يواصل الروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي إبداعاته الأدبية برغم الأسر، وأحكام السجن الجائرة، و"الغربة الحديدية الصدئة"، كما قال في وصفه لحياة السجون في روايته موضوع هذا المقال والموسومة "قناع بِلَوْن السماء"، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2023 عن دار الآداب والمرشحة لجائزة البوكر العربية في قائمتها القصيرة.
يبتعد باسم في هذه الرواية عن قصور العباسيين، ومؤامرات "الخيزران اليمانية" في "مسك الكفاية"، كما يبعد عن "بدر الدين" وتصوفه، في "خسوف بدر الدين"،ليطل على فلسطين بتاريخها وجغرافيتها، وعبقها، وآلامها؛ القديمة منها والحديثة، وعلى تحدياتها عبر القرون في مواجهة أشكال الاستعمار وصولا إلى الكولونيالية الصهيونية وتبعاتها بكل تفاصيلها.
للسرد هنا إيقاع مختلف، متسق مع عصر حديث، متطلب لأدوات مختلفة في تناول المضامين والمفاهيم المتعددة المتعلقة بالتحديات والمواجهات مع النظام الكولونيالي العنصري و كيفية التعبير عنها بأسلوب تميز بالرشاقة والجاذبية.
والروائي باسم خندقجي وإن أشار إلى دان براون وروايته "شيفرة دافنشي"، فإنه لم يقع في فخ التقليد لأسلوب دان براون، بل تمسك بأصالته التي تجلت بوضوح في سياق السرد عبر أحداث الرواية
استعان باسم خندقجي بالمجدلية لبناء حبكة تمكنه من الدخول ببطل الرواية "نور" إلى مواقع يصعب عليه الوصول إليها بغير ذلك، ليس للبحث عن الأسرار التي أرادها "نور" أن تكون مادة لمشروع روايته التي يعكف على إتمامها فحسب، وإنما ليكون جزءا من مشهدية الحوار الرئيس في الرواية سيما في تلك المواجهات المباشرة مع الكولونيالية في إحدى أوضح تجلياتها في واحدة من مستوطناتها، وكانت المجدلية مع نور الشهدي في عزلته "بين الصمت والبوح، بين القراءة وتسجيل البطاقات الصوتية...هنا في هذا ال ما بين يعيش ويترعرع ويطرد قيظه برطوبة مجدلية" ص53، علما بان للمجدلية ما لها من الرمزية في تاريخ فلسطين فهي :"الحضور المتناقض في الحياة، الحضور الثنائي للخير والشر، للتوبة والخطيئة، للملاك والشيطان" ص55.
يعيش "نور" في أحد المخيمات القريبة من رام الله، والذي تعمد عدم البوح باسمه، لأنه يعتقد أن "ليس ثمة معنى لإسم المخيم الفلسطيني ما لم ترتكب فليه مجزرة فيصبح إسما من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانية، يصبح اسمه مخيم تل الزعتر، أو صبرا وشاتيلا، أو جنين، أو الشاطيء" ص16. في حجرة في هذا المخيم عانى نور من اليُتْم، والصمت، والوحدة، سيما بعد اعتقال صديقه مراد. والتي شكلت رسائله إليه وعاء ضمنه جل المفاهيم والمعاني التي بثها من خلال بطاقاته الصوتية، فكانت أقرب إلى الحوار مع الذات في ضوء استحالة وصولها إلى "مراد" في المعتقل. كانت "البطاقات الصوتية " مشهدا مضادا للصمت الذي عاشه في حجرته في المخيم قرب رام الله، ولماذ رام الله؟ لأن الكاتب أرادها شاهدا على الخيبة التي عانى منها بطل الانتفاضة السابق مهدي، "والد نور" المطالب عند خروجه من السجن بالتعهد بنبذ العنف احتراما لاتفاقات أوسلو، الأمر الذي دفعه لالتزام الصمت.
نور الحاصل على شهادة في الآثار والتنقيب، الشبيه في ملامحه باليهود الأشكناز، المتقن للغتين الإنجليزية والعبرية بلكنة الأشكناز، يحظى بهوية لشخص أسمه "أور " يشعر برغبة شديدة في التمسك بها فقد وفرت له فرص الحركة في القدس وتل أبيب وغيرها من المدن، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات، إلا أنه ذهل في المقابل بأهمية الملامح والوجوه، فيقول في بطاقة صوتية لصديقه مراد:"الملامح تصنيف مسبق في تل أبيب، ولكنها ليس كذلك في أماكن أخرى...فملامحي أصيلة كملامح العديد من أبناء شعبي المحتل.. وما قمت به ليس سوى التحايل على قيمة الملامح لدى المعايير الصهيونية الكولونيالية".
ما بين افتتان "نور" بتفاصيل روايته حول المجدلية، ,وسعيه للحصول على المزيد من المعلومات التي علم بوجودها في بعض مستوطنات شمال فلسطين، ثم سعيه للوصول إلى هناك مستفيدا من ملامحه، وهويته المزورة، و بين محاولة صديقة مراد النأي به عن هذا التوجه ومحاولات جذبه إلى محاور أخرى للاهتمام يمضي نور في تسجيل بطاقاته الصوتية التي وثق الكاتب من خلالها للكثير من القضايا ذات الصلة بموضوع الكولونيالية.
الكولونيالية التي أشار الكاتب إلى بعض أعلامها، وبعض مفاهيمها، وتجلياتها، المتعددة على أرض فلسطين والتي تمثلت في السرد من خلال قوالب متعددة، هو ذا "مراد" يدعو من سجنه لتأسيس مرجعية معرفية تعنى بالتفاصيل الصغيرة التي تهتم بها الكولونيالية في سبيلها لسرقة الهوية والتراث والحيلولة دون كل ما يعزز الانتماء. يطلب مراد من نور بعض الكتب، ويشيران في حوارهما إلى كتب أخرى، فهذه إشارة إلى أدوارد سعيد، وأخرى إلى فرانتز فانون وثالثة إلى بيل أشكروفت، إشارات جاءت طبيعية وفي سياق السرد دون إقحام.
ويخاطب نور صديقه مراد قائلا: "كم أحسدك يا مراد على سجنك الأصغر "، هل كان نور يشير إلى حجرته في المخيم؟ أم إلى حجرته عند الشيخ مرسي في باب السلسلة؟ أم هو يشير إلى إيلان بابيه في كتابه "أكبر سجن على الأرض"؟ إلا أن مراد يأبى قبول ذلك مشيرا إلى السجن بوصفه "أفظع واقعة في الحياة" وأنه كما سبقت الإشارة إليه "غربة حديدة صدئة"
وفي شاهد آخر على العنصرية يتحدث نور عن اجتيازه لجدار الفصل في منطقة من ضواحي القدس متسائلا "أهو حقا جدار فصل عنصري؟ أم عتبة بين عالمين متناقضين"؟ص 86.
أثرى باسم خندقجي السرد من خلال العديد من الحوارات بين "نور" و "أور" امتدت طيلة فترة استعداد "نور" للمشاركة في بعثة التنقيب إلى مغادرته للمستوطنة التي كانت مقرا للبعثة وطيلة فترة إقامته هناك، وتناولت مواضيع عديدة، وتتناول مواقف ومواجهات حادة بين "أيالا" اليهودية الشرقية، وسماء العربية الفلسطينية المدافعة عن مواقفها وأرائها إزاء دولة إسرائيل بشجاعة. كذلك هذا الخلاف على المسميات بما فيها من تفاصيل وأقتبس هذا الحوار من ص 77:
تتقاطع أعمال هذه البعثة التنقيبية في موقع الفيلق الروماني السادس مع أحداث تتفاقم في القدس، فالاعتداء على المصلين في الأقصى في ليالي رمضان، والهجمة الاستعمارية على سكان الشيخ جراح في القدس، ومسيرة الأعلام الإسرائيلية المنوي تنفيذها في القدس، ففي أي اتجاه مضت الأحداث؟
إضافة تعقيب