news-details

سوداد (هــــــاويــــــة الـــــــــــغزالـــــــــــة): أكثر من غزالة وأكثر من هاوية| رشيد عبد الرحمن النجاب

لوحة على جدار كنيسة، وغزالة، وفارس على فرسه.. ورِماح، وجِراح، وحافة هاوية، من هذه المكونات على الشاطيء الغربي للبرتغال، انطلق الكاتب الفلسطيني الراحل فاروق وادي في روايته، الأخيرة التي رحل قبل أن تقع بين يديه. لم تكن محض لوحة حتى لو ارتقت لأيقونة، بل كان  مشهدا نابضا بالحياة، أكاد أجزم أن كثيرا من القراء حبسوا الأنفاس ترقبا لمصير هذه الغزالة الشاردة. ثمة في الرواية أكثر من غزالة وأكثر من هاوية.

أما "سوداد" وهذا هو الإسم الآخر للرواية فمصطلح برتغالي مغرق في تفرده، نصحنا الكاتب أن لا نجهد أنفسنا في البحث عن رديف له في أي من لغات الأرض حتى العربية، ولم تكن البرتغال بعيدة عن الثقافة العربية ذات عصر. ويقول في تبرير استخدامها كعنوان: "نستعير منها مشاعر وأحاسيس يجوز استخدامها للبشر كلهم."

وأضفى استخدام أقوال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، وأنداده الثلاثة الأكثر شهرة* في بدايات الفصول والكتب التي تتشكل منها الرواية قيما جمالية للنصوص، عل الرغم مما تحتويه من مشاهد مؤلمة أحيانا. وحمل الكثير من الدلالات ذات الصلة بمضامين هذه الفصول، وإن تطلب ذلك الكثير من التمعن في السرد وفي كلمات الأشعار على حد سواء.

انطلق فاروق وادي في سرده من شواطيء البرتغال، إلا إن البوصلة عبر السرد كانت تتجه نحو فلسطين بقدر من الوضوح بين زيادة ونقصان، وكانت فلسطين ماثلة في المشهد العام على نحو يتعزز باطراد في سياق السرد. و حظيت رام الله على وجه الخصوص بمكانة فريدة في هذه الرواية، نظرا لما كان لها من أثر في نشأة الكاتب وحياته، وماتميزت به من أجواء اجتماعية وسياسية، وثقافية سيما في الزمن المشار إليه في بداية الرواية (ستينيات القرن العشرين).

وجاء في هذا السياق إشارات متكررة لمعالم رام الله "دوار المنارة" بأسوده الخمسة التي ترمز لعائلات رام الله، وشارع الإذاعة وما شاع عنه "شارع العشاق"، و"فندق الحمراء" الذي كان مسرحا لبعض فصول هذه الرواية، ناهيك عن دور السينما، والمطاعم "نعّوم والبردوني"، وشاورما أبو اسكندر، وبقالة زبانة وغيرها، وعزز الكاتب هذه المشهد الجغرافي، بالمشهد السياسي والحزبي النشط مشيرا لبعض أعلامه مثل "فائق وراد، وعبد الله الريماوي، وسليمان النجاب في أكثر من سياق. مع إشارات أخرى واضحة للحزب الشيوعي الذي كان حاضرا في الساحة السياسية في تلك الفترة بالرغم من ظروف العمل السري، ونعته بـ"الحزب الهدام" من قبل الصحف وأجهزة الأمن.

ياسين كان واحدا من هذا الشعب، عانى الهجرة والتشرد بتأثير النكبة، فسكن رام الله قادما من قريته التي هُجِّر منها، وعانى شظف العيش ضمن عائلة والده الشرطي الذي كان يقبع في أدنى الرتب العسكرية، وبالرغم من ذلك فإن الكاتب قدم لهذا الشرطي ملامح وطنية مشرفة لم يفلح هذا الأخير في نقلها لولده ياسين.

بعد النكبة والهجرة ومغامرات المراهقة العبثية، انتقل ياسين إلى زمن الاغتراب في دول الخليج، شأنه شأن العديد من الفلسطينيين، وكانت الصحافة أولى صولاته وجولاته، وتلبية لمقتضياتها باشر أسفاره ومغامراته، فكانت حياته مزيجا من البحث عن المتع الجنسية العابرة، والفرص العملية،  هذه تؤدي إلى تلك والعكس صحيح، دون أي قدر من الالتزام، نحو امرأة، او قضية، أو حتى وظيفة، وليس غريبا في هذا السياق أن تبدو كتاباته ضمن عناوين شديدة التناقض، واتجاهات أكثر تناقضا تقدميا يوما، يساريا بل ماركسيا في يوم آخر ، وعبثيا في يوم ثالث قبل أن ينقلب ويعود محافظا. ويعزو كل ذلك للخيبة الأولى، لياسمين محبوبته المتوهمة الساكنة في شارع الحمراء، تلك التي سجن لأجل التحرش بها ليلة أو اثنتان في المقاطعة، والتي طارت من بين يديه بإشارة من الأمير ومظاهر ثرائه العائمة على بحور النفط. علما أنها لم تكن تدري به ولا بعشقه.

جيزيلا، المرأة البرتغالية كانت إحدى النساء اللواتي تعرضن لغواية ياسين، فانخدعت بهيامه، وأحلامه، وادعاءاته الياسمينية وحرصت على أن تنجب له ياسمينا سمراء، حرصت على أن تكون هي أمها، وأن تهيئها لبنوته ، بل ولانتمائها الأبعد والأشمل لفلسطين، ونجحت جيزيلا البرتغالية في ذلك، وراحت ياسمين ياسين تبحث عن هويتها الفلسطينية المعلقة بهذا النموذج من الرجال. فأي نتيجة جنت؟

قد يتساءل المرء ولكن لماذا ياسين؟ أقصد لماذا هذا النموذج لفلسطين؟ ألم يجد الكاتب نموذجا أفضل يمثل فلسطين بمعاناة أهلها، وبأعمالهم أيضا وما حققوه من منجزات تنموية في المجتمعات التي عاشوا فيها؟ توقفت أمام هذا السؤال، فكرت بصمت، وبصوت عال أيضا وخلصت إلى أن ياسين في الصورة العامة هو نموذج موجود في المجتمع الفلسطيني وفي غيره من المجتمعات، ليس بالضرورة أن يكون الشخص المثالي، ولكنه ربما كان نموذجا لشخص أو مجموعة من الأشخاص تعامل معهم الكاتب في زمن ما، فوجد في سيرته ما يتوافق مع غايات السرد، وما يخدم الرسالة التي سعى الكاتب لتوصيلها من خلال هذا العمل.

طاف الكاتب بالشخصية الفلسطينية في أنحاء العالم، وتواجد معها في أنحاء العالم العربي، في دول الخليج، وسوريا، ولبنان بتناقضتها وتعقيدات الأمور فيها، ثم في تونس قبل عودة إلى رام الله بخيباتها واحباطاتها ، وقد صور الكاتب هذه المرحلة من خلال شخص ياسين أفضل تصوير ، فلا الشعر بقي شعرا، ولا العشق عشقا، ولا الياسمين ياسمينا، هي سلسلة من الخيبات العامة، تراكمت إلى خيباته الخاصة فتمثلت مشاهد أترك للقارىء تأمل تفاصيلها.

تميزت الرواية رغم القسوة في بعض مشاهدها برشاقة في حركة في التنقل بين مشاهد الرواية، وتسلسلها، وترتيبها، و قدرة بارعة في جمع خيوط أحداثها، وضبط اتجاهات السرد التي تحتاج إلى كاتب متمرس ومجرب، وناقد ملم بصنعة الكتابة علميا وأدبيا مثل المبدع الراحل فاروق وادي/ لروحه السلام.

----------------------------------

*فرانسوا بيساوا وأنداده: جاء تحت عنوان "ملاحظات، إشارات وإحالات" في نهاية الكتاب ما مضمونه:

كتب بيسوا بأسماء عديدة كانت أكثر من أسماء مستعارة، لتمثل أندادا ،"قرائن" أو "بدلاء" للشاعر، خلقها بنفسه ليوزع أصواته ونزعاته الشعرية المتعددة عليها، وجعل لكل منها حياتها الخاصة، ولغتها، وأراءها النقدية وصوتها الشعري المتفرد،والمختلف حتى عن بيسوا نفسه، وهم كثر أشهر ثلاثة هم: "ألبيرتو كاييرو"، و "ريكاردو ريش" و " ألفارو دي كامبوش"

 

 

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب