تقرير خاص بـ"الاتحاد" : شاهين نصّار
لأول مرة بعد 35 عامًا، يصل بشار أرضه، ليس لأنه هجرها، بل كان يحلم بشكل يومي بالفرصة لأن يزورها من جديد، ها هو يعود ليجد أن أراضيه ومزارعه قد غيّرت شكلها، واختلفت هيئتها، كان يراقبها عن بُعد بضعة كيلومترات قبل أيام وطوال سنين، لكن اليوم وبيده قرار المحكمة يستطيع أخيرًا أن يدخلها. يقف هناك في مركز الزائرين الذي بُني على تل أثري كان يتبع قريته "قريوت"، هذا التل الأثري الذي استوطنه البشر طوال سنين واستصلحوا الأراضي المحيطة به، بات اليوم مستوطنة تدعى "شيلو".
في مركز الزائرين المعد للترويج لرواية الاحتلال، يقول بشار، يدعون أنه هنا كان معبد لأسباط اسرائيل، أقيمت خيمة قبل آلاف السنين، يحاولون أن يروّجوا أنه في هذا الموقع احتفظ بتابوت العهد قبل أن يُبنى الهيكل الأول في القدس. ويقول "لم يجدوا أي اثر لا لمبنى ولا لخيمة، يوجد هنا مسجدان وكنيسة، كنيسة تعود الى العهد البيزنطي، ومسجد كان يصلي فيه أجداده قبل العام 1978. يقف بشار ويشرح لمجموعة من الصحافيين قصته، ويعرض عليهم الوثائق والخرائط التي بحوزته في محاولة لاقناعهم بصحة أقواله، ويشدد "هذه الأرض أرضنا".
في الجانب الآخر من مركز الزوّار تقف مستوطنة بغطاء على رأسها وتشرح لمجموعة من جنود الاحتلال المستقبليين، وتقصّ عليهم رواية المليونير الذي جاء الى الموقع ليجري "بار ميتسفا" لابنه وتبرع لبناء وتطوير مبنى ومتحف في المستوطنة، اسمه شموئيل فليك.
في الجانب الأيمن بشار يتحدث مع الصحافيين وفي الجانب الأيسر المستوطنة تتحدث للجنود المستقبليين
ما هو المعروض في المتحف؟ هناك بعض القطع الأثرية التي عثر عليها في الموقع من العصور الماضية، من العصر العثماني، المملوكي، البيزنطي، الروماني، وقبلها. منها بعض الأدوات والأواني المستخدمة في الزراعة والحياة اليومية، بينما في الحانوت القريب معروضة حزمة "أدوات لبناء الهيكل" وحزمة أخرى لبناء "خيمة المعبد الأول".
يزور هذا الموقع سنويًا قرابة 60 ألف سائح، يقول يوني مزراحي من جمعية "عيمق شافيه"، ويشير الى أن نحو 40 ألفا منهم من الانجيليين القادمين من الخارج. خلال تجولنا في الموقع مرّت مجموعة من السياح اليابانيين سألناهم فقالوا إنهم انجيليون وإنهم يقومون بجولة "على خطى الانجيل في اسرائيل"!
إنه لمشهد سوريالي، قد يكون مأخوذًا من فيلم ما، لكنه واقع احتلاليّ يعيشه المواطن الفلسطيني بشكل يومي. هذا هو الاحتلال، بأبشع أشكاله، البطش والاستيطان ومحاولات لتزوير التاريخ كما يصفها بشار صادق معمر القريوتي ابن قريوت، والذي يضيف أن هذا الموقع لهو "مخطط استيطاني كبير، ونقطة ساخنة لعنف المستوطنين وعصابات تدفيع الثمن".
صورة لموقع "اير بي اند بي" يعرض المبيت في الصحراء باسرائيل" وعمليًا في مستوطنة كفار أدوميم
في تقريرها، الذي يحمل اسم "الوِجهة الاحتلال" قالت منظمة العفو الدولية إن شركات "اير بي إن بي" Airbnb، و"بوكينج دوت كوم" Booking.com، و"إكسبيديا" Expedia، و"تريب أدفايزر" TripAdvisor، وهي كبرى الشركات التي تقدم خدمات سياحة وحجز أماكن الإقامة والرحلات عبر الإنترنت، تغذي انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، بإدراجها مئات الغرف والأنشطة داخل المستوطنات الإسرائيلية القائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها المستوطنات غير القانونية والقدس الشرقية. وفي تقرير جديد بعنوان "الوجهة: الاحتلال"، وثَّقت المنظمة كيف تساعد شركات الحجز عبر الإنترنت على تشجيع السياحة إلى المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، ومن ثم تسهم في استمرار وجودها وتوسعها.
شيلو: يبحثون عن آثار الخيمة
يقول مزراحي من "عيمق شافيه" إن في موقع تل شيلو الاثري إحدى أجمل الكنائس الموجودة من العصر البيزنطي، والتي قامت السلطات الأردنية بترميم جزء منها خلال فترة وصايتها على الضفة الغربية. ويؤكد أنه لو كان هذا الموقع موجودًا داخل الخط الأخضر لما كان قد سُمح ببناء بهذا الشكل ومركز الزوار المذكور على موقع اثري كهذا، ويصف ما يجري في هذا الموقع الأثري بأنه "أدغال"، معتبرًا أن المستوطنين يقومون بما يحلو لهم دون حسيب أو رقيب ودون اكتراث بالمعايير العلمية في علم الآثار. ويضيف أن الحدائق القومية تدر دخلًا كبيرًا على البلدة أو المدينة القريبة، وتهدف لتشجيع السياحة، ولكن في الضفة الغربية المحتلة، فإن الدولة هي التي تتكبد الخسائر وتعد بملايين الشواقل لتوسيع البناء الاستيطاني على حساب التاريخ!
يوني مزراحي يشرح عن خارطة المواقع السياحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة
ويُشير مزراحي الى أن هذا الموقع يرجح أنه استخدم لتقديم قرابين للرب قبل بناء الهيكل في القدس. وكان عبارة عن خيمة تجتمع فيها جميع أسباط اسرائيل ثلاث مرات في السنة لتقدم القرابين وترفع الصلوات للخالق. ولكن حتى الآن كل الحفريات لم تعثر على الموقع في الجهة الشرقية، حيث أجرت بعثة علماء آثار دنماركية أولى الحفريات في العشرينيات من القرن المنصرم.
ويوضح أن التخطيط في الأراضي المحتلة ليس مشددًا كما في داخل إسرائيل، وبالتالي فقد تقدمت المؤسسة التي يترأسها بدعوى قضائية ضد البناء في الموقع الأثري، ويطالب بسحب إدارة الموقع الأثري من قبل جمعية خاصة تابعة لشيلو، ويوضح أنه يجب أن يُسحب ادارة الموقع من أيدي مجلس ادارة المستوطنات "بنيامين".
ويضيف مزراحي أنه تم توسيع هذا الموقع على حساب أراضي القرية، وأقيمت المستوطنة "شيلو" في أعقاب البعثة الاثرية عام 1978، معتبرًا أنه تم دحر سكان قرية قريوت المجاورة عن الموقع مذ ذاك الحين. ويُشير الى أن الخرائط المعروضة في الموقع السياحي تتجاهل البلدات الفلسطينية كليًا وتحاول الخارطة الترويج للمواقع السياحية في المستوطنات فقط.
. نقطة رصد في الموقع الأثري وفي التلة من وق تظهر قرية "قريوت" الفلسطينية
ويؤكد ليث أبو زيد من مؤسسة أمنستي أن كل من "اير بي ان بي" و "تريب ايدفايسر" تقوم بدمج خدمات في المستوطنات ومنها في مستوطنة شيلو وبالتالي هي تنتهك القانون الدولي، وتساهم بارتكاب جرائم حرب. ويُشير الى أنه "يبدو أنه رغم المعايير الأخلاقية العالية التي تذكرها هذه المواقع الالكترونية عند تقديم خدماتها فهي لا تحترم حقوق الانسان وتساهم بشكل مباشر بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية".
في الجولة المخصصة للصحافيين والتي بادر اليها فرع منظمة العفو الدولية في تل أبيب، لم يخشَ أحد الحديث عن الاحتلال وكيف يؤثر هذا الاحتلال على الشعب الفلسطيني ويمنعه من استغلال أراضيه، ربما بعكس ما شهدناه في المستوطنة، وبعكس ما تقوم به هذه المواقع الالكترونية أو ان صح القول وكالات السياحة الرقمية.
لتحميل الحكومات مسؤولية ضلوع شركاتها!
أما المحامي معن حماد من منظمة العفو الدولي فيقول في حديث خاص بـ"الاتحاد" إن عدد السياح القادمين الى الاراضي المحتلة عن طريق هذه المواقع والتطبيقات الالكترونية ليس واضحًا ولكن التقرير يشير الى أن 40 بالمئة من السياح القادمين الى إسرائيل يدخلون المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ويشير الى أن المستوطنات تستفيد من هؤلاء السياح، الذين يُضللون ولا يعرفون أنهم قادمون الى أراضٍ محتلة ويساهمون بالتالي بانتهاكات حقوق الانسان.
ويدعو حماد الى وقف الانتهاكات وعدم دعم المستوطنات غير القانونية في الأراضي المحتلة، ويطالب بالسماح لنشطاء حملة المقاطعة بممارسة نشاطهم بحرية.
كما يُضيف أنه يجب محاسبة الحكومات حتى التي تسمح لشركاتها في المساهمة بجرائم الاحتلال، على سبيل المثال حكومة الولايات المتحدة وحكومة هولندا.
ويشير معن الى أن إدراج مواقع أثرية وسياحية فلسطينية ككنيسة المهد في بيت لحم على سبيل المثال في مواقعها وتطبيقاتها لا يُعفيها من المسؤولية لمشاركتها بالترويج لجرائم الاحتلال! ويطالب بإزالة هذه المواقع في المستوطنات غير الشرعية المقامة على أراضٍ فلسطينية مباشرة.
المحاميان ليث أبو زيد ومعن حماد من منظمة العفو الدولية
التقرير جزء من حملة دولية
يقول ليث وهو مسؤول الحملات في مؤسسة العفو الدولية ان هذا التقرير جزء من الحملة الدولية التي تحث الدول على منع منتجات المستوطنات من الدخول الى اراضيها، ومنع شركاتها من المتاجرة ببضائع المستوطنات وازالة المواقع السياحية في المستوطنات المدرجة على مواقعها. يعتبر أن هذه الخدمات التي تعرض هي جزء من الانتهاكات التي يتعرض لها السكان الفلسطينيون.
يراجع بشار القريوتي الملفات التي بين يديه، يقول كل هذه الأراضي لقريوت، كلها صودرت لمصلحة المستوطنات، حتى كروم العنب التي كانت ملكًا للقرية وكان مزارعو القرية يزرعونها ويحصدونها، باتت اليوم جزءًا مما يروّج له المستوطنون في سياحتهم. فيصنعون النبيذ من عنب قريوت، ويروجون له كنبيذ "جبال يهودا".
بشار القريوتي يحمل خارطة تشرح التوسع الاستيطاني والحفريات الجارية في موقع"خربة سيلون" الأثري
ويقول "هذا الموقع الأثري – خربة سيلون - كان يسكنه أهالي قريوت، وهو موقع اثري فيه آثار رومانية قديمة جدًا وكل الآثار هي اما رومانية ومسيحية وليس فيها أي أثر يهودي وحتى العام 1924 كان يقطنه سكان قريوت، وفي الـ 78 سيطرت عليه مستوطنة شيلو. الروايات الاسرائيلية بحسب رواياتهم هي كاذبة ويؤكد أن خربة سيلون لها تاريخ قديم جدًا وهي مسجلة بملكية خاصة بالطابو لسكان قريوت".
توسيع الاستيطان بهدف فصل شمال وجنوب الضفة!
ويتابع بقوله إن "جيش الاحتلال الاسرائيلي سلّم أهالي القرية ستة قرارات خلال سنة يهدف لطرد أهالي القرية ومصادرة أراضيهم، معتبرًا أنه حتى الآن لم ينفذ قرار المحكمة الذي يُتيح لأهالي قريوت الدخول لأراضيهم وفلاحتها" منوهًا الى مصادرة 330 دونما من أراضي خربة سيلون فقط. في حين أنه تمت مصادرة 14 ألف دونم من اصل 22 ألف دونم من أراضي قريوت لصالح ثلاثة مستوطنات وأربع بؤر استيطانية كبرى.
ويحذر من تنفيذ خط ألون الاستعماري الذي يهدف الى تعميق الاستيطان في وسط الضفة الغربية وبمنطقة شيلو على وجه التحديد بهدف الفصل بين شمال وجنوب الضفة الغربية!
ومن بين المستوطنات الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية مستوطنة كفار أدوميم، وهي موقع سياحي متنام وتقع على مسافة أقل من كيلومترين من قرية الخان الأحمر الفلسطينية البدوية، المهددة بالهدم بعد ضوء أخضر من المحكمة العليا في اسرائيل، ليُتاح توسيع المستوطنات القريبة على حسابها. فلم يسرقوا الاسم فحسب بل أيضًا الأرض.
فسيفساء الكنيسة في خربة سيلون
وقالت سيما جوشي، مديرة قسم القضايا العالمية في منظمة العفو الدولية: "إن قيام إسرائيل بالاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بشكل غير قانوني، وتوسيع المستوطنات يؤدي إلى إدامة المعاناة الهائلة، حيث تطرد الفلسطينيين من ديارهم، وتدمر سبل عيشهم وتحرمهم من المتطلبات الأساسية، مثل مياه الشرب. وتقدم شركات "اير بي إن بي"، و"بوكينج دوت كوم"، و"إكسبيديا"، و"تريب أدفايزر" نفسها باعتبارها قائمة على مبدأ المشاركة والثقة المتبادلة، ومع ذلك فهي تسهم في مثل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان بممارستها أنشطة تجارية في المستوطنات".
سياسة شركة "اير بي إن بي"
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، قدمت شركة "اير بي إن بي" تعهداً بحذف جميع قوائم الأماكن المتاحة للحجز في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وذلك في أعقاب تحقيقات قامت بها قناة "الجزيرة" ومنظمة "هيومن رايتس ووتش" (مراقبة حقوق الإنسان). إلا إن هذا التعهد لم يمتد ليشمل القدس الشرقية المحتلة، بالرغم من أنها أرض محتلة هي الأخرى، ويوجد بها أكثر من 100 مكان للحجز في مستوطنات. تهيب منظمة العفو الدولية بشركة "اير بي إن بي" أن تنفذ تعهدها الذي أعلنته، وتزيل جميع قوائم الأماكن المتاحة للحجز في المستوطنات القائمة في الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. كما يجب على شركات "بوكينج دوت كوم" و"إكسبيديا" و"تريب أدفايزر" أن تزيل جميع قوائمها من الأماكن المتاحة للحجز في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتنص "المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان"، الصادرة عن الأمم المتحدة، على أنه تقع على الشركات مسؤولية احترام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في أي مكان في العالم تمارس فيه أنشطتها. وإلى أن تقوم جميع الشركات الأربع الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية بإزالة قوائمها من الأماكن المتاحة للحجز في المستوطنات، فسوف تظل مخالفةً لتلك المسؤوليات فيما يتعلق بأنشطتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومخالفةً أيضًا لمعايير الشركات الخاصة بها.
صورة لموقع بوكينج دوت كوم يعرض شقة للايجار في مستوطنة "ايلي" بالضفة الغربية المحتلة
ترويج الأنشطة التجارية للمستوطنات
لدى جميع الشركات الأربع الواردة في تقرير منظمة العفو الدولية قوائم بأماكن متاحة للحجز في المستوطنات، بما في ذلك مستوطنات الضفة الغربية. ووقت كتابة هذا التقرير:
● كان لدى شركة "اير بي إن بي"، ومقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، ما يزيد عن 300 مكان متاح للحجز في مستوطنات قائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
● كان لدى شركة "تريب أدفايزر"، ومقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من 70 من معالم الجذب السياحي المختلفة، والجولات، والمطاعم، والمقاهي، والفنادق، والشقق المعروضة للإيجار في مستوطنات قائمة على الأرضي الفلسطينية المحتلة.
● كان لدى شركة "بوكينج دوت كوم"، ومقرها الرئيسي في هولندا، قوائم تضم 45 فندقًا وأماكن للإيجار في مستوطنات قائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
● كان لدى شركة "إكسبيديا"، ومقرها في الولايات المتحدة الأمريكية، تسع جهات تقدم خدمات الإقامة، من بينها أربعة فنادق كبرى، في مستوطنات قائمة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ما هو مدى تأثير هذه الشركات ولماذا هي مذكورة في هذا التقرير؟ هذا الشأن تجاري بحت، ففي عصر السرعة وبما أن الانترنت صار بمتناول يد الجميع، فقد راجت في العالم أجمع وفي البلاد أيضًا وازدهرت صناعة السياحة، وبات بإمكان الجميع أن يقوموا بحجز رحلاتهم الى الخارج بضغط زر. أو كما يتضح أن الشركات الأربع هي الأكثر رواجًا على الانترنت، فمثلًا تقول شركة تريب أدفايزر إن موقعها يُشاهد أكثر من 450 مليون مرة شهريًا، فهي بالتالي تصل الى كم هائل من السياح المحتملين، وقد يروق لبعضهم حجز تذكرة رحلة الى الأراضي المقدسة، وبالتالي فإن تقرير منظمة العفو الدولية يخلص إلى أن الشركات الأربع ("اير بي إن بي" و"بوكينج دوت كوم" و"إكسبيديا" و"تريب أدفايزر") لا تكتفي بلعب دور مهم في تشجيع السياحة إلى المستوطنات غير القانونية، بل إنها تضلِّل زبائنها أيضا، حيث إنها لا تشير على الدوام إلى أن أماكن الحجز المتاحة تقع داخل مستوطنات إسرائيلية.
في المقابل تقُدر قيمة شركة بوكينج دوت كوم ما يزيد عن 100 مليار دولار أمريكي. ما يجعلها من أكبر الشركات على مستوى العالم في مجال السياحة.
داخل الحانوت بيع مجسمات للهيكل والخيمة التي شكلت المذبح الأول كما يدعون
ويبرز تقرير منظمة العفو الدولية كيف تسمح الحكومة الإسرائيلية للمستوطنين باستغلال الأراضي والموارد الطبيعية المملوكة لفلسطينيين وكيف تشجعهم على ذلك، وبالتالي فإن المستفيد الأول منها هم المستوطنون، اما الثاني فهو الشركات التي تتعامل مع المستوطنات وتشجع على السياحة الاستيطانية. فتعتبر منظمة العفو أن هذا الاستيلاء على الممتلكات بدون مبررات عسكرية يصل الى حد جرائم الحرب بموجب نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية. رغم أن الشركات الأربع تدعي أنها تعمل بموجب قيم أخلاقية عليا وتحترم سيادة القانون وحقوق الانسان.
وثَّقت منظمة العفو الدولية التناقض الصارخ بين المغريات السياحية المعروضة في المستوطنات وانتهاكات حقوق الإنسان التي تُرتكب يوميا ضد الفلسطينيين في المناطق نفسها.
فشركات "اير بي إن بي" و"بوكينج دوت كوم" و"إكسبيديا" و"تريب أدفايزر" تعرض جميعها أماكن متاحة للإيجار خلال الإجازات و"تجارب مثيرة" لإقامة مخيمات في الصحراء، مقابل 235 دولارًا أمريكيًا لليلية الواحدة، وهي أنشطة يديرها مستوطنون داخل مستوطنة كفار أدوميم أو بالقرب منها كي يتمكن السائح من قضاء "ليلة هدوء بالصحراء وتذوّق طعم الضيافة الاسرائيلية الدافئة". وهناك نحو 180 شخصًا من سكان قرية الخان الأحمر يتهددهم خطر الإخلاء القسري من المنطقة.
في هذا الموقع الأخاذ، يشير التقرير الى أن المستوطنة المقامة على سلسلة من التلال "تطل على مشهد أخاذ يغطي صحراء "يهودا" ووادي الأردن وبقرب معالم سياحية عديدة منها عين الفرات / محمية وادي القلط الطبيعية".
واستطردت سيما جوشي قائلة: "إن كل قرش تجنيه تلك الشركات من الترويج لأنشطة سياحية في مستوطنة كفار أدوميم هو ربح ناتج عن انتهاكات لحقوق الإنسان. ومما يزيد الأمر سوءا أن المستوطنين يستخدمون الثقافة البدوية لجذب السياح إلى تلك المنطقة".
الممثل الكوميدي الاسرائيلي "شاحار حسون" في مقطع يعرض داخل مركز الزوار في مستوطنة شيلو
السياحة كمبرر لتوسيع المستوطنات / خربة سوسيا
يعيش في الضفة الغربية نحو 3 ملايين فلسطيني لا يستطيعون من تطوير السياحة في قراهم وبلداتهم بسبب نير الاحتلال الجاثم على شتى أراضيهم ويتحكم بمقومات الحياة. فكل "بركس" أو مبنى يحتاج مصادقة سلطات الاحتلال التي تعطي بطبيعة الحال المستوطنات الإسرائيلية والـ 600 ألف مستوطن حق الأولويّة بل الحق الحصري ليقوموا بكل ما يحلو لهم. فإن كانوا يرغبون ببناء مبنى هنا، تصادر الأرض لصالحهم، وهذا الأمر يظهر جليًا في خربة سيلون وفي الخان الأحمر، وفي غيرها من المواقع.
في قرية خربة سوسيا على سبيل المثال يقطن الفلسطينيون في ملاجئ مؤقتة بعدما تم طردهم من معظم أنحاء المنطقة بقرار من الحاكم العسكري الذي أعلن الخربة "موقع اطلاق نار" أو موقعًا عسكريًا بامتياز، فاستغل طوال سنين جنود الاحتلال هذا الموقع، دون أن يطلقوا طلقة واحدة. بينما الهدف المركزي كما يظهر من التقرير هو إتاحة المجال لتوسيع مستوطنة سوسيا المجاورة. وقد أغلقت السلطات الإسرائيلية آبار وصهاريج المياه في خربة سوسيا. وكانت تقديرات الأمم المتحدة قد أشارت في عام 2015 إلى أن حوالي ثلث دخل السكان من أهل القرية يُنفق على شراء المياه.
يوني مزراحي من مؤسسة "عيمق شافيه" خلال الجولة
ومستوطنة سوسيا مقامة على آثار موقع أثري، كان لا يزال وقت كتابة تقرير المنظمة معروضًا على موقعي شركتي "اير بي إن بي: و"تريب أدفايزر"، مع صور للأماكن التي يمكن للسياح زيارتها، ومن بينها الآثار، وبستان لأشجار الزيتون، ومصنع للخمور، وكرم للأعناب، بالإضافة إلى حوض سباحة كبير في المستوطنة.
وتقول سيما جوشي من منظمة العفو "إن الموقع الأثري في سوسيا، مثله مثل كثير من معالم الجذب السياحي الأخرى داخل المستوطنات أو بالقرب منها، يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في مناطق مجاورة. وتُعتبر شركات الحجز عبر الإنترنت، بترويجها لمثل هذه المواقع، ضالعةً في المساعي غير القانونية للحكومة الإسرائيلية لتوسيع المستوطنات بأي ثمن".
ويقول المواطن حمدان حريني من خربة سوسيا "إنهم يسمحون للمستوطنين بالذهاب متى شاؤوا، أما نحن فلا يُسمح لنا حتى بالوصول الى ارضنا أو حتى عبورها لأنها منطقة أمنية"! فيما يُضيف عزام نواجهة من سكان خربة سوسيا "لقد أرغمنا المحتلون على مغادرة أرضنا لأنهم أرادوا كسب المال من السياح. كان يمكن أن يعطونا إياها لادارتها، فنحن لا يمكن أن ندمرها، ولكنهم لن يسمحوا لنا بالانتفاع من أرضنا مطلقًا"!
صورة من موقع "تريب ادفايزر" لجولة يعرضها أحد المستوطنين في مستوطنتي بيت ايل وشيلو بالضفة الغربية المحتلة
سلوان ومدينة داود
إحدى الحالات التي عاينها التقرير الموسّع هي حي سلوان في القدس الشرقية المحتلة، وفيها أحد المواقع الأثرية الأبرز والتي تسمى "مدينة داود". جرائم المستوطنين الإسرائيليين وسلطات الاحتلال في القدس والتي تحاول محو كل معلم عربي للمدينة، فحدّث ولا حرج. ولكن من غير المعلوم على سبيل المثال أنه في "مدينة داود"، فقد فازت شركة "تريب ادفايزور" بعطاء لتعمل كوكيل الحجز المعتمد من قبل منظمة "إلعاد" الاستيطانية التي تُدير الموقع بموافقة من الحكومة الاسرائيلية.
الاستيطان الاسرائيلي في سلوان ليس بجديد وهو قائم منذ الثمانينيات من القرن الماضي، ففي حي سلوان المقدسي بات المستوطنون يشترون المنازل بصفقات مشبوهة من أيدي بعض الفلسطينيين، عبر وسطاء من الداخل، بعضهم انتفع ماديًا مقابل مصادرة حقوق أبناء الشعب الفلسطيني.
بعض هذه المنازل في سلوان تحوّلت الى شقق تؤجر هي الأخرى عبر المنصات المذكورة آنفًا للسائحين.
يشير التقرير الى أن جمعية إلعاد تقدم سردية تاريخية مشوّهة للمنطقة، مؤكدة على الجذور التاريخية لليهود في الموقع وتستثني السكان الأصلانيين الفلسطينيين كليًا من روايتها وتهمشهم. هذا الأسلوب المتبّع من قبل جميع المؤسسات الاستيطانية والمستوطنات هو السبب الأساس لكتابة التقرير، والذي يُشير الى أن الحديقة الوطنية مدينة داود في سلوان وحدها استقبلت ما مجمله 17,5% من مجموع السياح الأجانب الى اسرائيل في عام 2017.
هكذا يروّجون للسياحة "الانجيلية" في المستوطنات
سياحة الاحتلال
"سياحة الاحتلال" إن صحّ القول تعتمد أولًا وقبل كل شيء على استثناء الرواية التاريخية الفلسطينية، وإقصاء الفلسطيني من الرواية والأرض بقوة السلاح! فهي عملية تبادلية، المواقع الأثرية تستخدم لترسيخ وجود المستوطنين على الأراضي الفلسطينية المحتلة بحجة "أرض الآباء" ومحاولة تزوير الوقائع والحقائق لتاريخ هذا المكان. في المقابل، يُستخدم المستوطنون للترويج لهذه الرواية التاريخية بأنها "أرض الآباء" وأن اليهود يعودون الى المواقع التاريخية التي استوطنوها قبل آلاف السنين.
يظهر جليًا من التقرير وعلى أرض الواقع أن العلاقة بين الدولة والمستوطنين هي تبادلية، فالأولى تروّج للسياحة الانجيلية "تعالوا وزوروا المواقع التاريخية للشعب اليهودي، حيث جرت أحداث الإنجيل" (بالأخص العهد القديم منه)، والمستوطنون يستخدمون البدع التاريخية كمبرر لوجودهم واستيطانهم في هذه الأراضي. الأولى تسلب وتصادر الأراضي الفلسطينية بالمبررات ذاتها، وأولئك يطالبون الأولى بحمايتهم بقوة السلاح كي يتمكنوا من تطوير هذه السياحة!
سواح يابانيون في موقع "خربة سيلون"
بطولات الأطفال
خلال تجوّلنا في قرية قريوت الفلسطينية استوقفتنا مجموعة من الأطفال الذين كانوا يلهون وتفاجأوا من كمية الزوار الجدد للقرية (جولة للصحافيين مع منظمة العفو)، وأخذ أحدهم يحدث الصحافيين عن بطولاته، فحدثّنا كيف اختبأ في مغارة طوال يومين هربًا من جنود جيش الاحتلال الاسرائيلي الذين كانوا يبحثون عنه، هذا الطفل الذي هو في الصف الرابع الابتدائي، لأنه قام برشق حجارة. ولم يتمكنوا من الامساك به.
مشهد طفل يرشق الحجارة تجاه جنود الاحتلال ليس غريبًا على الشعب الفلسطيني، فأبناؤه من صغرهم هم "أطفال الحجارة".
في سلوان على سبيل المثال، يُشير التقرير الى اعتقال عشرات الأطفال لهذا السبب "لا تستطيع أن ترى طفلًا واحدًا في الشارع لم يُقبض عليه ولو لمرة واحدة في هذا الحي" كما قال فتى ابن سلوان في الـ17 من العمر.
بشار القريوتي يطل على موقع "خربة سيلون" الأثري ومستوطنة شيلو
التجربة الايرلندية
الأسبوع الماضي صادق البرلمان الايرلندي على مشروع قانون يمنع الترويج لمنتجات المستوطنات الاسرائيلية والبضائع والخدمات مع المستوطنات، في حدث يعتبر علامة فارقة على مستوى أوروبا والعالم أجمع. وقد تكون بالتالي ايرلندا أولى الدول التي تحظر هذه المواقع لترويجها للسياحة في المستوطنات، وستكون بدون شك تجربة أولى فريدة من نوعها في كيفية تطبيق هذا القانون للتفريق بين منتجات اسرائيلية من داخل الخط الأخضر ومنتجات المستوطنات، وهو أمر تحاول الشركات الاسرائيلية والاستيطانية تعطيله وتشويشه بهدف إظهار منتجات المستوطنات كمنتجات شرعية تُنتج في اسرائيل.
في المقابل، تهيب منظمة العفو الدولية بالدول الأخرى أن تحذو حذو أيرلندا في هذا الصدد.
أحد المساجد في خربة سيلون
ما هو المطلوب فعله اليوم؟
أصدر مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة قرارًا منذ العام 2016 يطالب فيه مفوضية حقوق الانسان بانشاء قاعدة بيانات تضم جميع المشاريع التجارية المتورطة في أنشطة "تثير بواعث قلق خاص بشأن انتهاكات حقوق الانسان". بهدف مساعدة الدول على ضمان احترام حقوق الانسان من قبل الشركات الخاصة الخاضعة لولاياتها القضائية، ومحاسبة تلك التي تتاجر مع شركات تقيم أنشطة داخل المستوطنات الاسرائيلية غير الشرعية أو ترتبط بها. وحتى الآن لا تضمن قاعدة البيانات المذكورة أي كلمة عن شركات السياحة الالكترونية التي تساهم بانتهاكات حقوق الانسان، فإن منظمة العفو الدولية تطالب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الانسان بإدراج هذه الشركات في التحديثات التالية لقاعدة البيانات.
تطالب منظمة العفو السلطات الاسرائيلية بوقف جميع الأنشطة الاستيطانية كخطوة أولى لتفكيك المستوطنات والبنية التحتية المرتبطة بها في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ووقف عمليات تدمير الأراضي والمنازل وتهجير المواطنين الفلسطينيين.
وتطالب حكومات العالم باتخاذ اجراءات تنظيمية لمنع شركات السياحة ومنها السياحة الالكترونية من تقديم أو تسهيل الخدمات السياحية في المستوطنات الاسرائيلية من قبل المستوطنين.
أما الشركات، فالمطلوب منها بادئ ذي بدء، إزالة هذه المواقع المذكورة في التقرير وغيرها المقامة في المستوطنات الاسرائيلية من على صفحاتها، والالتزام بعدم الترويج بأي طريقة من الطرق بتنفيع المستوطنات الاسرائيلية غير الشرعية ولا المستوطنين. ودفع تعويضات عن الضرر الذي لحق بالسكان الفلسطينيين في هذه المجتمعات المتضررة من الأنشطة الاحتلالية والسياحة الاستيطانية المختلفة.
عدا عن ذلك يطالب التقرير الشركات بالإفصاح عن سياساتها المتعلقة بالواجب الأخلاقي وحقوق الانسان وتوفير تفاصيل لكيفية تنفيذها عمليًا. كما يطالبها بتحمل المسؤولية لأي دور تقوم فيه يساهم في انتهاك حقوق الانسان وبشكل خاص في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ردود الشركات
بعثت منظمة العفو الدولية، قبل نشر تقريرها، برسائل إلى الشركات الأربع، وأتاحت لكل منها فرصة الرد على النتائج التي توصلت لها المنظمة. وقد ردَّت شركتا "بوكينج دوت كوم" و"إكسبيديا"، بينما لم يرد أي رد من شركتي "اير بي إن بي" و"تريب أدفايزر".
وقد راجعت منظمة العفو الدولية ردود الشركتين تفصيلًا، واستعانت بما تضمنته من معلومات في تحديث النتائج التي توصلت إليها. وترد نسخ من ردود الشركتين في ملحق بتقرير المنظمة.
إضافة تعقيب