيه والتخفيف عنه.. كانت في كل مرة تنشغل فيها بالبحث عن أجوبة لعالم مركب، تجد نفسها محاصرة بأسئلة فلسفية ووجدانية واجتماعية جديدة، تحفّز فضولها من جديد، الى أن أصبحت هي هي السؤال الأكثر مركزية وموتها الخاطف مصدر حيرة ولوعة وأسف كبير.
في دراستها الأكاديمية، في الجامعة العبرية في القدس حصلت حنان على شهادة BSC في الفيزياء والرياضيات، لكن شيئا كان يشدها الى الناس وهموم الناس، وملامسة آلامهم وآمالهم، فسرعان ما عادت الى الجامعة وتخرجت من قسم العمل الاجتماعي، ومارست عملها في أقسام الأونكولوجيا في مستشفيات رامبام وهداسا عين كارم وجمعية "إنوش" (אנוש) التابعة لوزارة الصحة، مسؤولة في مجال الصحة النفسية.
وبالتزامن مع عملها المضني عاطفيا وجسديا، عادت حنان الى مقاعد الدراسة ثالثة لتتخرج من جامعة حيفا في هذه المرة، بعد ان حصلت على اللقب الثاني في الفلسفة وعلم النفس ودراسات الدين.. هذا هو التعبير عن شمولية شخصية حنان، التي تتراوح ما بين الفيزياء وما وراء الفيزياء (الميتافيزيقا)، بين التأمل الفلسفي والانغماس في هموم الناس المحتاجين الى عطائها ودعمها، تتراوح ما بين الرغبة في فهم العالم والمجتمع والرغبة في التخفيف عنه.
وحنان الشاعرة بكل جوارحها، ليست شاعرة رقيقة لأنها تكتب الشعر وتصدر دواوينها، وثالث هذه الدواوين موجود في المطبعة كان ينتظر حفل إشهاره بعد خروجها من المستشفى، وانما هي شاعرة في جوهرها، لأن الشعر يتدفق فيها، والقصيدة تنساب عن روحها، كما يسُح ينبوع ماء يفيض على وجه صخرة ملساء على سفح جبل.. فالحدود غامضة، تكاد لا تميزها بين حنان وبين قصيدتها الرقيقة، المتماسكة المتداخلة في روحها، في وحدة متكاملة، متفاعلة دون تصنّع، تفيض حبا وجمالا وإنسانية وصورا شاعرية ومشاعر وطموحات..
وها نحن أمام حنان القصيدة الأخيرة، التي انقطعت وتعثر الوزن فيها وهي في وسط الطريق الطالع نحو الأعلى، بحثا عن بحر شعري لم يكتشفه الخليل بن أحمد، ولم تكتمل ملامحه بعد..
وأنتم أيها المشيعون الكرام، لكم شكرنا ومحبتنا، نقدر مشاركتكم لنا وملامستكم لجراحنا في هذه الساعات الصعبة، ونتمنى لكم ولأحبائكم دوام الصحة والحياة المديدة المليئة بما فيكم من خبر وعطاء.
وأما أنتم أيها الأحبة، عائلة الحنان، فادية أم أيمن وأيمن وإيمان ولبنى، والأحفاد والانسباء، وآل خوري ومخول، الألم كبير، فاحزنوا كما شئتم، لكن اعلموا أنه قد أصبح لنا فيما وراء الحياة اليوم، حصة أكبر وشوق أعظم، وروح جريس أبو أيمن الحاضرة في الروح وفي المكان ستبقى حاضرة معنا، وروح حنان ستبقى تُغَنّي فينا، تنشد لنا مما فيها من شعور وشعر، وننشد معها "في حضن الورد" قصيدتها المرهفة "فينيق البعيد"... لعلها تحيا من جديد:
وتمضي قافلةُ النجوم..
تحوك من الفضاءِ
من عناقيد المساءِ
حُلُمًا...
في قلبٍ هائمً
يحومُ
ويحومَ...
وتمضي...
نحو بخّورٍ مُعَطّرٍ...
نحو حياةٍ
في موعد ٍ أخضرَ
وتمضي...
يا طائر فينيق َ البعيدِ
البعيد...
لو تشرقُ فينا
لو تهمسُ الدَّمعَ
في مآقينا...
يا طائرَ فينيقَ البعيد
هلّا احترقتَ؟
واحترقتَ؟...
لو
في جرحنا النازفِ
تُولَدُ...
ثم تحيا
وتحيا من جَديد...
*رحلت في حيفا هذا الأسبوع الشاعرة والعاملة الاجتماعية والمرافقة النفسية حنان جريس خوري والتي نشرت نتاجها الشعري والأدبي في جريدة الاتحاد منذ سنوات، وقد رثاها الرفيق عصام مخول (خال الفقيدة).
إضافة تعقيب