ظل، وتراب، وعصا، وخطوة صغيرة ربما تشير إلى التمهل في المسير، هيئة رجل مسن دون أن تبدو معالم وجهه أو ينكشف شيء من هويته، هذا ما حمله غلاف الرواية القصيرة، "النوفيلا" لكاتبها الأديب الفلسطيني المبدع محمود شقير، وهي الرواية الرابعة للكبار وفق ما صرح به الأستاذ في إحدى المقابلات حول هذا العمل الصادر في آب 2024 عن "دار نوفل هاشيت أنطوان".
وكما هو الحال دوما يشكل اسم المؤلف، واسم الرواية "منزل الذكريات" جزءا أساسيا من مكونات الغلاف، إلا إن اللافت أن الغلاف لا يتضمن صورة لمنزل الذكريات، تساؤل ربما يخطر للقارئ الذي لن يتمكن من إدراك الإجابة على هذا السؤال قبل أن ينهي قراءة الرواية.
وفي التمهيد للقسم الأول يستحضر الأستاذ شقير روايتين من الأدب العالمي؛ هما رواية "الجميلات النائمات" للكاتب الياباني ياسوناري كاواباتا، ورواية "ذكريات غانياتي الحزينات" للكاتب الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز، مع جملة او جملتين من كل من الكتابين. ظننت ابتداء أن هذا شكل من أشكال النصوص الموازية، إلا أن الصفحة الأولى من الكتاب أخبرتني بغير ذلك، فقد وجدت نفسي ملزما بأن أقرأ الروايتين قبل أن أتابع أحداث رواية "منزل الذكريات"، تجربة خضتها للمرة الأولى بعد عقود من القراءة، وأدركت أهميتها وأنا اتقدم عبر فصول الرواية، فقد لازم العجوزان "إيغوشي" بطل رواية الياباني كاواباتا، والتسعيني بطل رواية ماركيز، "محمد الأصغر" بطل هذه الرواية طيلة فصول الرواية، وشكلت مشاركتهما بعدا عالميا للرواية.
يسعى العجوز إيغوشي بطل رواية "الجميلات النائمات"، إلى نوع من الترفيه عن النفس بقضاء ليلة بصحبة فتاة صغيرة عذراء عارية منومة بفعل مخدر، على أن يتعامل مع الفتاة ضمن قوانين صارمة تحرمه من العودة إلى هذا البيت إن تجاوزها، ويعمد التسعيني بطل الرواية الكولومبية إلى تجربة قريبة من حيث الفكرة وإن اختلفتا في التفاصيل.
وتُعجب الفكرة محمد الأصغر وقد فقد زوجته التي رحلت بتأثير كورونا، فيعمد إلى تطبيقها في بيت الدعارة الذي تديره "فريال"، وينجح في مرة يتيمة بتقديم حبة منومة للفتاة، وممارسة الطقوس التي قرأ عنها في الروايتين وسط سخرية الفتاة وسيدتها. وترفعه عن هذه السخرية جاء كونه القارئ المثقف الذي يعلم ما لا تعلمان.
ويحلق المؤلف في فضاءات جديدة بكثير من الخيال في مواقف كانت الأحلام مسرحها، حيث لم تتوقف تأملات محمد الأصغر التأملية عند مماهاة تجربة العجوزين بطلي الروايتين السابقتين، بل تعداها إلى وصف زيارات زوجته الراحلة سناء له في المنام، وما حملته هذ الزيارات من رسائل تتضمن العتب أحيانا، وتعبر عن الغيرة أحيانا، وتكتفي بالتعبير عن الشوق وعيش اللحظة في زيارات أخرى.
وتمادى محمد الأصغر في تأمله فاستضاف أسمهان "جامعة التبرعات" في أحد أحلامه ليكتشف لاحقا أن أحلامه مكشوفة لأسمهان، وكان لهذا الاكتشاف تبعات جسيمة لم تتوقف على الزواج منها تحت ضغط أخيها "جميحان" رجل العصابات المنفلت من كل قيد وحد، الماضي في غيه وطغيانه إلى أبعد حد، فإلى أين يصل هذا الطغيان؟ . ولعله جدير بالاهتمام التوقف عند الاشتقاق اللغوي لاسم "جميحان" الأمر الذي يشي بأن اختيار المؤلف للإسم لم يكن محض مصادفة.
ويشير المؤلف إلى "جميحان" ومن هم على شاكلته من الزعران الذين يمتهنون البطالة بصفتهم بذورا شيطانية للاحتلال الإسرائيلي، يترعرعون في ظله ويساعدونه في قض مضاجع الناس والعبث بأمنهم وراحتهم.
يستعين المسن الفلسطيني "محمد الأصغر" بصديقيه العجوزين، فها هو في الفصل المعنون "سهرة" و بعد أن يرحب بهما ويعبران من طرفهما عن سرورهما باللقاء يقول:"شكرت العجوزين على كلامهما الظريف، ثم شكوت لهما من العسف الذي ألقاه من جميحان وأتباعه من الزعران الفالتين الذين لا يردعهم أي عرف..". ص 102
يتباين موقف العجوزين من هذه المسألة ففي حين لجأ عجوز ماركيز إلى الحكمة قائلا "عليك أن تصبر يا صديقي وتحتمل إلى أن تتغير هذه الأحوال، وإلى أن تجدوا خلاصكم من هذا الاحتلال الذي تنمو على حوافه تلك الظواهر الشيطانية"، فقد أبدى العجوز الياباني "إيغوشي" استغرابه من قدرة محمد الأصغر على تحمل هذا العسف من جهة والاحتلال من جهة أخرى ومضى في تضامنه حد الاستعداد بالتضحية بالتفس من هذا الظالم أو من الاحتلال.
ويمضي المؤلف في الحديث عن معشوقته مدينة القدس من خلال مشاهد يلتقي فيها محمد الأصغر بضيفيه العجوزين في شوارع القدس ومقاهيها، مزودا إياهما بالتوصيات والمحاذير اللازمة لسلامتيهما في ظل الاحتلال، وعصابات الزعران.
ثمة بين السطور ما ينفي كون الرواية سيرة ذاتية أو جزءا منها إضافة إلى ما أكده المؤلف في إحدى المقابلات مؤكدا إن الجزء الوحيد الحقيقي في الرواية يتمثل في المشاعر والأحاسيس المتعلقة بالقدس، وقد عمد المؤلف إلى الاستعانة بالتناص مع الروايتين العالميتين لكاواباتا وماركيز، وكتابين آخرين من التراث هما "أخبار النساء" لإبن قيم الجوزية، و"النساء" لإبن قتيبة.
وبالرغم من صغر حجم الرواية نسبيا "في تشابه نسبي مع روايتي كاواباتا وماركيز" إلا إنها جاءت في ما يزيد عن ستين فصلا، ولم يتجاوز طول بعضها صفحة الواحدة، الأمر الذي يشير إلى لغة مكثفة اختار المؤلف اللجوء إليها في الكثير من أعماله، وتبدو النصوص في غاية البساطة إلا إنها كما وصفها الأستاذ محمد عبيد الله أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة فيلادلفيا: "رواية قصيرة جميلة من فرائد محمود شقير، تتظاهر بالبساطة، وتعطي درسًا في عبقريتها وجماليّاتها المختلفة".
عمان في 20/10/2024
إضافة تعقيب