حرصت على أن تكون النّافذة الصّغيرة في شادر صندوق الشّاحنة لي وحدي من بين العشرين ولدًا الذين كنّا محشورين فيها مثل قطيع جداء في تشرين. شاهدت كروم الزّيتون الخضراء في السّهل وعلى سفوح الجبال كأنّها بحر أخضر فأدركت أنّنا اقتربنا من القرية التي اشتقت إليها وحلمت بها في ليالي الجوع والبرد والغربة والذّلّ. ها هي كروم الزّيتون حيث كنت أرافق والديّ والعائلة في أيّام جني الثّمار عندما يأتي بائع الهريسة والكعكبان فنقايضه بنصف صاع من ثمر الزّيتون. سقى الله تلك الأيّام.
سنتان لم أذق الحلوى ولم يعرف فمي طعم الهريسة أو الكعكبان أو الزّلابية أو القطّين أو الزّبيب. لا حلوى في الغربة بل علقم. بانت بيوت القرية. بانت الحارة الجنوبيّة أو كما يسمّيها أهلنا الحارة القبليّة، فصرخت: "المغار" فتدافع الأولاد نحوي "من شان الله! من شان المسيح! من شان العذرا. خلّيني أشوف!" ولكنّني كنت مصرًّا على أن تكون المغار لي وحدي. هذه مغاري أنا. هذه حارتنا، وذلك بيتنا، وتلك سروتنا ولوزتنا وتينتنا. وتلك بقرة أم الياس ترعى في حاكورة دار طنّوس. "من شان العذرا خلّيني أطلّ شويّة!". إهدأ انت وهو!
مرّرنا بوادي الرباضيّة حيث كنّا نسبح عراة في مياه الوادي ونجفّف أجسامنا ببشاكير أشعّة الشّمس. وصلنا إلى البيادر. منذ سنتين ما شاهدت كديشًا على طرحة من حصيد القمح. ما شاهدت كومة القمح النّورسيّ على البيدر. ما شاهدت النّورج. وما شاهدت التّبن والقصليّة والعواذر وما سمعت أغاني الدّرّاسين.
ترجّلت من الشّاحنة قفزًا وعدوت في الطّريق التّرابيّ إلى بيتنا. يا بيتنا الدّافئ. يا بيت الحبّ. يا بيت أمّي وأبي. يا بيت الحمام والزّغاليل.
مهرولًا دخلت بيتنا الذي كان يقع على حافّة الحارة القبليّة فوجدت أمّي جالسة على طرّاحة على مصطبة البيت وتنقّي العدس كي تعدّ المجدّرة للعائلة. لأبي نجيب ولأخوي مجيد وشكيب وأختي الصّغيرة. وجه أمّي السّموح الجميل ما تغيّر على الرّغم من طبقات الحزن التي تراكمت عليه شوقًا لصغيريها الغائبين.
نظرت إليّ مشدوهة مستغربة من اقتحامي البيت بدون استئذان وسألتني: شو بدّك يا شاطر؟
لا تعرفني.
روزا لا تعرف شفيق. لا تعرف أصغر أولادها. لا تعرف ابنها الحبيب الذي كانت تدلّله وتدلّعه وتضمّه إلى حضنها وتخصّه بقطعة حلوى أو بحبّة مندرينا أو كمشة لوز زيادة عن إخوته. لا تعرف شفيق الذي كانت ترجّل له شعره وتدهنه بزيت الزّيتون المغاريّ الأصليّ. كيف تعرف روزا هذا الولد الأقرع الذي حلقوا شعر رأسه بالموسى بعدما انتشر الحزاز في جلدة رأسه؟ وكيف تعرف هذا الصّبيّ الذي يرتدي الأسمال مثل متسوّل غريب بعدما كانت تحرص على أن يرتدي القميص والبنطلون النّظيفين؟ وكيف تعرف هذا الولد ذا الوجه الأصفر مثل الليمونة الجافّة بعدما كانت الحياة تتدفّق من وجنتيه السّمراوين؟ وكيف تعرف هذا الصّبيّ الفقير ذا الجسد النّحيف مثل السّروة العطشى في تشرين بعدما كان جسده مثل الخروف السّمين وقويًّا مثل القعود في أشهر الرّبيع؟
تسألني: شو بدّك يا شاطر؟
أشياء كثيرة، يا أمّاه، يحملها هذا الجسد الواهي المكوّن من الجلد والعظم، يحملها هذا الرّأس الحليق، وتحملها هذه الرّوح التي عانت وتعذّبت، بعدما انقطعت عن حضن الأمّ وعن خبز الأم ودفء البيت.. عن الوالدين وعن الأهل.
دعي حبّات العدس في صينيّة النّحاس وقومي عانقيني. أودّ أن أشمّ رائحتك، رائحة شعرك الذي ينسدل بضفيرتين طويلتين، رائحة فمك وعنقك وصدرك، رائحة كفّيك وأناملك الطّويلة.
قومي. انهضي.
تحدّقين بي؟
شو بتؤمر؟
لا يأمر عليك ظالم يا أمّاه.
شو بدّك يا شاطر؟
خذيني إلى صدرك الحنون الدّافئ الذي طالما حلمت به في ليالي البرد وليالي الثّلج وليالي نواح الرياح وليالي الخوف.
خذيني رمشًا من رموشك الوطفاء.
خذيني شعاعًا على شفتيك وأنتِ تفتحين ذراعيك لتعانقيني عندما كنت أعود من مدرستي.
خذيني دمعة في عينيك السّوداوين الجميلتين.
خذيني زغلولًا من برج الحمام الذي في ساحة البيت.
أنا.. أنا..
ودخلت جورجيت مثل قوس قزح صارخة: يمّا.. يمّا.. يمّا.
وانهار الجدار.
وتصحو روزا وتصرخ:
وتتدحرج حبّات العدس على المصطبة.
وتفتح روزا ذراعيها مثل جناحي طائر المحبّة.
شفيق يا قلب أمّك.
وجورجيت يا عينها.
ويمتلئ البيت حبًّا.
وتأتي الجارات.
جاءت جارتنا سميرة تزغرد فرحة، وجاءت جارتنا جميلة، وجاءت جارتنا أم إلياس.
ويأتي كمال.. ويأتي يوسف.. ويأتي إبراهيم.. ويأتي داود.
ويأتي إلياس ويأتي صبحي.
وتأتي الحارة القبليّة.
رجعوا...
رجع الأولاد!!
التأمت العائلة.
وطفلة صغيرة تقف عند العتبة تحدّق مذهولة في أمّي وفيّ وفي جورجيت وفي النّاس.
هذه أختي جولييت.
كانت في الثّانية من عمرها عندما حملتها أمّي على ذراعها في رحلة الشّرق الأوسط. وعندما حملتها في طريق العودة. وجولييت اليوم في الرّابعة من عمرها.
جولييت لا تعرفني ولا تعرف جورجيت.
ونحن لا نعرفها.
ولكن الدّمّ تحرّك.
تناولتها من ذراعي جورجيت.
أختاه..
خرجنا من المغار في شتاء العام 1948.
خرجت وأنا في الصّفّ الثّالث الابتدائي.
ولمّا عدت وجدت أولاد صفّي في الصّف الخامس الإبتدائيّ.
كانت رحلة قاسية، رحلة صعبة، فيها شقاء وتعب وجوع وظلام وبرد وثلج وإهانات.
نحن من عائلة مستورة. كان والدي نجيب حجّارًا. وأصبح عاطلًا عن العمل بعدما توقّف الإعمار والبناء في البلاد بسبب الأحداث السّاخنة التي شملت بلادنا في معظم مناطقها وبخاصّة في القدس ويافا وحيفا. بحث والدي عن مصدر رزق ليعيل عائلته المؤلّفة من زوجة وثلاثة أبناء وابنتين فبدأ يتاجر بالعرق الزّحلاويّ. كان يشتري زجاجات العرق اللبنانيّ المعروف بجودته من الجنوب اللبنانيّ ويبيعها في الجليل. في مدينة النّاصرة ومدينة طبريّا وفي قرى المغار وعيلبون والرّامة وغيرها.
وكان بعض الشّبّان يأتون إلى بيتنا ويشترون قناني العرق.
وكان في بلدتنا فرقة من جيش الإنقاذ. وأذكر أنّ جنديًّا من هذا الجيش جاء إلى بيتنا وطلب زجاجة عرق من والدي ولمّا تناولها رفض أن يدفع ثمنها فأخذها والدي منه وصرفه، وفي الغداة شاهدت ضابطًا وثلاثة جنود في ساحة بيتنا وسألني الضّابط فيما كنت ألعب في ساحة البيت: أين نجيب؟ فأجبته: في البيت. وناديت والدي فأمره الضّابط أن يخلي البيت من الأهل والأثاث. فسأله والدي: لماذا؟ فأجاب: سوف نهدمه. كان الأمر مثل الصّاعقة. استفسر والدي عن السّبب فأجاب الضّابط: علمنا بأنّك تعطي إشارات بالقنديل لطائرات العدوّ.
أبي يخابر طائرات العدوّ بقنديل الهواء؟!
رفض أبي التّهمة بشدّة. نحن وطنيّون ولا نتعامل مع العدوّ. ورفض أبي أن نخلي البيت وشاهدته يوشوش أخي شكيب ببعض الكلمات، فركض أخي في الشّارع ولحقت به حتّى وصل إلى بيت الوجيه الوطنيّ المعروف عبدو العايدي وبلّغه بما يجري في بيتنا. فسار الرّجل الشّهم وسرنا أنا وأخي وراءه، ولمّا وصل إلى بيتنا تحدّث مع الضّابط وأقنعه بأنّ والدي وطنيّ وبريء وطلب من الضّابط أن يغادر المكان مع الجنديّين فانصرف الضّابط والجنديّان وحمدنا الله وشكرنا الرّجل.
كان عبدو العايدي شخصيّة محترمة ووطنيّة ويتمتّع بشعبيّة وسمعة طيّبة في بلدتنا وفي المنطقة وكان أحد أبنائه تلميذًا في صفّي، في الصّفّ الثّالث الابتدائي واسمه عايدي.
كنت تلميذًا متفوّقًا وأحصل على المرتبة الأولى في صفّي وكان أخواي أيضًا يحصلان على المرتبة نفسها. لم توزّع المدرسة في تلك السّنوات شهادات في نهاية كلّ فصل مدرسيّ أو كلّ عام دراسيّ بل كان التّلاميذ يقفون في طوابير في ساحة المدرسة من الصّفّ الأول الابتدائيّ حتّى الصّفّ السّابع الابتدائيّ. كما كان الآباء يحضرون إلى ساحة المدرسة ويقفون مترقّبين نتائج أولادهم. وكان مدير المدرسة الأستاذ ناجي الخوري، وهو من الأردن، يقف أمام التّلاميذ يحيط به المعلّمون وكان كلّ معلّم يقرأ نتائج صفّه المدرسيّ أمام الجميع ويعلن ترتيب التّلاميذ حسب نتائج علاماتهم من التّلميذ الأوّل حتّى التّلميذ الأخير من الصّفّ وكنّا نسمّي الأخير الطّشّ، وقد أثنى المدير على والدي وهنّأه لأنّ أبناءه الثّلاثة كانوا الأوائل في المدرسة، ممّا دعا أحد الآباء، وهو شخص معروف أن يتقدّم ويقف أمام المدير ويقول له: لماذا لا تشكرني يا حضرة المدير وقد حصل أولادي على المرتبات الأخيرة؟
كتب علي نصوح الطّاهر مؤلّف كتاب "شجرة الزّيتون":
"بذل المغاريّون جهودًا كبيرة مشكورة لتكثير شجرة الزّيتون في أراضيهم الخصبة والوعرة على حد سواء فأصبحت هذه القرية ثالث قرى فلسطين مساحة بالزّيتون. واعتنى أهل هذه القرية بأغراسهم وزيوتهم فأصبحوا ينافسون قرية الرّامة وهي أشهر قرى فلسطين زيتًا وزيتونًا، وباتوا يملكون أربع معاصر ميكانيكيّة كبيرة منها واحدة مزوّدة بآلة فرّازة، واشتهر زيت المغار بجودته وقلّة حموضته، ويضيف حضرة المؤلّف: يعتبر زيت المغار أفخر زيوت القضاء لأنّ سكّان المغار يدرسون أغلب زيتونها المقطوف أوّلاً بأوّلٍ وثانيًا لأنّ قسمًا كبيرًا من زيتونها من الصّنف المعروف بالملّيصي ومنه يستخرج أحسن زيت للأكل في فلسطين".
كان الطّقس جميلاً والشّمس مشرقة، والطّيور تسقسق، والفراشات تطير من زهرة إلى زهرة، والنّحلات تمتصّ الرّحيق، وكنّا مجموعة من صبيان القرية تلعب على البيادر الجنوبيّة للبلدة. وما زلت أذكرهم، هؤلاء أترابي ميلاد وأديب وفخري وأحمد ورشيد وسلمان وجريس وصالح، ربّما نسيت بعضهم. كنّا فرحين جدًّا، نركض وراء عرباتنا البسيطة التي صنعناها بأيدينا وننكّر عصافير الدّوريّ التي تبحث عن حبوب ضائعة بين الأشواك. ونقفز مثل ديوك الحجل، ونغنّي مثل الحساسين، وفجأة سمعنا صوتًا غريبًا يخدش هدوءنا وفرحنا وسعادتنا. سمعنا دويّ طائرة تحلّق في سماء قريتنا. لم نخف ولم نفكّر بسوء، بل حدّقنا بها معجبين كيف تطير بالسّماء؟!!
ما فكّرنا بعمل عدائيّ. وما فكّرنا بأنّ الطّائرة تقصدنا. وفجأة ألقت الطّائرة قذيفتين كبيرتين علينا. كان حجم القذيفة مثل حجم برميل صغير. وكان الانفجار قويًّا جدًّا. والدّويّ يملأ الجو. وتحوّلت البيادر إلى زلزال، غبار وحجارة تتناثر في الفضاء. وشاهدت مخّ ميلاد ابن جارتنا يخرج من بين عظام رأسه، كان جسده ممزّقًا ورأسه مهشّمًا كما شاهدت أمعاء شادي ابن جارتنا تندلق من بطنه، وشاهدت ذراعيه وساقيه على الأرض والدّمّ يتدفّق من جسمه.
فقد بعض الصّبيان الوعي وسقطوا على أرض البيادر، وهرب البعض واختبأوا بين الصّبّار.
وجاء رجال القرية يبحثون عن أولادهم.
وجاءت نساء الحارة تندبن. شاهدت جسم ميلاد الممزّق وجسم شاهين المقطّع.. لم تعرف الأم جسم ابنها. فقدت النّساء الوعي. لطمن وجوهنّ ومزّقن ملابسهنّ.
كانت أم ميلاد تصرخ ولا تتعرّف على جثّة ابنها. هل هي جثّة ميلاد أم جثّة شاهين؟ ميلاد زينة الصّبيان. ميلاد الجميل مثل البدر.
وكانت أم شاهين تمزّق ملابسها وتعدو بين الجثّتين كي تتعرّف على جثّة ابنها. فلذة كبدها. الصّبي الأنيق الجميل.
وكان أديب بطل الألعاب جريحًا جراحًا قويّةً في ساقه، والدّمّ ينزف وهو يصرخ ألمًا فأخذه أهله إلى العلاج في ترشيحا، ومن هناك إلى بيروت. وكان له ما تبقّى من العمر كي يعيش.
هذا الحادث المأساويّ هزّ القرية من أقصاها إلى أقصاها بل هزّ جبل حزّور. هزّ جميع عائلاتها وجميع حاراتها. بكى الرّجال وبكت النّساء. وخيّم الأسى على القرية. على حاراتها وبيوتها.
هي الحرب اللعينة.
هو الموت.
هو الدّمار والخراب.
قرية وادعة تتعرّض إلى قصف طائرة.
والطّيّار يقصف صبيانًا يلعبون. كانوا يلعبون. يقصفهم بلا رحمة وبلا إنسانيّة.
لم يبق أمن وأمان في البلدة. لا جيش يحمي النّاس. ولا قوى تدافع عن أهل البلدة.
وبدأ النّاس يفكّرون بالرّحيل.
استأجر والدي شاحنة. فوضعنا فيها بطّانيّات وفراشًا وملابس وأدوات منزليّة ضروريّة وزيتًا وطحينًا وبرغلًا وعدسًا.
وتوجّهت الشّاحنة إلى الشّمال، إلى الجنوب اللبنانيّ. حيث أقاربنا في قرية يارون الذين تربطنا بهم صلة النّسب.
وكانت عائلتنا واحدة من عائلات عديدة رحلت من قريتنا إلى الجنوب اللبنانيّ تبحث عن الأمن.
التقيت في يارون بعدد من أترابي ومن أهل بلدي.
وشاهدت الوجيه عبدو العايدي، الرّجل الكريم الأصيل يسكن هناك، وذهب والدي وعدد من أهل القرية لزيارته والاطمئنان عليه والتّشاور معه حول الأوضاع. وكانوا يطرحون السّؤال الهامّ: متى نعود إلى المغار؟
بعد أيّام قليلة وصل أحد أقاربنا إلى يارون وأخبرنا بأنّ اليهود احتلّوا البلدة في 30 أكتوبر وأنّ القائد اليهوديّ الذي احتلّها اسمه إسحاق بروشي، ويحكمها اليوم ضابط عسكريّ اسمه حايم بطاطا. والأصحّ أنّ اسمه حايم بطيطو وأمر السّكّان أن يجتمعوا في ساحة المدرسة، الرّجال والنّساء والأطفال، وحينما اجتمع أهل البلدة في السّاحة أمرهم أن ينقسموا إلى ثلاث مجموعات، الدّروز في مكان، والمسيحيّون في مكان، والمسلمون في مكان. وبدأ النّاس يتفرّقون حسب مذهبهم ودينهم. وهنا وقف حسين الرّجل الشّهم من أبناء الطّائفة المعروفيّة. حسين الرّجل الأنيق الجميل الذي يرتدي الملابس العربيّة التّقليديّة وقال بصوت عالٍ: يا حضرة الضّابط: نحن في هذه البلدة كلّنا أبناء المغار ولا فرق بين حارة وبين حارة ولا فرق بين مسلم ومسيحيّ ودرزيّ. ولا نوافق على هذا التّصنيف. أطلب منك أن تدعو الجميع أن يعودوا كما كانوا. لا مجال للتّقسيم الطّائفيّ ولا نوافق عليه. وانصاع الضّابط لطلب حسين. وفشل التّقسيم الطّائفيّ.
وأخبر هذا الرّجل أهل المغار الذين كانوا في يارون أنّ الضّابط بطاطا طلب من كلّ ربّ عائلة أن يأتي إلى الموظّف المسؤول في دار المختار كي يحصل بطاقة تسجيل تؤهّله فيما بعد للحصول على هويّة زرقاء. وكي تحصل زوجته وأولاده على قسائم التّسجيل. ونصح هذا الرّجل الجميع أن يعودوا إلى المغار ويحصلوا على بطاقات التّسجيل كي يبقوا في بلدتهم.
ركبنا في سيّارة إلى قرية رميش. ومشينا في الليل في طريق وعريّ إلى قرية حرفيش ومن هناك إلى قرية بيت جن ثمّ إلى قرية عين الأسد ومررنا بوادي سلامة حتّى وصلنا إلى قرية المغار.
عدنا في الليل خوفًا من الجنود.
مشينا على الحصى والشّوك بين أشجار البلّوط والسّرّيس والقنديل والبلّان.
كانت أمّي تحمل أختي الصّغرى على ذراعيها، وكان أبي يحاول ان يساعدني إلا أنّني رفضت مساعدته وأصررت أن أمشي مثل الآخرين.
كنّا قافلة عائدة إلى قريتها وبيوتها.
تركنا حاجاتنا في يارون وعدنا إلى المغار مسرعين كي نحصل على البطاقات، وعندما وصلنا بعد أيّام قليلة من الاحتلال توجّه الرّجال إلى بيت المختار فحصلوا على بطاقات إلّا أنّها كانت من الدّرجة الثّانية.
بطاقات تؤهّلهم الحصول على هويّات حمراء وليست هويّات زرقاء. هويّة تقول أنّ صاحبها كان غائبًا ولم يكن في البلدة في يوم احتلالها، وأنّ صاحب الهويّة الحمراء وعائلته حاضرون غائبون.
جميع العائلات التي كانت في يارون وفي قرى أخرى من الجنوب اللبنانيّ يوم احتلال المغار وعادت إلى المغار اعتبرها القانون الإسرائيليّ الجّائر حاضرة غائبة. وهذا يعني أنّها مهدّدة بالطّرد من الوطن.
عدنا إلى بلدتنا، إلى بيوتنا، إلى وطننا ولم يعترفوا بنا مواطنين يحقّ لهم العيش والبقاء في الوطن.
كان الأمر صعبًا علينا أن نفهم هذا القانون الظّالم.
نحن أبناء المغار.
تراب المغار يعرفنا. كما يعرفنا زيتونها وحجارتها.
هواء المغار يعرفنا.
فكيف صرنا حاضرين غائبين؟
ما كنت أفهم القلق في وجه والدي أو في حديثه مع الجيران وبخاصّة مع الذين عادوا من يارون ومن قرى الجنوب اللبنانيّ.
كنت أسمع كلمات غريبة مثل جنين وزبوبا والمقيبلة ومرج ابن عامر والأم بي والحاكم العسكريّ.
وجاء اليوم المشؤوم أو يوم الطّرد من الوطن.
حمّلونا بضاعة مزجاة في سيّارات شحن عسكريّة. وضعوا جميع العائلات التي كانت في يارون وقرى الجنوب اللبنانيّ يوم احتلال القرية في الشّاحنات العسكريّة.
وضعوا في الشّاحنات كلّ من لم يكن في البلدة يوم الاحتلال.
وكلّ من لم يُسجّل في ذلك اليوم ولم يحصل على بطاقة هويّة زرقاء.
حملّوا الرّجال والنّساء والأطفال في الشّاحنات.
حمّلونا بدون حاجاتنا اليوميّة وبدون ملابس للغيار وبدون زاد.. بدون رغيف خبز وبدون شربة ماء.
وسارت السّيّارات بنا إلى الجنوب، إلى المجهول.
وما كنت أجرؤ أن أسأل والدي عن وجهة سفرنا.
سارت السّيارات طيلة ساعات.
وتوجّعت أمعاؤنا وأضلاعنا وأيدينا وأرجلنا وظهورنا.
كنّا واقفين أو مرميّين في صناديق الشّاحنات العسكريّة.
أمرنا العساكر.
هبط الجميع من السّيّارات العسكريّة. تجمّع الأولاد الصّغار حول والديهم مثل صيصان حول أمّهم القرقة. تخاف الصّيصان من الطّيور الجارحة ومن الثّعالب. وكنّا مرعوبين من العساكر الذين يحملون البنادق ويرطنون بلغة عربيّة مشوّهة.
وأطلقوا الرّصاص في الهواء.
أطلقوا الرّصاص بين سيقان النّاس.
يعني اركض اركض!!
وركض الجّميع نحو الجّنوب. ركض الرّجال وركضت النّساء وركض الأطفال، وركض الرّصاص.
كنّا هاربين من الموت. العساكر وراءنا. والرّصاص فوقنا وبين سيقاننا. والبلدة العربيّة أمامنا. ركضنا ومشينا خائفين مرهقين حتّى وصلنا.
لجأنا إلى مسجد مدينة جنين.
وكان سادن المسجد يردّد: لا حول ولا قوّة إلا بالله. لا حول ولا قوّة إلا بالله. تحوّل بيت الله إلى ملجأ. ارحمنا يا ربّ!!
وكان الطّقس باردًا.
وكنّا عدّة عائلات، تربو على خمس عشرة عائلة.
عند الفجر نادى مؤذّن المسجد للصّلاة وقال إنّها خير من النّوم. أدركت بؤس واقعنا. كنا متعبين نريد أن ننام وكان المؤذّن يدعو للصّلاة ولا يدري أنّنا نصارى. نصارى نيام في مسجد. نصارى يحتمون في مسجد للمسلمين.
وبدأنا نتململ على مصطبة المسجد.
يا نسوان. خذوا أماكنكم في جهة المشرق. ويا رجال. خذوا أماكنكم في جهة المغرب. وتوضأوا استعدادًا لصلاة الفجر.
ارتفع صوت غليظ لرجل: "يا سكران. قم يا رجل. المؤذّن ينادي للصّلاة."
فصرخ سادن المسجد: ويلاه! استرنا يا رب!! سكران وفي المسجد. هذا ما جعل اليهود ينتصرون علينا.
وتوجّه رجال غاضبون يبحثون عن السّكران لتأديبه.
وسرت خطوات وراءهم كي أتفرّج على ضربه. وتوقّعت أن أشاهد عراكًا وضربًا.
وهدأت الأمور.
الاسم غريب. هناك أناس يسمّون أبناءهم بأسماء الوحوش والحيوانات مثل ذيب وأسد وفهد ونمر ووحش وكليب كي لا تصيبهم عين الحسود. وهناك اعتقاد شائع عند الذين يموت أطفالهم بالحصبة أو باليرقان أو بأيّ مرض آخر بأن يختاروا لهم أسماء الحيوانات كي يعيشوا. هناك أسماء حيوانات مقبولة تدلّ على الشّجاعة والقوّة مثل أسد ونمر وفهد ولكنّي لم أفهم كيف يسمّي أحدهم ابنه وحشًا أو كلبًا أو جروًا أو جُعلًا أو ثعلبًا؟
ولولا أنّ رفيق الرّجل استدرك الأمر لبطش الجمهور بالسّكران. وفطس بسبب اسمه.
اشترى والدي من سوق جنين ملابس لأفراد العائلة كي يغيّروا ملابسهم إذا ما اتّسخت كما اشترى لنا خبزًا وجبنًا وزيتونًا لنتناول فطورنا ونتزوّد به..
وبعد الظّهر قدم ثلاثة جنود يتقدّمهم جاويش طويلة القامة أسمر الوجه وقويّ الجسم ذو هيبة إلى باحة المسجد وطلب لقاء الرّجال وأمرهم أن يغادر الجميع مدينة جنين، رجالًا ونساءً وأطفالًا، إلى مدينة نابلس للانضمام إلى مخيّمات اللاجئين التي أعدّتها وكالة الغوث لإيوائهم ولمّا استفسر أحد رجال قريتنا عن السّبب أجابه الجاويش: هذه أوامر!
استأجر رجال المغار مجموعة من السّيّارات كي تنقل عائلاتهم. وصلت قافلتنا إلى مدينة نابلس التي تتراكم بيوتها ذات الحجارة البيضاء على جبلين متقابلين هما جرزيم وعيبال وعندما استفسرت من والدي عن الجبلين أجابني: الجبل الذي من الجنوب يبدأ بحرف الجيم أيّ جرزيم وأمّا الثّاني فهو عيبال في شمال المدينة.
كان الطّقس باردًا جدًّا. ولا تدفئة في مخيّم اللاجئين الذي انضممنا إليه.
حصل والدي على بطّانيّتين ففرشنا واحدة منهما على أرض الخيمة وأمّا البطّانيّة الثّانية فقد حرص هو وأمّي على أن تكون غطاء للعائلة في الليل المظلم القارس.
كنّا ثلاثة أبناء وابنتين ممدّدين على بطّانيّة سوداء في حين كانت البطّانيّة الثّانية غطاءً من البرد القارس. وأمّا الوالدان فقد قبضا على طرفيها كي يحميا أولادهما.
نمنا نحن الأولاد الخمسة متعبين وأمّا الوالدان فبقيا قابضين على طرفي الغطاء يحرساننا طيلة الليل.
اجتمع رجال القافلة المغاريّة في الصّباح واتّفقوا على أنّ العودة من نابلس إلى جنين ومن هناك إلى المغار خطرة جدًّا وصعبة بل مستحيلة لكثرة الجّنود المنتشرين على الحدود كما أنّ الصّعوبة الكبرى هي عبور مرج ابن عامر الغارق في مياه الأمطار وعلموا بالأخبار المؤلمة عن رجال غامروا وحاولوا اجتياز مرج ابن عامر فكانت نهايتهم الموت مغروسين في أرض المرج الموحلة. غاصت أقدامهم وسيقانهم في الوحل وماتوا واقفين مثل الأشجار.
ولا بدّ من أن نعود إلى قريتنا. لا بدّ من العودة إلى المغار.
وبعد نقاش عميق شارك فيه جميع الرّجال اتفقوا على أنّ أفضل الطّرق هي الوصول إلى الجنوب اللبنانيّ أيّ السّفر إلى بلدة يارون حيث أقاربنا وأغراضنا والعودة من هناك إلى الجليل إلى قريتنا. وهذا يعني أن نسافر من نابلس إلى مدينة عمّان ومن هناك إلى سوريا ومن وسوريا إلى لبنان فالجنوب اللبنانيّ. أن نرحل من دولة إلى دولة ومن مدينة إلى مدينة. ومن سهل إلى جبل. ومن جبل إلى وادي.
هي رحلة في الشّرق الأوسط كما يسمّونه. بل هي رحلة في الهلال الخصيب كما كان يسمّيه معلّم الجغرافيا.
هي رحلة العذاب. رحلة البرد القارس، والجوع والخوف.
رحلة الاهانات والذّلّ.
وكل شيء يهون من أجل العودة إلى المغار.
ركبنا في سيّارات الشّحن. كأنّنا بضاعة للتّصدير.
وسارت السّيّارات.
قطعنا الغور.
وكان نهر الأردن يهدر بالماء المتدفّق من الشّمال الماطر والمتدهور جنوبا.
ما أشبهنا بمياه الأردن التي تدفّق من الشّمال إلى الجنوب ولكنّنا قرّرنا الرّحيل شرقًا فشمالًا فغربًا فجنوبًا.
هي رحلة صعبة.
رحلة العودة إلى الوطن.
العودة إلى البيت.
العودة إلى الفراش الدّافئ.
العودة إلى الدّاخون. إلى الوجاق. إلى جمر السّنديان. إلى السّهر والسّمر وأكل الكستنا والزّلابيّة.
إلى الجلوس تحت أشعّة الشّمس الدّافئة في ساحة بيتنا ومراقبة دجاجات روزا وديكها الصّيّاح. وجمع البيض من القنّ.
إلى سماع هديل الحمام من برجه قرب التّوتة.
إلى سماع صوت جارتنا فوزيّة وهي تهلّل لوليدها بصوتها الحنون: نام يا عيني نام، تذبح لك زوج الحمام، يا حمامة لا تصدقي، بضحك على سامي تينام.
ولا نقدر أن ننام.
قالت أمّي لجارتنا أم رمزي: وضعوا المعلوم في جيب الضّابط.
وعبرنا الجسر في طريقنا إلى عمّان.
نزلنا في فندق في عمّان ونمنا فيه ليلتين.
نمنا وشبعنا نومًا دافئًا مريحًا كما استحممنا بالماء السّاخن والصّابون.
اشترى والدي لنا طعامًا من السّوق كما اشترى لنا خبزًا طريًّا وحمّصًا وفولًا من أحد المطاعم.
كان الطّعام لذيذًا ذكّرنا بمطبخ والدتي.
وكانت المفاجأة الجميلة عندما أعلن صاحب الفندق وهو رجل فلسطينيّ من مدينة يافا أنّنا ضيوفه ولن يتقاضى أيّ مبلغ مقابل إقامتنا.
قالت أمّي وهي حكيمة القافلة: لا يحنّ على العود إلا قشوره.
ركبنا في الشّاحنات في صباح يوم أشرفت شمسه وبقي برده.
وسارت القافلة إلى سوريا.
وصلنا إلى درعا. وبعد يومين كنّا في دمشق حيث قضينا يومًا فيها.
وتوجّهنا إلى لبنان.
شاهدت الثّلج الأبيض لأوّل مرّة في حياتي. كان الأبيض النّاصع يغطّي الجبال. ولم يسمح الآباء لنا ان نترجّل من السّيّارات ونقفز على الثّلج الذي على جانبي الطّريق. قال والدي: هذا ظهر البيدر. لن أنساه. الثّلج الأبيض النّاصع مثل القطن. أرض على مدّ النّظر مغطّاة بالثّلج.
كانت الطّريق شاقّة وعرة صعبة.
صعدنا وهبطنا.
عرفنا البرد. وعرفنا الجوع. وعرفنا الخوف.
وشاهدنا القلق والرّعب في عيون أمّهاتنا.
هي رحلة الشّرق الأوسط.
هي رحلة العودة من يارون إلى المغار فرحلة الإبعاد إلى جنين فنابلس فعمّان فدرعا فالشّام فجبال لبنان فبيروت.
هذه بيروت.
نحن في بيروت.
لا أصدّق.
مررنا بثلاث عواصم عربيّة.
مررنا كي نعود إلى الجليل. إلى قريتنا الجميلة. إلى بحر الزّيتون الممتدّ عند قدميها. إلى التّوتة وبرج الحمام. إلى دجاجات أم مجيد والدّيك الصّياح. وساحة الدّار. إلى الحواكير حيث الخرفيش والقرّيص والخبّيزة والعلت والقرصعنّة والسّميميخة. حيث البلبل والدّويري والحلّاج والشّحرور.
نعود إلى المغار النّائمة على صدر جبل حزّور وتغمز بعينها اليسرى نوارس بحيرة طبريا. وتداعب يمام المجيدل. وتغنّي للنّحل الذي يمتصّ رحيق أزهار الصّبّار الذّهبيّة.
لا صبّار يعلو على صبّار قريتنا.
قريتنا هي قرية الزّيتون والصّبّار، وهما رمزان فلسطينيّان. لا أحد يستطيع القضاء على الصّبّار. ولعلّ الصّبر جاء من الصّبّار ولعلّ الصّبّار جاء من الصّبر.
لا يهمّ. نحن نؤمن بأنّ الله مع الصّابرين. ونؤمن بأنّ الصّبر نعمة من الخالق.
والزّيتون شجرة مقدّسة.. ولا زيتون يعلو على زيتون وزيت بلدتنا.
نحن في بيروت المدينة الكبيرة. أجسادنا هنا وقلوبنا هناك. بيروت الصّاخبة والشّوارع المعبّدة والسيّارات والعمارات العالية والحوانيت الكبيرة والصّحف والمطاعم والمقاهي ودور السّينما والرّجال الذين يرتدون البذلات وربطات العنق والطّرابيش والنّساء الأنيقات وأحمر الشّفاه والملابس العصريّة وقلبي في حاكورة في المغار.
قلبي على غصون التّوتة.
قلبي مع أزهار الصبّار الذّهبيّة.
قلبي مع أسراب الحمام وأسراب الدّوريّ التي تقفز على البيادر.
خذوني إلى المغار.
خذوني إلى جبل حزّور.
خذوني إلى القرية التي تغازل بحيرة الجليل.
دير بالك يا شفيق على أختك. دير بالك على جورجيت.
قالتها أمّي عدّة مرّات. قالتها والحزن ينبع من عينيها السّوداوين الواسعتين. قالتها والأسى يتدفّق من وجهها الصّبوح.
كانت تضمّ جورجيت إلى صدرها وتشمّ شعرها وتقبّل وجنتيها وعنقها وراحتيها ثمّ تتّجه إليّ وتضمّني وتقول والدّموع تتدفّق من عينها "دير بالك على أختك".
تتركنا بتثاقل وتسير خطوة فخطوتين فثلاث خطوات وأنا واقف مشدوه أنظر إليها ثمّ تعود وتضمّ جورجيت وتقبّلها ثمّ تقول لي: دير بالك على أختك يا يمّا. وتحتضنني وتبكي.
لا أعرف كيف جمدت الدّموع في عينيّ. بكى قلبي. بكى عقلي. بكى جسدي. ولم تنزل دمعة واحدة من عينيّ.
يتركنا أبي في بيروت. يتركنا في الدّير. يتركنا يتيمين ويعود إلى الوطن.
يتركني وجورجيت.
تتركنا أمّي.
يتركنا نجيب. تتركنا روزا.
دير بالك على أختك!
يحمّلونني مسؤوليّة الأخ على الأخت الصّغيرة.
مشيا مع القافلة.
وتركانا في الشّويفات.
تركا جورجيت الملاك الصّغير.
تركاها لي كي أدير بالي عليها.
أنا اخوها وأمّها وأبوها منذ اليوم.
ضيّعني أبي صغيرًا.
ضيّعوني صغيرًا وحمّلوني مسؤوليّة أختي.
الطّريق إلى البلاد خطيرة. صعبة كما قال أبي. جنود وقطّاع طرق. سوف نسير في الليل في الوعور. بين السّنديان والسّريس والشّوك.
اتّفق رجال البلدة على ان نسافر من هنا إلى يارون بالسّيّارات ومن هناك نعبر ليلًا إلى الوطن مشيًا على الأقدام.
هذا السّفر الشّاق لا يقدر عليه الصّغار.
اتّفقنا مع المسؤولين عن الدّير على بقاء الأولاد الصّغار في الدّير لفترة ما حتّى تهدأ الأمور وعندئذ نعود ونأخذكم إلى الوطن. نحن نريد سلامتكم. نحرص على حياتكم. سوف تبقون في الدّير برعاية الرّاهبات مثل بقيّة الأولاد حتّى نعود ونأخذكم.
ولكنّ الرّاهبة القاسية، الرّاهبة المسؤولة قالت غير ذلك.
قذفت سمّها عليّ في صباح عيد الميلاد. كنّا نسير في الطّابور. واحدًا وراء واحد ونمرّ أمامها. يتامى من بيروت وصيدا ويتامى من مدن وقرى لبنانيّة، وصغار من المغار، من فلسطين.
حينما وقفت أمامها ناولتني خمس قطع بسكويت هديّة العيد. وسألتني من أين أنت يا صبيّ؟ أجبتها: من المغار. من فلسطين. فنظرت إليّ نظرة اشمئزاز وقالت: "فلسطينيّ!! الكلاب تترك جراءها وتنصرف". وبصقت في الهواء.
لم أتحمّل الإهانة. أنا لست جروًا وأهلي ليسوا كلابًا. سقطت قطع البسكويت من راحتي ومشيت ذليلًا فشاهدت الرّاهبة المسؤولة ذلك فصرخت: قف جانبًا وانتظرني!
وقفت جانبًا.
ماذا تريد منّي؟ أيّ عقاب ينتظرني؟ تشتمني وتشتم أهلي وتريد أن تعاقبني؟
مرّت دقائق مثل نهار طويل وانا واقف.
ومرّ أولاد كثيرون أمام الرّاهبة المسؤولة يأخذون قطع البسكويت.
مدّت إحدى الرّاهبات المساعدات راحتها وقبضت على ذراعي وجرّتني. وأمرتني أن أصمت. لا تتحرّك. لا تلفظ كلمة واحدة ولا تخرج اهة.
وعندما انتهت الرّاهبة المسؤولة من توزيع البسكويت خرجت من القاعة.
ويبدو انّها نسيتني.
اخذتني إحدى الرّاهبات وسقتني الماء وأطعمتني خبزًا وقالت لي: أنقذتك من عقاب قاس. كانت ستضربك بقسوة كأنّك كيس من القطن. أو حزمة حطب. شكرًا للربّ لأنّها نسيتك. هذه قاسية وقد تعاقبك بالتّجويع وبالضّرب الشّديد.
لا تعرف هذه الرّاهبة مأساتنا. ويبدو أنّها تجهل ما حدث لشعبنا. يبدو أنّها لم تسمع بالمجازر التي حدثت؟ ولم تقرأ عنها؟ ولم تسمع بالطّائرة التي قصفت الأولاد في قريتنا؟ ولم تشاهد عويل الأمّهات اللاتي فقدن أولادهنّ من قصف الطّائرات؟ ولا تعرف ما حدث لأم ميلاد؟ هل تعرف هذه الرّاهبة القاسية أنّ امرأة حاملًا من بلدتنا وضعت مولودها عند جذع السّرّيسة في أثناء فرارها من قصف الطّائرات؟
هذه الرّاهبة المسؤولة لم تشاهد دموع أمّي وهي تودّعنا مرغمة. ولم تسمع كلامها الممزوج بالدّمع وهي توصيني: دير بالك على أختك!
هل يعرف العالم ما حدث لأهلي؟
هل سمع العالم ما حدث لأهل طبريا في أثناء سقوط مدينتهم الجميلة؟
جمع جنود اليهود من بقي من عرب طبريا ووضعوهم في ستين شاحنة، وفي كلّ شاحنة ستّون إنسانًا ورحّلوهم إلى مدينة النّاصرة. وتركوا السّكّان اليهود ينهبون البيوت العربيّة. ينهبون الغالي والنّفيس حتّى أتوا على الرّخيص.
تركونا في الدّير شفقة علينا. حرصًا على أرواحنا. تركونا حتّى تهدأ الأوضاع ثمّ يعودون ويصطحبوننا إلى المغار.
اعتقدوا أنّ الدّير ملجأ آمن.
لم يحسبوا حسابًا لمن يشتمنا ولمن يهيننا.
عرفنا في الدّير الجوع والبرد والوسخ والظّلام.
لو كان والدي يعرف أنّ ابنه وابنته يعيشان حياة الكلاب السّائبة ما تركاهما هنا.
لو كان والدي يعرف أنّني سوف أشتهي لقمة خبز طريّة ما تركني هنا.
ولو كان والدي يقدّر أنّ طعامي، غذائي وعشائي صحن معكرونة فقط لا غير خاليًا من اللحم ومن الدّسم ما تركني في الدّير.
لا أعرف طعم الخضار. نسيت طعم البندورة والخيار والكوسا والباذنجان.
صارت الفراخ واللحمة في الخيال. ولا يصل الدّسم إلى مطعم اليتامى. نحن نفطر خبزًا حافًّا مع كأس شاي.
ونتغذّى معكرونة وخبزًا.
ونتعشّى معكرونة وخبزًا.
نظرت أمس في المرآة فلم أعرف نفسي.
صار جسدي عظامًا يكسوها جلد له لون الكوسا في تشرين.
جلد أصفر جافّ.
جلد ناشف.
أشتهي خبز أمّي وطبيخ أمّي.
أحلم بصحن شوشبرك. أحلم بصحن مجدّرة مع صحن لبن ماعز. لا أريد لحمًا، لا أريد شواء، لا أريد كفتة، لا أريد كبّة نيّئة. أريد صحنًا من البامياء، من الباذنجان، من الكوسا، من اللوبيا، من العدس، من العلت، من الخبّيزة.
كرهت المعكرونة.
مرّت سنوات وعقود وكبرت وتزوّجت وما زلت أكره المعكرونة ولا أذوقها.
هذه الأكلة تذكّرني بالنّكبة وبالغربة وبالذّلّ وبالجّوع وبالرّاهبة القاسية التي وصفت أهلي بالكلاب.
كلّما شاهدت صحنًا من المعكرونة على مائدة، في مطعم أو على مائدة جار أو على مائدة صديق أو حتّى في التّلفزيون أكاد أتقيّأ. وأشعر أنّ سربًا من القمل يغزو رأسي وظهري وأبدأ أحكّ وأحكّ كأنّ الجّرب غزاني من جديد.
كانت أمّي، تغسل شعر رأسي وجسدي بالماء السّاخن وبصابون الزّيت المصنوع من زيت زيتون المغار الصّافي الخالي من العكر. لا صابون صحيًّا مثل صابون زيت المغار. هذا الصّابون الذي نشتريه اليوم من الحانوت أو من السّوبر ماركت أو من الصّيدليّة لا يعادل صابون زيت الزّيتون الصّحّيّ. وأمّا في الدّير فكنّا نستحمّ بصابون له رائحة زنخة مثل رائحة السّمك الفاسد.. صابون يجلب القمل والسّيبان لشعر الرّأس وللجسد.
غزا الحزاز جلدة رأسي فقرّرت الرّاهبة حنّه أن يحلق الحلّاق شعر رأسي بالموسى، يعني على الصّفر.
كانت الرّاهبة حنّه حنونة، تعطف علينا وتهتمّ بصحتنا، وتحرص ألّا نصاب بالعدوى.
ما كنت الصّبيّ الأقرع الوحيد.
قرّرت راهبات الدّير أن يحلق الحلّاق شعر رؤوس جميع الصّبيان على الصّفر كما يقال.
ما عرفت أختي جورجيت عندما قابلتها وشاهدتها حليقة شعر الرأس أيضًا.
أوصتني أمّي: دير بالك على أختك.
أختي صلعاء.
أختي قرعاء.
غزا الحزاز رأس أختي ذا الشّعر الأسود الطّويل والجديلتين اللتين كانتا تنسدلان على ظهرها.
هذه ليست جورجيت.
لن تعرفها أمّي لو شاهدتها.
معذرة يا روزا ما استطعت أن أمنع الحزاز عن رأس جورجيت.
ليتني لم أرها بهذه الحالة البائسة.
وليت أبانا طانيوس لم يستعمل نفوذه عندما طلب من الرّاهبة المسؤولة عن قسم البنات أن تسمح لي بمقابلة جورجيت.
أبونا طانيوس، كاهن جدير بلقبه وبمكانته. رجل ذو وجه بشوش تمرح الابتسامة دومًا عليه. وضع الله في قلبه نبعًا من الحنان والمحبّة. كان يحبّ الجميع ويعطف على الجميع ويساعد الجميع.
تعلّق قلبي به منذ شاهدته في صباح ذلك اليوم في كنيسة الدّير. وتقرّبت إليه. وداومت على الصّلاة معه في كلّ يوم أحد وفي جميع المناسبات الدّينيّة.. في كلّ قدّاس. حبّب إليّ الصّلاة.
سمعني ذات يوم وانا أصلّي "أبانا الذي في السّموات، ليتقدّس اسمك، ليأتي ملكوتك، كما في السّماء كذلك على الأرض، أعطنا خبزنا كفاف يومنا وأغفر لنا خطايانا، كما نحن نغفر لمن أساء إلينا، ولا تدخلنا في التّجربة، ولكن نجّنا من الشّرّير، لأنّ لك الملك والقدرة والمجد إلى أبد الدّهور، آمين" فأعجبه صوتي. واحتضنني وسألني عن اسمي وعن أصلي فلمّا عرف أنّني من المغار قال بصوت حنون: من فلسطين. من بلد السّيّد. وقبّل جبيني.
وفي مرّة أخرى تعمّدت أن يسمع صوتي وأنا أصلّي "السّلام عليك يا مريم. يا ممتلئة نعمة. الرّبّ معك. مباركة أنت في النّساء ومباركة ثمرة بطنك يسوع" فدعاني إليه بعد القدّاس، وسألني عدّة أسئلة وطلب منّي أن أقرأ فصلًا من سفر أعمال الرّسل.
وأعجب بقراءتي. وقرّبني إليه. ولولا صغر سنّي لكنت شمّاسًا. إلا أنّه كان يسمح لي أن أكون بجوقة الكنيسة. وكان أحيانًا يطلب مني أن أقرأ على مسمع من الجميع فصلًا من أعمال الرّسل. وقد خصّني ذات مرّة في العيد بخمس حبّات ملبس. مثل بيض الحمام. فسألته أن أهدي أختي جورجيت ثلاث حبّات منها. فنزلت الدّمعة من عينيه.
الملبّسة شيء نادر وثمين في الدّير. في حياة التّقشف. وحياة اللا موجود.
كان بعض الصّبيان يغبطونني على هذه العلاقة مع أبونا طانيوس وبخاصّة عندما كان يخصّني في الأعياد بحبّات الملبّس.
كنّا نحن الصّبيان نجلس معًا في الليل، ونحيي ذكرياتنا في القرية، ونروي نوادر بعض أهل القرية، ونشّجع بعضنا على الحياة ونزرع الأمل بأنّ أهلنا لن ينسونا ولا بدّ أن يعودوا ويأخذونا إلى الوطن.
مرّت الأيّام والأسابيع والأشهر بثقل. ولا خبر ولا علم. لا أحد يسأل عنا. إلا أنّ الأمل كان قويًّا. لم نفقد الأمل في يوم ما. لا بدّ من أن يأتي آباؤنا ويخرجونا من الدّير. وينقذونا من الحياة القاسية البائسة. من المعكرونة ومن الجّوع ومن القمل ومن الجّرب. ويأخذ كلّ والد ابنه أو ابنته إلى مطعم ويأكلان الخبز الطّريّ والخضار والفواكه والفراخ.
لا بدّ من أن يشتري كلّ والد ملابس جديدة لآبنه، ويتجوّل معه في المدينة ثمّ يركبان في سيّارة ويعودان إلى الوطن.
في أحد الأيّام أسرّ لي صديقي فخري أنّه سيهرب من الدّير إلى بيروت ويبحث عن عيشة أفضل فحذّرته من المغامرة إلا أنّه أصرّ على ذلك. وفي ليلة قمراء هرب. ولا أعرف الخطّة التي وضعها. وكيف تمكّن من الهرب.
سرى خبر هروبه بين جميع الأولاد وبين الرّاهبات والعاملين في الدّير.
ولم يأسف أحد على هروبه ولم يحاسب أحد على ذلك.
نقص ولد. لا يهمّ. ولد بلا أهل. ولد فلسطيني.
وبعد ثلاثة أسابيع عاد فخري وتعرّض إلى عقاب شديد. جلدته الرّاهبة المسؤولة بالعصا.
عاد وروى لنا مغامرته.
قضي أيّامًا في بيروت.. "نيّالك يا فخري!"
تسوّل في الشّوارع. وجمع نقودًا قليلة وسافر إلى حمص.
"نيّالك يا فخري!".
وصف لنا طريق السّفر الطّويل.
وفي حمص بحث عن عائلة قريبة له.
بحث يومًا ويومين وثلاثة أيّام إلى أن وصل إلى العائلة فاستضافوه. مبروك يا فخري.
وصف لنا بالتّفصيل أنواع الطّعام التي أكلها وأنواع الشّراب الذي شربه. هنيئًا مريئًا يا فخري!
كان وصفه شائقًا..
يجلس ونجتمع حوله ويبدأ بالسّرد.
أكل فخذ دجاج كاملًا.
تناول قطعة هريسة.
شرب كأس شاي بالنّعنع.
تناول فطورًا مع أقاربه، خبزًا وزيت زيتون صافيًا وزعترًا، ولبنة ماعز.
وكان لعابنا يسيل.
أكمل يا فخري. أكمل يا فخري!
وفخري يسرد ويطيل بالسّرد.
وتجرّأ عبد الله مرّة وقال له: كذّاب. فأقسم بالعذراء أنّه يقول الصّدق إلا أنّ عبد الله أصرّ على أنّ فخري كاذب.
وتشاجرا.
وسواء كان فخري صادقًا أم كاذبًا، مقتصدًا أم مبالغًا فقد غبطناه وحسدناه أيضًا.
كان حلمنا أن نخرج من الدّير.
كان حلمنا أن نعود إلى المغار.
قال لي أبونا طانيوس: أنت من مغار حزّور يا شفيق. من الأرض المقدّسة. حيث عاشت مريم العذراء وحيث سار المسيح وعمل المعجزات. المغار قرية قريبة من بحيرة طبريا التي مشى على مائها يسوع. والمغار قريبة من كفر ناحوم وقريبة من جبل التّطويبات، وقريبة من قانا الجليل حيث حوّل يسوع الماء إلى خمر، وقريبة من النّاصرة، من كنيسة البشارة، أنت من الدّيار المقدّسة وسوف تعود إليها. كي تعيش هناك.
متى نعود يا أبونا؟
مرّت أيّام قاسية، أيّام بؤس وظلام، ومرّت شهور البرد القارس والجوع، وجاء عيد الميلاد مرّتين. وجاء الفصح مرّتين. ونحن هنا. هل نسي الأهل أولادهم؟
يفرح الأطفال في الأعياد، يلبسون الملابس الجديدة، ويأكلون الحلوى والطّعام اللذيذ وأمّا نحن فنبكي. لا أمّ ولا أب، ولا أهل ولا بيت. نلبس الملابس القديمة المستعملة. لا لحم ولا بيض ولا زلابية ولا قطّين ولا زبيب. لا حليب ولا لبن ولا جبن. نأكل المعكرونة. صار جسدي مثل المعكرونة. وانتشر الحزاز في جلدة رأسي. واستوطن السّيبان وراء أذنيّ. وكان الخطر الأكبر هو انتشار الجرب في أجسام البعض منّا.
صار العيد بكاء ونواحًا.
كلّ عيد وأنت سالم. والعيد القادم في البيت. السّلام عليك يا مريم. يا ممتلئة نعمة. الربّ معك. مباركة أنت في النّساء. ومباركة ثمرة بطنك. متى أعود إلى أمّي. متى أشمّ شعرها؟ متى ألقي رأسي على صدرها؟ متى أقبّل راحتها كما كان يفعل يسوع عندما يلتقيكِ يا عذرا؟ متى آكل صحن شوشبرك من مطبخك يا روزا من صنع يديك الطّاهرتين؟
قمت بعد قدّاس العيد قمت بتنظيف الكنيسة وفيما أنا أنظّفها وجدت جريدة في سلّة المهملات. لم أرَ جريدة منذ خرجنا من المغار. كان والدي يعود من سفره أحيانًا مع جريدة بين قناني العرق أو في كيس زوّادته. وكان أخي الأكبر يأخذها ويقرأها وبعد ساعات يأخذها أخي الثّاني وبعد يوم تصل إلى يدي وأقرأ فيها أخبار الحرب في يافا والقدس وحيفا. أخبار فيها قتل وفيها حرائق.
دسستُ الجريدة في عبّي كأنّني أجد كنزًا. ولمّا عدت إلى فراشي جلست وأخرجتها وبدأت ألتهم سطورها وكلماتها.
كانت أخبار الجّريدة غريبة ولا تهمّني.
وكان فيها طرائف ومقالات طويلة ومقالات قصيرة.
وفيها لغز. وفيها قصيدة.
فتّشت فيها عن المغار فلم أجد حرفًا.
فتّشت عن طبريا وعن حيفا وعن يافا وعن القدس وعن النّاصرة فلم أجد سطرًا.
وفيما أنا أبحث في صفحاتها قرأت خبرًا صغيرًا جدًّا عن نائب عربيّ في برلمان إسرائيل يطالب بلمّ الشّمل لعائلات عربيّة انشطرت نتيجة الحرب وتعيش مآساة بعد أن بقي الزّوج أو الزّوجة أو الابن أو البنت في الأردن أو لبنان فيما الأهل في الوطن وأكّد على أنّ هذه قضيّة إنسانيّة وعلى وزير الدّاخليّة أن يعمل على حلّها.
أعجبني الخبر ونقلته إلى فخري والآخرين من أبناء المغار.
الغريق يتمسّك بالقشّة، فكيف إذا كان الخبر في جريدة؟ وعن نائب في برلمان إسرائيل؟
إسرائيل التي انتصرت علينا وصارت دولة ولها جيش وطائرات وسجن وحاكم عسكري. وحاييم بطاطا. وحاييم كوسا. وحاييم باذنجان. وحاييم مشمش.
كبر الأمل بالعودة إلى البيت.
إلى حضن روزا.
إلى بيتنا. إلى التّوتة والتّينة.
إلى بئر الماء.
إلى الحارة.
إلى أبي وإخوتي وجيراني.
إلى برج الحمام.
إلى دجاجات أمّي.
إلى خبز أمّي.
إلى صحن شوشبرك.
سوف يأتي أبي ويأخذني وجورجيت ونركب في سيّارة من الدّير إلى المغار. وسوف أسبق جورجيت إلى حضن أمّي.
آويها وعاد شفيق.
زغرودة.
وحدث ذلك.
جمعوا الصّبيان والبنات في ساحة الدّير.
وجاء رجل من الصّليب الأحمر.
وقابلنا واحدًا وواحدةً.
وسألنا عن أسمائنا وأسماء الآباء والأمّهات والأجداد والجدّات والعائلات.
وسجّل كلّ كلمة.
وتأكّدوا من كلّ واحد منّا.
وأخذ كلّ فرد منا حاجاته القليلة والبسيطة.
وركبنا في سيّارة باص.
وسارت بنا إلى إحدى البلدات.
دخلنا إلى عيادة.
فحصنا طبيب وممرّضة.
وقدّموا لنا طعامًا وخبزًا وجبنًا.
وعدنا إلى الشّاحنة.
ووصلنا إلى نقطة الحدود في رأس النّاقورة.
هبطنا من الشّاحنة ودخلنا إلى غرفة الانتظار.
ووقفنا على باب الوطن. ما أجملك يا وطن.
عائدون. عائدون إلى المغار. عائدون إلى جبل حزّور.
وبدأنا نشمّ رائحة البلاد.
ما أطيب هواء الوطن. لا نسيم أرقّ من نسيم الوطن.
جاء عسكريّان وفحصا الأوراق التي مع موظّف الصّليب الأحمر ثمّ نادوا على كلّ واحد منّا باسمه واستجوبوه.
وجاء طبيب وفحصنا واحدًا واحدًا. ورشّونا بالدي دي تي.
ونقلونا إلى سيّارة عسكريّة وسارت إلى الجّنوب.
هذه قرية الزّيب خالية من أهلها.
وهذا البحر.
وهذه مدينة عكّا. وذلك مسجد الجزّار.
هذا هو الكرمل.
نحن في الطّريق إلى حيفا.
هذه حيفا.
حيفا عروس البحر.
عروس بدون زينة.
ووصلنا إلى كنيسة الكاثوليك.
وكان ذلك في 30 تشرين الثّاني 1949.
ولمّا سألت مندوب المطران عن أهلنا، أجابني: لا تقلقوا. سوف نخبرهم بعودتكم سالمين كي يدبّروا أمورهم ويحصل أحدهم أو بعضهم على تصريح من الحاكم العسكريّ للسّفر إلى حيفا كي ينقلكم إلى المغار، وهذا الأمر يحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيّام وربّما أكثر. أنتم الآن في ضيافة المطرانيّة. المهمّ يا أولاد أنّكم عدتم إلى الوطن.
قلت: يا عمّاه العودة الحقيقيّة هي إلى جبل حزّور وليس إلى جبل الكرمل، إلى المغار وليس إلى حيفا.
ولولا الحياء لقلت: العودة إلى حضن روزا.
إضافة تعقيب