لو استعرتُ "لاعب النّرد" و "أثر الفراشة" ما تخيّلتُ هذا اللقاءَ يا صديقي ويا رفيقي محمود.
تصوّرتُ أن نلتقي في تلك القرية الصّغيرة في الجليل حيث جلسنا على مقعد دراسيّ واحد، أو في مدينة الكرمل حيث كنّا نلتقي في أيّام الشّباب ونأكل الخبز والحمّص في مطعم في وادي النّسناس ونتحدّث عن السّيّاب وناظم حكمت ولوركا، أو في قاهرة المعزّ على شاطئ النيل ونروي نوادرنا مع محفوظ والعالم وادريس، أو في رام الله في خليل السكاكينيّ الملفّع بزهر اللوز، ولكنّنا نلتقي اليوم على جناحي طائر الفينيق الفلسطينيّ، جناحِ الثّائر السّرمديّ الذي قاد ثورة معاكسة لأيّ حساب، وجناحِ فنّان ذي ريشة من جناحي فراشة، مدادُها من كوثر زهرة المدائن. هذا الطائرُ الأخضر الذي روت لك حورية أسطورتهَ وهي تحملك على ذراعها ما بين بير البروة الذي شرب منه جواد أبيك الذي تركه وحيداً يستظلّ في زنزلختة البيت وبين بير العياضيّة حيث صهل فرس صلاح الدين فردّد صدى صهيلِهِ فضاءّ أجمل المدن القديمة، حيث كان حبُّك الأوّل وسجنك الأوّل وقصيدتك الأولى.
منذ التقينا قبل سبعة عقود على مقعد الحروف والكلمات التي صادروا ضادها رأيتُ فيك الفتى العربيّ الذي يمتطي الرّيح وفي روحه جراحُ البروة وعنفوانُ طرفة، وفي عينيه أسى الحاكورة التي سرقوا لوزها، وفي قلبه غصّةُ الطّفولة التي سلبوها في ضحى يومٍ ما سجا ليله.
انتصرت جحافل الغزاة في تلك الأيّامِ على طفولتنا وما زال كلّ حجر وخرّوبةٍ وصبّارة وزيتونة في طلل بروتك يروي أوديستنا.
أيّها الشّاعر بأل التعريف كما وصف معلّمنا المعرّيّ صديقك أبا الطّيب المتنبيّ، بسّطت اللغة وطردت الكلماتِ الميتّةَ منها وكنت صيّاداً فارساً تلفّ اللغة بذراعك وتحوّل كلماتِها زنّاراً لخصرها، تزاوج الحرف الأنثويّ بالحرف الذّكري فتعثر الأنثى على الذّكر الملائم في جنوح الشّعر نحو النّثرِ، وشوق النّثر للشّعرِ، فتولد كلماتٌ لها لون اللوز الأخضر وطعمُ التّين الغزاليّ.
حوّلتَ الأفعال المتعدّيّة الى سيوف والأفعال اللازمة الى تروس، ألم تقل في أثناء حصار رام الله "كلّما كتبت سطراً" شعرت أنّ الدّبّابة تبتعد متراً"؟ وحرستَ الوطنَ بقصائدك منذ "أوراق الزّيتون" حتّى "آن لهذه القصيدة أن تنتهي".
خمسة عقود وأنت تقلع المعادن النّفيسة من محجر اللغة وتشيدُ دولة عصرية من الحروف وتبني وطناً جميلاً بالكلماتِ وتزرع حبّة القمح التي تموت لتخضرّ، وفي موتها حياة طفلٍ من مخيّم جنين وطفلةٍ من مخيّم جباليا.
أصابتك حمّى الشّعر وعشقتك عنات في العِقد الأخير من عمرك القصير الغنيّ فعلّقت "الجدارية" على سور القدس وعشت "حالة حصار" حينما غزا برابرة العصر رام الله، وخاطبت ابن أمّكَ "لا تعتذر عمّا فعلت" وقدّمت لحبيبتك "زهر اللوز" وقلت للدنيا "أنا لاعب النرد" ولا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي.
يخافون قصيدتك ويحاربونها منذ "عاشق من فلسطين" و"آخر الليل" حينما قرأ ليفي أشكول من على منبر الكنيست مقاطع من شعرك مروراً بشارون حتّى نتنياهو الذي ادّعى أنّ شعرك يحرّض على قتل اليهود لأنّك كتبتَ "أنا عربيّ...واذا ما جعتُ آكلُ لحم مغتصبي" ويقلقهم أنّ المواطن الإسرائيليّ اليهوديّ صار يعرف اسمك أكثر مما يعرف اسم بياليك.
تجسّدت حكمة الشّهيد القائد بأنّ الحرب تبدأ من فلسطين وإنّ السّلم يبدأ من فلسطين. عرف شعبنا صدر النبوءة في كلّ سورة من سور نضاله فلا شيء يتغيّر منذ عقود حتّى طعم الهواء في غابة الذّئاب، لا شيء يتغيّر سوى القتلة الذين صاروا أكثر وحشيّة ويتقدّمون من الضّحية في سلاحٍ أشدّ حدّة وأكثر حداثة، يريدون أن تغيب صورة الفلسطينيّ عن المسرح.
على أرض البرتقال الحزين أكثر من قائد اسرائيليّ يرى فينا شعباً زائداً يجب استئصاله من أرضه ومن حلمه. اعتدنا على المذابح فلا يمرّ عامٌ بدون مذبحة بل لا يمرّ شهرٌ ولا يمرّ يومٌ بدون مذبحة. من مذبحة دير ياسين الى مذبحة كيس الطّحين في شارع الرّشيد في القطاع الذّبيح. من مذبحة أيّار حتّى مذبحة تشرين وصارت النّكبات نكبة بعد نكبة، من نكبة يافا حتّى نكبة غزّة، وما عدنا نفكّر كما أوصيتنا بقوت الحمام حينما نتناول فطورنا فلم يبقَ حمامٌ من بيت لاهيا حتّى رفح، لم يبقَ سوى الحِمام، أربعون ألف شهيدٍ وشهيدة وما زال ضمير زعماء الطوائف غائباً، ضمير لا يحمي طفلةً في رفح ولا يقدّم كسرة خبز لطفل في بيت لاهيا، وصار الناس يأكلون ورق الشّجر وعلف الحيوان وصارت كسرة الخبز حلم أطفال شعبنا، وأمّا سيّد البيت الأبيض فيرى في إسرائيل ملهمة التعاليم السماويّة ويرسل إليها الطّائرات المحمّلة بالسّلاح ويرسل طائرة ترشّ فتات الخبز على شاطئ غزّة. يقتلنا بالصّواريخ والقنابل ويرغب أن يكفّر عن جرائمه بكسرة خبز.
قلت ذات مرّة يا محمود إنّ الضّمير الغربيّ يسعى ليجد لنا وطناً بديلاً في السّجن العربيّ ولكن هذا السّجن قد يجد لنا فيه زنزانة أو مذبحة ونحن اليوم على شفا ترانسفير ثلاثيّ والرّئيس الصّهيونيّ العجوز قلِق لأنّ رسوله فشل في اسدال السّتار على الفصل الأخير، أمريكا هي كما ذكرتها في مديح الظّل العالي. كان هاري ترومان يدعم إسرائيل من وراء السّتار ظانّاً أنّ أبناء اللات والعزّى يملكون خمس حواسّ وأمّا الرّئيس الصّهيوني العجوز بايدن فيرسل الطائرات وحاملات الطّائرات لأنّه يعلم علم اليقين أنّ ما لجرح بميّت إيلام، وهذا العجوز يعدنا بدولة منزوعة السّلاح ومنزوعة السّلطة ومنزوعة اللسان ومنزوعة الأرض، ولا يدرك أنّ هذا الشّعب المطرود من زيتونه ونبعه هو عنقاء العصر، وكلّ طفلٍ منه يؤمن بأنّ على هذه الأرض المجبولة بالجّريمة ما يستحقّ الحياة ونحن باقون فيها إلى أبد الآبدين. نحن فلسطينيّون حتّى الحرّيّة والاستقلال.
يا أخي ويا صديقي، أعيى مرضك الأطبّاء وحذّروا من انفجار في قلب العاشق وحمّلوا خطورته للشريان الأكبر وللشريان الأبهر وجهلوا أنّ مرضك هو شوقك الى حيفا وكيف يعرفون ذلك وعيونهم لم ترَ رأس الكرمل الذي يحاكي أنف الغزال وأنوفهم لم تشمّ رائحة زعتره ولم يلتقِ شابُّ منهم مع فتاته على سيف بحرها.
كم نفتقدك في هذه الأيّام وسوف نفتقدك أكثر عندما تضع الحرب أوزارها وتقفز الأسئلة الكبيرة في بيوتنا ونوادينا.
سلام الله عليك يوم ميلادك على أرض فلسطين ويوم دفنك فيها ويوم بعثك منها.
*الكلمة التي القاها الكاتب في متحف ياسر عرفات في رام الله في ١٣ اذار باسم مؤسسة محمود درويش رام الله
إضافة تعقيب