news-details

كُن مُعينًا يا إلهي.. كُن مُعينا| سامر خير

(1)

 

كُن مُعينًا يا إلهي! كُن مُعينا
لا تَدَعْ أجسادَنا
فوقَ أديمِ الأرضِ طِينا
لا حياةٌ.. لا مماتٌ..
لا قُبورٌ.. لا عُبورٌ..
لا زمانٌ.. لا مكانٌ..
مثلَ أرواحٍ على غَيمٍ نُسينا 
أو كَأكْفانٍ على رَمْلٍ رُمينا
وصرخْنا مثلَ أمطارٍ ولكن
كلُّ مَن مَرّوا هُنا لم يَسْمعُونا
كلُّ مَن مَرّوا هُنا لم يرحمُونا
كلُّ مَن مَرّوا هُنا لم يسألُونا
ما اسمُنا واسْمُ أَبينا
كُن مُعينًا
يا إلهي.. كُن مُعينا! 

 

(2)

 

.. من طبريّا طِرتُ إلى غزّة فوقَ بُراقِ الضوء. فقد كانت كُلُّ الطُّرُق البريّةِ مُغْلَقَةً. حاوَلْتُ المَشْيَ على وجهِ البحْرِ سُدًى. لا بأسَ. وكان معي خمسةُ أرغفةٍ ناشفةٍ لا شيءَ سواها فالصَّيْدُ على شاطئِ غزة ممنوعٌ. فاضَ الشعبُ الجائعُ، لكنّ الأرغفةَ احترقتْ تحتَ القصفِ الباغِتِ. لا كِسَرٌ بقيتْ أو حتّى رائحةٌ مع أنّي والشعبَ جميعًا باركْنا وشكرْنا. لا بأسَ. غشِيَني خجلٌ من قلّةِ حيلةِ نُوري. فبحثتُ يمينًا وشمالاً عن جَبَلٍ أصعدُهُ عبثًا. لا بأسَ. وجدتُ بقايا بيتٍ عالٍ مهدومٍ. فصعدتُ. خطبتُ بِشَعبي: طُوبى لِجِياعِ الأرضِ، الجَرْحى، الأيْتامِ، المَظْلومينَ فإنّ أبي يُنصفُهُم. شاهدتُ الأطفالَ القتلى في الأيّام الأوّلِ والثاني والثالثِ والرابعِ حتى الشَّهرِ السّابِعِ. فاستلقَيْتُ إلى جانِبِهِم أنتظرُ قيامتَهُم. لا بأسَ. وما زلتُ هُنالِكَ أسْتَلْقي كالغيمِ برفقتهِم. كَضَبابِ الرُّوحِ القُدُسِ. وَما عُدتُ إلى طبريّا أبدًا..

 

(3)

 

أمْطِري يا سماءُ طَحِينا
واخْبزِي يا سماءُ العَجِينا
كُلُّ قمحِ البلادِ تَبَعْثَرَ في القصفِ
والناسُ فرَّتْ إلى ربِّها لاجِئِينا
مُرْعِبٌ صوتُ طائرةِ الحربِ
أكثرَ مِن فَقْعَةِ القُنْبُلَة
قالتِ النّاسُ للناسِ
أو ربَّما سُنْبُلَة / وَشْوَشَتْ سُنْبُلَة
والصّدى حَرَقَ الشّكَّ ثُمّ اليَقينا
أمْطِري يا سَماءُ طَحِينا
أمْطِري يا عَواصِفُ مَنًّا وَسَلْوَى
على الجَائِعينا 

 

 

(4)

 

ما بِعتُ أمْلاكي
وما أنكرتُ نفسي
ها هُنا.. كي أتبعَكْ

بل دمّر الغُزاةُ
كُلّ ما معي.. يا سيّدي!
..

مَن كانَ ضدّي
كيفَ ترضاهُ مَعَكْ؟!

 

(5)

 

أُقْتُلونا
ومِنَ الدُّنيا ومنكُم خَلِّصُونا
إنّ كَوْنًا فيهِ هذا الظلمُ
خيرٌ منهُ موتُ الصّابرينا

أيُّ جنّاتٍ تَقِينا
مِن عَذابِ الرُّوحِ في المعراجِ
إذْ نَرْنو إلى أشلائِنا والنّادِبينَا؟
أيّ جنّاتٍ تَقِينا
حينَ غيرُ الموتِ لا شيءَ
يُواسي الثّاكِلينا؟

فاقتُلونا
ثمّ عُودُوا حيثُما كُنتُم
ونامُوا هَانِئينا
.. أنتُمُ الأَقوى
فَكُونوا طَيِّبينا!

خَلِّصونا
خَلِّصونا! 

 

(6)

 

للمَوْتِ رائحةٌ تنتشرُ مثلَ أزهار أبريل  -
قال العائدُ إلى المكانِ بعد أن غادرتْهُ الكائناتُ الغريبةُ ذواتُ الأسلحة،
لكنّهُ لم يَجِد المكانَ في المكان، بل وَجَدَ الزمانَ حُطامًا، والمستقبلَ مدفونًا تحتَ أنقاضِ الأيّام والسّاعات،
وأخاه مُلازمًا جُثّتَهُ، رافضًا الرّحيل،
في قبرٍ جماعيّ اختلطَ فيه كًلُّ شيءٍ بِكُلّ شيء: الذكورةُ بالأنوثة، والأَسْوَدُ بالأبْيَض، والحيُّ بالميّت..
وَحْدَها الرائِحَةُ ظلّت خالصةً كما هي..
الرائحةُ الّتي ستزولُ بعدَ أن تذبُلَ زهورُ المَوْتِ وتندثر..
الرائحةُ التي تجعلُ الغيمَ يتقيّأ وَحْلاً..
اقرفْ أيُّها القارئُ النَّبيل
أنتَ محظوظٌ لأنَّكَ تقرَف فقط..
إنها رائحةُ العَدَم التي اعْتَدْنا أن نحبسَ أنفاسَها بعيدًا عنّا،
أنذا أنقُلُها بهواءِ الكلماتِ إلى أُنوفِ العالَم..
اقرفْ أيُّها العالَمُ اقرفْ
أنتَ محظوظٌ لأنَّكَ تقرف فقط..

 

 

(7)

 

كيفَ لي أن أرى ما أُريدْ
ها هُنا عبرَ كُوَّةِ هذا الحُطامْ؟
لا أرى غيرَ يأسي غُبارًا
لشمسٍ تلاشَتْ ولمْ يبقَ إلا الظّلامْ
لا أرى غيرَ ما لا أريدْ
آسِفٌ. إنّني آسِفٌ يا فَمي.

كيفَ لي أن أرى ما أُريدْ
عاجزٌ. إنّني عاجزٌ يا دمي.

ربّما ميّتٌ. ميّتٌ ربّما. إنَّما

لستُ حيًّا.. أكيدْ
كيفَ لي أن أرى ما أُريدْ
ها هُنا عَبْرَ أنقاضِ هذا الكَلام؟
ليسَ ريشُ الحَمامِ المُدَمَّى الحَمامْ
وَضَبابُ القذائِفِ ليسَ الغَمامْ
لا أرى غيرَ أشباحِ ريحٍ تُرابيّةٍ
وهُبوبٍ وَحيدٍ إلى وردةِ الإنْتِقامْ 
إنّما لو سُئِلتُ وخُيِّرتُ ماذا أريدْ
كي أراهُ هُنا، مِن هُنا، كنتُ قُلتُ: السلامْ

 

 

 

(8)

 

كانَ اسمُها غزّة
تحرُسُ أفروديتُ بوابتَها في عسقلانْ
بالحُبّ والزُّهورِ والعزّة

ومن عواصِفِ البحارْ
تحرُسُ بوابتَها عناتْ
ومن جَرادِ الرّملِ أو زلزلةِ الهزّة
تحرسُها عشتارْ

لم يبق إلاّ الآهُ فوقَ الآهْ
.. وها أنا تحت رُكامِ البيتِ
جُرحي انبحّ: أفروديتُ أفروديتُ!
يا عشتارُ يا عناتُ!
يا أللهُ يا أللهْ

 

(9)

 

يا أيُّها التاريخُ
مُرَّ بجانبي كجنازةٍ
لن أسألَكْ
ما اسمُ الفقيدِ أو القَتيلْ

فأنا الفقيدُ
أنا القتيلُ
أنا الفناءُ المستحيلْ

لن أسألَكْ
عن أي شيءٍ أيُّها التاريخُ
بل سأواصلُ النومَ
التُّرابيَّ الجَميلْ 

 

(10)

 

.. عائِدُونْ
في الرِّيحِ، في الأَمْطَارِ،
في الأَعْشابِ، في الأَحْجارِ،
.. عائِدُونْ
تحمِلُهُم أَحْلامُهُم كأنَّها أَعْلامُهُم
وَنُورُهُم يَرْسُمُهُ ظَلامُهُم
وأرضُهُم تكتُبُها العُيونُ
.. عائِدُونْ
في نجمةٍ من قَبْرِهِم
في دمعةٍ مِن بحرِهِم
في العَقْلِ.. في الجُنُونْ 
في كُلِّ ما يَكُونُ
.. عائدونْ!

 

(مارس – أبريل/2024)

 

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب