news-details

ظاهرة  زواج  الاقارب جذورها  وعوامل  تقلصها

يفترض ماركس أن اسلوب الانتاج المادي يُحدد الصِفة العامة لصيرورة الحياة الاجتماعية والسياسية الفكرية. وان البناء الفوقي تفرزه البُنية التحتية اي قوى وعلاقات الانتاج والتي تؤدي لدخول الانسان في علاقات تفرضها عليه البُنية والتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والثقافية للمرحلة التي يعايشها. اذا الواقع الاقتصادي للانسان هو الذي يحدد وعيه ومفاهيمه. إن التعرف على الظواهر الاجتماعية يتطلب الكشف عن ارتباط الجزء بجميع الأجزاء لانه ليس تفاعلا آليا مع الاقتصاد،انما يتوفر تفاعل تبادلي بينها،حيث تلعب العوامل الاقتصادية وعلاقات الانتاج المحرك الاساسي لها. ويقودنا هذا بان ننظر إلى المجتمع كنسق يتألف من عدد من العناصر المتفاعلة المتساندة التي يؤثر بعضها في بعض،لنتمكن من التعرف والكشف على مدى ومستوى التشابك والتفاعل بين القوى المتعددة التي تؤلف حياة المجتمع ككل، ودور كل منها وفي مقدمتها الاقتصاد والبُنية المادية،في ديمومة تماسك واستمرارية بقاء هذا المجتمع، أو زواله.

ان هذه المقدمة ستُشكِل نقطة الإنطلاق والمعيار لتفسير عوامل ومحركات ظهور وتقلص ظاهرة زواج الاقارب في مجتمعنا العربي في البلاد. تنقل لنا دراسات وابحاث الثقافة بمهومها الانتروبولوجي هذا الادعاء،كلما كان زواج المرأة خارج العائلة كان يتبعه نقل أموال واملاك الزوجة إلى الغير (الآخر) عبر الإرث.وبما ان حيازة ملكية الارض هي القاعدة والمصدر الاساسي للعيش في مجتمع فلاحي، سيدفع لاختيار وتوظيف كافة الوسائل والعادات والتقاليد والطقوس لضمان استمرارية بقاء الميراث وخاصة الاملاك غير المنقولة بملكية الذكور في كل عائلة.

ويفرض عالم تطور السلالات البشرية "مورچان" ان الزواج الإندوچامي (الداخلي) سيطرح على تاريخ الانسان في المجتمعات الزراعية (بشكل خاص البدائية)، فأحسن الاختيار في حينه بتطبيقه نمط تبادل النساء بين الاقارب لضمان استمراية بقائه.

 

كان يُعتبر تزويج البنت خارج الحمولة نوعاً من التنازل عن الممتلكات، وبصدق ادركوا واستوعبوا بفعل واقعهم الاقتصادي بأن أحق الناس بالحفاظ على ممتلكات العائلة هو ابن العم. فكان الزواج من ابنة العم مسألة مُسلّم بها، ويندر أن يخرج عليها أحد. حتى اصبح الزواج بابنة العم من المسلّمات الثابتة والمتجذرة، حتى لا تُعطى الفرصة للغرباء ليرثوا ممتلكاتها، اذا تزوجوا من بناتها.

 

إعتمد اقتصادنا بالاساس قبل قيام الدولة على الزراعة التقليدية حيث احتلت ملكية الاراضي والعمل الزراعي،المصدر الاساسي للدخل.وكان الأب هو المسيطر، وهو محدِد مستقبل ومصير أبنائه، وبدون رضائه وموافقته لا يستطيع الابن أن يشق طريق حياته. فالبُنية الاقتصادية افرزت العائلة الموسعة (هي وحدة اجتماعية، اقتصادية وسياسية، تدير اقتصادا مشتركا وتقيم في مساكن مشتركة،وضمت الاب والام والبنات غير المتزوجات والابناء وعائلاتهم)  وشكلت مجتمعا ذكوريا تقليديا ومحافظا أفرزت وفرضت عليه علاقات بطريركية (أبوية)، اي الاب هو المالك للمصادر الاساسية للمعيشة، مما خوله لان يكو ن مصدر وصاحب السلطة والتقرير في كل الامور. وادى هذا النمط والتشكيلة الاقتصادية - الاجتماعية لان يخضع ويمتثل كل افراد عائلاته لكل ما يطلبه منهم. ولقد استمد نفوذه ومكانته لكونه المالك الوحيد والحصري للارض، ادوات الفلاحة والماشية الخ. ولا ينحرف عن هذا النمط الابوي، اصحاب الحِرَف التقليدية الذين سيطروا بشكل مطلق على عائلاتهم الموسعة لان امكانيات الابناء لاكتساب حرفة ليعتاشوا منها كانت فقط بتعلم حرفة والدهم. ففي واقع كهذا التزموا بالطاعة العمياء للأب ليورثهم مهنته، (وتطابق سلوكهم هذا مع المعيار السلوكي السائد في مجتمعهم).وهذا يوفر لنا تفسير اشتقاق اسماء الكثير من العائلات من حرفتها ومهنتها (جمّال، حداد، نجار، نداف، حائك، طحْان،خياط، لحام،كيّال، معلم الخ - ولا يُستثنى من ذلك الاسماء المستمدة من الوظائف الدينية).

ففي واقع كهذا، انعدمت تقريبا امكانية التمرد او عدم الامتثال لسلطة الاب، لان محاولة كهذه كان يترتب عليها الضياع والتشرد ليصبح لا مناص امام الابن الضال، العودة الى عائلته صاغرا وخانعا.

وفي إطار هذا المجتمع الأبوي،والذي افرزه طابع ملكية المصادر الاقتصادية، كان الأب يوجه ظروف الزواج وشروطه وفقا لأغراضه ومصلحة عائلته الموسعة، بصفته الوصي الكامل على الابن، والمصدر الذي يمول عملية الزواج برمتها، من مسكن وملبس ومهر ونفقات العرس. وفرضت هذه المنظومة الاقتصادية - الاجتماعية توحهات،وسلوكيات وعادات وتقاليد عديدة لترسيخ التمسك بها، واخص بالذكر منها في هذه المعالجة موضوع زواج الاقارب. فلقد انبثقت هذه الظاهرة، واستمدت ديمومتها وشرعية استمرارها، لكونها كانت تؤدي وظيفة اساسية في حينه، لانها كانت تضمن عدم انتقال الارض الى غريب، وخاصة عند بقاء الزوجين بدون ذرية.وكان من مبررات زواج الأقارب ان المهر كان في كثير من الحالات،عبارة عن قطعة ارض يقدمها والد العريس لوالد العروس(لشح او عدم توفر امكانيات التعامل بوسائل دفع نقدية)، فضمنت هذه الوسيلة،صفقة مقبولة بانتقال هذه الارض داخل العائلة،لتمنع بذلك التخلي عن ثروة العائلة، لاخرى غريبة عنها.

فكان يُعتبر تزويج البنت خارج الحمولة نوعاً من التنازل عن الممتلكات، وبصدق ادركوا واستوعبوا بفعل واقعهم الاقتصادي بأن أحق الناس بالحفاظ على ممتلكات العائلة هو ابن العم. فكان الزواج من ابنة العم مسألة مُسلّم بها، ويندر أن يخرج عليها أحد. حتى اصبح الزواج بابنة العم من المسلّمات الثابتة والمتجذرة، حتى لا تُعطى الفرصة للغرباء ليرثوا ممتلكاتها، اذا تزوجوا من بناتها. وتبنى هذا المجتمع تقاليد واعرافا وأمثالا شعبية وفولكلورا يدعُم ضرورة استمرار زواج الاقارب،فكان الأهالي يتمسكون بعادة أحقية ابن العم بالزواج من ابنة ‏ عمه، ولو لم يكن بينهما أي مودة أو محبة أو وفاق. وعندما كانت تُطلَب البنت للزواج من شخص من خارج العائلة،نجد ابن عمها يتحراها ان كانت له رغبة فيها، ويُفضَّل على الغريب، وحتى لو كانت البنت مُتَيمة بالغريب. ووظفت كافة الوسائل لارغامها بان تقترن بابن عمها. وكان يستطيع ابن العم الاعتراض والندم على زواج ابنة عمه من الغريب حتى آخر لحظة، فهو القادر بأن "يُنزل ابنة عمه عن الفرس" الذي ينقلها لبيت الزوجية. ودعمت اعتبارات اجتماعية مؤسسة زواج ابناء العم لينضم الاثنان الى عائلة الاب، اي عائلة زوجها الموسعة،ليكفل بذلك تجميع هذه العائلة بدلا من تفريقها. فحقق ذلك وظيفة بنيوية هامة في حينه وهي ضرورة تجميع وتكتل العائلة الموسعة والحمولة، لكونهما من المركبات الاساسية للذود عن نفسها وشموخ مكانتها وعزوتها. فمجتمعنا الفلاحي استمد الضوابط والحماية في عملية صراع بقائه فقط من الانتماء للحمولة، والتي كانت تضم عدة عائلات موسعة، وسكن افراد الحمولة الواحدة على الغالب في حي واحد.وسادت بين أبناء الحمولة الواحدة علاقات تكافل وتضامن متبادلة. وكان زعماء الحمولة هم شيوخها ووجهاءها. وعليه فقد احتلت الحمولة مكانة ووظيفة هامة في مجتمعنا المتميز بطابعه الفلاحي التقليدي. ومن مبررات ومحفزات زواج الاقارب الاعتبار والتصور بانه سيكفل تقليل امكانية الطلاق عند حصول مشاكل بين الزوجين لان المصلحة تطلبت السكوت على مضض لتجاوز التبعيات والنتائج السلبية للطلاق على الحمولة والعائلة الموسعة. انطلاقا مما تقدم لم تكن ظاهرة زواج الاقارب في مجتمعنا الزراعي التقليدي وليد صدفة انما انبثق عن قيامه بوظيفة هامة، انحصرت بالأساس بأهمية دوره الحاسم في المحافظة على المصدر الاساسي للثرو ة أي استمرارية بقاء ملكية الارض بين افرادها. وعليه كان مشروعا في اخلاقياته، استطاعة بل حق ابن العم "تحري" ابنة عمه ومنعها بكل ثمن الزواج من غريب ولو كانت في يوم زفافها.

وتؤكد الكثير من امثالنا الشعبية ضرورة دعم هذا النسق والنمط من الزواج "ابن العم بنزل عن الفرس"، "اللي بتحراها ابن عمها تحرم ع الغريب". ومن هنا جاءت التوصية: "عليك بالطريق لو دارت وبنت العم ولو بارت"، و "المليحة لابن العم والردية لابن العم" و"خُد بنت العم ولو كانت عوره" و "ما بشيل همّك الا بنت عمك"؛ "بنت العم صبّارة على الجفا والحفا". والعروس كانت تقنع نفسها بزواجها بابن عمها بقولها:آخُذ ابن عمِّي واتغطّى بكُمِّي. وكثيراً ما تأخر سن الزواج بالنسبة للرجل انتظارا حتى تكبر ابنة العم.

 

فالتحاق الفرد بمجالات العمل المختلفة ، حدَّ من الاعتماد المتبادل بين افراد العائلة الموسعة (الممتدة). اي ان الاستقلال الاقتصادي ، أدى الى الاستقلال الاجتماعي، وبالتالي النزوع الى الفردية والحرية والحق في الاختيار حتى لو ادى ذلك للتناقض والتصادم مع آراء ومواقف الاب .

 

وايضا الأغاني الفولكلورية النسائية في الأعراس رددت ما يُعبر عن ذلك: هِي يا ابن العم لا توخذ غريبة  رَدادينا ولا قمح الصليبي. هي يا ابن العم يا زينة الفوارس.. بنات عمك طلعن عرايس.. هي يا ابن العم ويا غايـب .. بنات عمـك أخذوهن الغرايب

وفرض التمسك بزواج الاقارب طقسا ألتزم الوالد ممارسته،عندما كان يتقدم شاب من خارج العائلة لخطبة ابنته،، فيبادر والد الفتاة إعلام اخوانه بخبر اقتراح خطوبة كريمته، واذا كان أحدهم يرغب بخطوبة البنت لأحد أبنائه. واذا تحراها احدهم فيبارك له فورا.

احدثت بل فرضت مع قيام دولة اسرائيل تغيرات في البُنية التحتية الاقتصادية ادت الى تغيرات في البُنية الفوقية بكل مكوناتها. ادت مصادرة مساحات واسعة من اراضينا من ناحية وتزايد الطلب على ايدي عاملة غير مهنية لخدمة متطلبات الاقتصاد الاسرائيلي والاستيطان الصهيوني وتوفير المسكِن لموجات الهجرة اليهودية العارمة الى بلادنا    (كانت غالبيتها العظمى من الدول العربية والاسلامية)، لانتقال تلقائي ،سريع واحيانا متسارع الى اقتصاد غير منظمَ ، ومأزوم يعتمد على العمالة المأجورة في اعمال البناء وملحقاتها . ولقد مهد هذا بدوره للانتقال الى نمط اقتصادي عمالي فردي وتجاري محدود وخدماتي، فاقد الامكانيات للنمو الذاتي لكونه ملحقا بالاقتصاد اليهودي ،اذ اصبح وما زال يعتاش من خدمته وفُتاته.ادت هذه التغيرات لتقليل امكانيات حاجة الفرد لتبعيته للحمولة والعائلة الموسعة. ولقد نجم عن ذلك تحولات اجتماعية وثقافية في مجالات مختلفة أخص منها في هذه المقالة كنتاج للتغيرات التي عرضتها ،الإختفاء التدريجي للروابط والولاءات التقليدية وخاصة العائلة الموسعة ،بفقدانها مصادر نفوذها ومكانتها وبقائها كمورد يمكن الاتكال عليه. فالتحاق الفرد بمجالات العمل المختلفة ، حدَّ من الاعتماد المتبادل بين افراد العائلة الموسعة (الممتدة). اي ان الاستقلال الاقتصادي ، أدى الى الاستقلال الاجتماعي، وبالتالي النزوع الى الفردية والحرية والحق في الاختيار حتى لو ادى ذلك للتناقض والتصادم مع آراء ومواقف الاب . فانبثق عن الاعتماد على مصادر الدخل ، التي ذكرتها ،الاحساس بمسؤولية الفرد عن نفسه وان يسعى ليصبح مستقلا .فترتب على ذلك بأن تفقد العائلة الموسعة ركيزتها الاقتصادية التي لم يكن لافرادها مناص بل فرضت عليهم طاعتها والامتثال والتجاوب مع سلطة الاب البطريكية دون تساؤل لأنها كانت تملك كل شيء وتُقرر كل شيء.وبما ان التغيرات الاقتصادية هي من العوامل المقررة في حصول تغيرات بُنيوية ووظيفية في واقع المجتمع فكان من نتائجها ، قيام العائلة النواتية، والتأكيد الواعي بان التعليم هو الرافعة للتطور والحِراك الاجتماعي، وان دخول المرأة سوق العمل هو عامل اساسي لتحقيق حريتها واستقلاليتها. كما مهدت ظروف العمل المأجور خارج القرية الى تحولات في دائرة الانتماء تمحورت على المصلحة المشتركة والمصير المشترك لزملائه في اماكن العمل. ففي واقع كهذا بدأت العائلة تدريجيا تفقد امكانيات استمرارها عائلة موسعة وتقليدية ، تٌشدد على الوظيفة المهمة لعلاقات القرابة، والذي كانت ظاهرة الزواج من الاقارب في منظورها وتصوراتها وسلوكياتها شأنا عائليا اكثر من كونه شأنا فرديا ، يتجاهل بل يٌصادر حقوق الفرد وبشكل صارخ حق الفتاة في اختيار الزوج وايضا حرمانها امكانية ابداء رأيها في الشؤون العادية واليومية.

اذا ارتبطت بل أدت التحولات في البنية الاقتصادية - الاجتماعية، لتقلص الاساس الوظيفي لزواج الاقارب اي ضرورة المحافظة على الاملاك والثروة داخل العائلة ، ليبدأ بالتلاشي تدريجيا التمسك وتطبيق مؤسسة زواج تنطلق من شرْعية عقد قِران ابن العم بابنة عمه ، لدرجة اصبح الزوج يُكني زوجته "بنت عمي ".

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب