تُشكّل نصوص "نوافذ للبوح والحنين" لمحمود شقير (طباق للنّشر والتّوزيع رام الله 2023) مُنعطفا بارزا ومهمّا في مسيرة محمود شقير الإبداعيّة، إذا كان في لغته ومُفرداته وسَلاستها وتآلفها وإيقاعات حروفها، والفَرح والدّفء، وكل ما يبث في القارئ من مَشاعر الرّاحة والغبطة والرّغبة في المَزيد، أو في المَتاهة الجميلة المُثيرة التي يجد القارئ نفسَه وسَطها، لا يعرفُ كيف يُحدّدُ ويُعَرِّف ويُطلقُ الأسماء، أهو يقرأ قصّة قصيرة كما عوّدَه محمود شقير؟ ولكنّه لا يجد القصة. أهو أمام نصّ مسرحي قصير؟ كلا فما هو بالنصّ المَسرحيّ، وليس سَرْدا روائيّا، ولا محاولات شعرية تتجاوز حداثة ما بعد الحداثة. أقول ليست واحدة من الفَرضيّات التي طرحتُها، ولكنّها ابنةٌ لكلّ هذه الفَرَضيّات والتَّسْميّات.
عندما انتهيتُ من قراءة كتاب محمود شقير "تلك الأمكنة" (دار نوفل بيروت 2020) تساءلتُ لماذا هذا التّنقّلُ السّريع في الأماكن التي زارها؟ فما يكادُ ينزل في مكان ويلتقي بمعارفَ أو مشاركين له في اللقاء حتى يُسارعَ لينتقلَ إلى مكان آخر، وأناس آخرين التقاهم وشاركهم.. وهكذا بسرعة تُثير التّساؤل.
وكتبتُ: "محمود شقير في "تلك الأمكنة" بدا كرَحّالة سريع التَّنقّل من مكان إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى، واستبدال الذين يُقابلهم بغيرهم دون تَعارف وحوار مُطوّل وأعمَق. فبدَت الأماكنُ كمَشاهد تُعرَض مُتتالية لا تترك للمُتابع الرّاحة للتّمتّع، ولا الرّغبةَ في التّعرّف أكثر، ولا الفرصةَ لتبادل الكلام مع الناس الذين يراهم. حتى بدا وكأنّه يهتمّ بالتّفاصيل البرّانيّة على حساب ما يعتمل في النفس والفكر للذين التقاهم. ولكنّه حسَمَ الكلامَ وردّ على مَنْ يتساءل من البداية بقوله: "هنا في هذا الكتاب تجربة في الحياة أُدوّنُها لا للتّفاخر او للمُباهاة، ولا لادّعاء بطولات أو للوقوع في مُبالغات" (نبيه القاسم: المَنحى المتغيّر في الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية. مكتبة كل شيء حيفا 202 ص237-238)
وكان قلقي أكبر وأنا أقرأ الصفحات الأخيرة من آخر كتاب لمحمود شقير "تلك الأزمنة"(دار نوفل بيروت 2022) حيث وجدتُ نفسي أتماهى معه، وأشاركه تلك الأسابيع والأيام والدّقائق الأخيرة التي ستوصل به إلى السّاعة الحاسمة حيث يصل فيها إلى سنّ الثمانين مع كلّ ما تُثيره فيه هذه الثمانين من شجَن وخوف وشعور بالخسارة والفَقْد، هذه الثمانين التي ظنّها نهاية المطاف. وأصبح العددُ "ثمانون" الفَزّاعةَ التي تُطاردُه ويهربُ منها ولا ينقطع عن التّفكير فيها، وكأنّ شبح الموت يترصّده ليقبضَ على روحه.
/وكانت النهاية السعيدة
وعَبَر محمود شقير عيدَ ميلاده الثمانين وتَنفّس الصّعداء بعد تخلّصه من كابوس الموت القاتل وثقل طوْق الزمن القابض وكتب:
"شكرا لها من الأعماق تلك المُغْوية المُعذِّبة، الرّقيقة القاسية، المُفرحة المُحزنة: الحياة".
ثم كتب: "هي، أيّ الحياة، رحلة مفتوحة على احتمالات شتّى، فيها الفرحُ وفيها الحزن، فيها الألمُ وفيها اللذة، لكنّها في نهاية المطاف محكومة بالخسارة ما دامت تنتهي على الصّعيد الشخصي بالموت".
لكنّه يؤكد على "أنّ عزاءنا نحن البشر الفانين يكمُن في سَعينا، كلّ قَدْر طاقته، إلى إغناء مسيرة البشريّة نحو الرّقيّ والأمن والأمان، والطمأنينة، والازدهار، والسلام.
وفي هذه الكلمات الأخيرة كانت نقطة انطلاق محمود شقير ليُؤسّس لسَرد جديد ولغة مُتَجدّدة، وأسلوب تمتزج فيه الجديّة بالهَزل، والسّخرية بالتأمّل، والتّعالي بالتّواضع، والكلمة الجميلة الناعمة بكلمة عاميّة جارحة لم نتعوَّدها من قبل.
وجاءت "نوافذ للبَوح والحَنين" لتكون النافذة المُشرّعة لهذه الانطلاقة التي كان محمود شقير يُدرك مدى خطورة المُجازفة التي يُقْدم عليها، ولكنه يستحضر كلمات دوستويفسكي "القيام بخطوة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس" ويؤمن بأنّ هذا هو قدَره وعليه أنْ يأتي بالجديد دائما.
وكانت النّافذة الأولى حجَرَ الأساس والمُنْطَلَق لباقي النّوافذ. في هذه النافذة يُدخلنا إلى عالم يتداخل فيه الواقعُ بالخيال، ويجمع شخصيّات يستحضرُها من عالم الأموات بأخرى لا تزال تُمارس الحياة، يستدعي العديدَ من أفراد عائلته العبد اللات وشاكيرات كُنّا قد عرفناهم من ثلاثيتة وبعض مجموعاته القصصية، كذلك نجد ماريا زخاروفا الناطقة بلسان وزارة الخارجية الروسية. وجعل من بعض هذه الشخصيات مَن تكون مُتصدّرة النوافذ اللاحقة. ومن بعض الكلمات المذكورة بعَفويّة الدّافعة لأحداث النافذة التّالية.
ففي النوافذ الثانية والرابعة والتاسعة يتصدَّر المشهد "رهوان" سائق سيارة الأجرة الذي يعيش في واقع خيالي يجهد نفسه لتجسيده، ولكنّه مُستحيل التّحَقّق.
كذلك نلتقي بـ "ع" أخ محمد الأصغر الرّاوي الذي يستولي "ع" على كلّ كتاباته ويدّعيها لنفسه. ثم يستحضر في النافذة الثالثة أخاه فليحان وقصّة خلافه مع سرحان بسبب خَطْفه لعروسه. ويأتي بوالده مَنّان، وبأمّه، وبقيس، وليلى.
ويستحضر في النافذة الخامسة أخاه محمد الكبير اليساري المُناضل المقاوم للاحتلال وزوجته مريم المسيحيّة التي تزوَّجها رغم مُعارضة والديه. وتَرَك الكلام له ليروي بعض الأحداث الكبيرة التي مرّ بها في حياته المُتعلّقة بمقاومة الاحتلال ومُواجهة السجن والغربة والإصرار على موقفه.
النافذة السادسة تركها للتّجار وكبار رجال الأعمال ورجال السلطة ليكشفَ حياتهم السريّة الباذخة، وتلاعبهم بمصير الناس ولقمة عيشهم.
النافذة السابعة كانت لكبير عائلة شاكيرات وهو الذي عرفناه في قصة (صورة شاكيرا) المُتذمِّر والغاضب من المُغنية شاكيرا ابنة عائلة شاكيرات المُتَوَهّمَة لسلوكها غير المقبول ولزيارتها لدولة الاحتلال وكيف أعلن براءتَه منها. لكنه الآن يعود ليتقرّبَ من شاكيرا ويطلب من الكاتب أنْ يكون واسطته إليها.
النافذة الثامنة خصّصها لزعماء دول الخليج التي طَبَّعت مع إسرائيل مُبْرزا مدى إعجابهم بابنة الرئيس الأمريكي ترامب "إيفانكا". ووصف التّرف الذي يعيشون فيه. وتحرّرهم من أيّ التزام بالفلسطينيين وقضيتهم.
النافذة التاسعة مُخصّصة لأخيه "ع" ولرهوان وقصص رهوان مع العديد من الفتيات.
***
عن "نوافذ للبَوح والحنين"، تحدّث محمود شقير لـ"وكالة القدس للأنباء" قائلاً: إنّه "البَوح بلحظات الحبِّ الشاردة في ثنايا الزمن المُنقضي، ومحاولة استرجاعها عبر الكتابة، وكذلك البوح بما يُؤرِّق الكائن الفرد، ويؤرِّق الجماعة في فلسطين من عدم الشعور بالأمن والأمان، ومن عدم الاطمئنان، والحنين إلى تلك اللحظات، لحظات الحبّ المُسترجَعة عبر الكتابة، وكذلك الحنين إلى عكس ما يُسبِّب الأرق وعدم الاطمئنان: الحنين إلى الأمن، وإلى مستقبل تتحقّق فيه الأحلامُ والرغبات، وتتحقق الحرية التي بتحقّقها تُصان الكرامة الوطنية للمواطنين، ونظفر بكثير مما ينقصنا الآن".
وأشار إلى أنّ "للنوافذ حضوراً مؤكداً في ذاكرتي، وفي مُجمَل تفاصيل حياتي، ولها حضور ملموس في ثقافتنا الشعبية وفي الأغاني والنصوص الأدبية، لذلك يغدو حضورُها في النصّ الأدبي انعكاسًا لحضورها في الواقع"، مؤكّداً أنّه "بوجودها يزدهي البيتُ بحضوره في المكان، ومن خلالها يتمُّ التّواصلُ مع الخارج، وهي المُتَنفّسُ الأساسُ للبيت ولأهل البيت؛ عبرها يجري تمريرُ نسائم الربيع ويجري التّخفّفُ من حرارة الصيف، وهي تتميز عن الأبواب بالوظائف التي تضطلع بها في مجرى الحياة اليومية، فالأبواب في الوضع العادي تُتيح لأفراد البيت الخروج في الصباح إلى أماكن شتى، إلى المدارس والجامعات وإلى الورش والمصانع والمَتاجر، والعودة بعد الظهيرة وفي المساء إلى البيت. وفي الوضع غير العادي، كما هي حالنا نحن الفلسطينيين تحت الاحتلال تُصبحُ الأبواب سببًا في اقتحام البيوت حين يأتي عساكر المحتلين لاعتقال أحد أفراد الأسرة لسبب ما"، مضيفاً أنّ "النوافذ لها وظائف مختلفة، وهي تبدو مُقارنة بوظائف الأبواب مُترفّعة عن كل سبب مُزعج أو مُربك أو جالب للآلام، تدارك هذا الأمر بتركيب حمايات من حديد، فتُصبح منيعة على اللصوص".
/تنوّع الفصول بين السّاخرة والجادّة
وعلى صعيد الأسلوب، قال: "قدّمتُ للقرّاء وللقارئات كتابًا قصصيًّا تترابط قصصُه في ما بينها وتنفصل في الوقت ذاته، وتتنوّع فصولُه ما بين قصص ساخرة وأخرى جادّة، وثمة استفادة من السّرد الروائي وتطويعه للقصة القصيرة لكي تنتظم في إطار موحد، وتتخلّى عن جزء من استقلالها في استجابة منها لشروط السرد الروائي، الذي يجعل الكتاب القصصي مختلفًا بعض الشيء عن المجموعة القصصية. أمّا على صعيد المضمون، "فثمّة استفادة إلى الحَدّ الأقصى من إمكانات السُّخرية التي لها حضورٌ ملموس في تراثنا الشعبي وفي نماذج ممتعة من الأدب العربي؛ قديمه وحديثه، وذلك لتَعرية ما في واقعنا السياسي والاجتماعي على الصّعيد الفلسطيني من انقسام وتراجع وتخلّف وإحباط، وعلى الصَّعيد العربي من انهيار وتَبَعيّة وانحطاط، ثمة كذلك سخرية من بعض الظواهر السلبية على الصّعيد العالمي، وخصوصًا الانحياز السّافر ضدّ التطلّعات المشروعة للشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، والكيل بمكيالين لصالح المُحتلين الصهاينة"، مشيراً إلى أنه "باختصار؛ ثمّة في هذا الكتاب أدب سياسي ساخر مَعْنيٌّ بتوفير المُتعة للقارئ وبتَوصيل الرسالة التي جاء هذا الأدب تعبيرًا عنها في الأساس".
السُخرية وتجديد حضور الشخصيّات
أرى أن محمود شقير من الكتّاب المميّزين الذين أثبتوا قُدرتهم على جعل القارئ يبتسم أو يقبل الكلمة مهما كانت حادّة وقاسية وساخرة بجماليّة المُفردة التي يختارها وبإيقاعيّة الحروف الناعمة التي يَشبكها وبالصورة اللطيفة المُجْبرة على الابتسامة الهادئة وتقبّلها برضى وتسامح ومَحبّة مثل: "وقفتُ في مكان بارز أمام الحضور، ووقفتْ سناء زوجتي إلى جواري وهي تبتسم باحتشام مثلما تفعل أمينة أردوغان زوجة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان" (ص15)، وفي وصف رهوان لبايدن الرئيس الأمريكي "إنه يبدو وهو يركض مثل عصا جافّة عجفاء" (ص39)، وفي القصيدة التي يسخر فيها من الزعماء العرب بذكره لقصة كرسي الذهب في مرحاض زعيم عربيّ: (ص47)
شَخْشِخْ على كلْ شي انكَتَبْ شخْشِخْ عَ تاريخ العرب
طـــــــــــــال عمـــــــــــــــــــــرك شــــــــــــــيخْنـــــــا أقْعُد عَ مرحاض الذهبْ
واليــــــــــــــــــــوم تحريــــــــــــــــر القدس يبدأ بمرحـــــــــــــــاض الذّهبْ
وينبّه الراوي رهوان لخطورة هذا الكلام فيجيبه رهوان: "هذا الشعر يليق بموضوعه، حتى لو كان الموضوع من الذّهب الخالص المسفوح في مكان بائس".
ومثل إحضار أمّه لحجاب من عند دَجّال ليَقيه من الكوابيس أثناء النوم، وإلقائه للحجاب في أقرب حاوية وجدها وهو في طريقه إلى مركز المدينة. (ص67)
والمَشهد الخطابي الغريب لـ "ع" بعد شربه كأسه السابعة من الخمرة كما يصفه الراوي بأنّه يبيع مواقف وطنيّة نشكّ في أصالتها ورسوخها بقوله: "ما يؤرّقني ويؤلمُني هو أين يُقيمُ الجرحى من هذه الأسرة الذين هم في المستشفى الآن؟ أين يقيمون حين يعودون من المستشفى؟ أين؟ أليس هذا ظلما وخسّة وحقارة يا ناس؟" وكيف أثّر كلامه على الحضور "فسالت إثْر ذلك دموع الكاتب "ع" فاحتضنّاه ورفعنا كؤوسَنا في حركة تضامن معه ومع الأسرة المنكوبة ونحن على يقين من أنّ النادلات لا يعرفْن سببا لما يُشاهدنه الآن، وفي الثناء أتينا على ما في الكؤوس من شراب." (149)
ومشاهد علوان كبير عائلة شاكيرات التي بها يعفو عن ابنة العائلة المغنيّة شاكيرا ورغبته في إرسال بعض الأدعية لابنة العائلة لكي تُردّدها عن ظهر قلب في كل ساعة من ليل أو نهار لحمايتها من الشرور، ومن كلّ ما يمكن أن يُسبّب لها ضررا أو قلقا أو أيّ نكد أو ازعاج. (ص173)
ويصل الكاتب إلى حدّ السّخرية العليا بوصفه لحالة علوان كبير عائلة شاكيرات وهو خارج من المسجد بعد أداء صلاة الفجر وكيف يخبر الراوي أنّه لم ينم هذه الليلة، وأنّه جاء إلى المسجد وهو يتطرْوَش من قلّة النوم مثل السكران، والسبب أنّ صديق قريبته شاكيرا، اللاعب الرياضي جيرار بيكيه خانها ويرغب في إرْسال ثلاثة من صناديد العائلة ذوي العضلات المفتولة إلى مَقرّ فريق برشلونة الرياضي لكي يُجرْجروا الخائن الفلتان الذي غدر بشاكيرا في ملعب كرة القدم الذي يصول فيه ويجول ليعرف أنّ شاكيرا لها أهل وعزوة وخلّان، وأنها ليست مقطوعة من شجرة كما يتوهّم هذا الرّعديد الجبان. وعندما نبّهه الراوي إلى أهميّة أن يرسل الصناديد الأبطال ليُدافعوا عن الأرض التي صادرها المحتلون واستولوا عليها بالظلم وبالزُور والبُهتان لم يعجب علوان كلامُه، تلثّم بكوفيّته ولم يبق بارزا من وجهه سوى عينيه اللتين راحتا تبرقان في غضب واستياء وقال وهو يبتعد عنه:
-ليتني لم أطلب مشورتك يا محمد الأصغر. أإلى هذا الحَدّ تهون عليك شاكيرا ابنتنا، ابنتنا الشمّاء!
ويبدو أن صورة شاكيرا لم تُفارق خيال وفكر علوان، حتى أنّه أثّر على خيالات ورَغَبات محمد الأصغر الرّاوي الذي حلمَ بجلوسه مع شاكيرا، وأخبرها عن قلق كبير العائلة علوان عليها ورغبته أن يأتي إليها ليقدّم لها النصائح ولكي ينقذ طفليها من جور المربيّات، فضحكت شاكيرا حتى كادت تنقلب على قفاها، وخشي محمد الأصغر أنْ يوقظ ضحكُها الفَتّان سناء زوجته، ولكنه تركها تضحك مستمتعا بذلك الضّحك المُنطوي على إغواء. وفاجأهما علوان معا فغضب وثار وصاح: ماذا تفعلان هنا في هدأة هذا الليل يا ابن العبد اللات؟! وهل يحقُّ لك أن تختليَ بإحدى بنات عائلتي أيّها الجار الخَوّان؟! فهدّأهُ محمد الأصغر وطمأنه أن شاكيرا هي التي جاءت تستفسر عنه وتطلب رضاه وتُطَمئنه عن حالتها وحالة الطّفلين وتتمنى له موفورَ الصّحة وعدم الإصابة بداء كورونا أو بجدري القرود. (ص178-183)
ومشهد سخرية آخر لعلوان وسيطرة شاكيرا على تفكيره ورغبته في مُصارحة محمد الأصغر عن رغبته القويّة في السفر إليها والسّكن عندها لحمايتها حتى ولو استمرّت في بيتها تخلع ملابسها وتظلّ عارية في البيت لأنها تجد متعة في البقاء عارية طوال الوقت، فهو يعدها أن يترك لها الخيارَ حين يزورها إنْ كانت ستستر جسَدَها أم لا، فهو سيغضُّ النظر في كلّ الأحوال، وهي مُحرّمة عليه، وعليها أن تكون مطمئنّة. لكن محمد الأصغر ساورته الشكوك في نوايا الكبير علوان، ولم يُفصح له عن شيء. (ص169)
وتكاد النافذة الثامنة تكون الأكثر مثيرة للضحك والسخرية بتصويره لحالة شيوخ العرب في الخليج وهم يحلمون بالليالي الملاح في أحضان فاتنات الفلبين يُمارسون المتعة معهن من دون تردّد أو احتشام(ص187). وقصّة كرسي المرحاض الذهبي (ص188). وحماية الأجهزة الأمنية لهم وشعورهم بالأمان وأنَّ لا شيء يهزمهم إلّا هازمُ اللذات الذي يُنزلنا عن مقاماتنا العالية مهما اتّخذنا من احتياطات. ص (190). وقصة الشيوخ مع ابنة الرئيس الأمريكي ترامب أثناء زيارتها مع والدها إلى السعوديّة وما فعلته بهم، ومدى اشتهائهم لها وتلبية كل مَطالبها، حتى أنّهم أصدروا طابعَ بريد بصورتها واسمها فتلقفته الجماهير العطشى يشترون الطابع الذي تُزيّنه صورة الأمريكيّة الشقراء بقوامها الفتّان وعينيها السّاحرتين، فيتأمّلون عينيها وخدّيها وشفتيها وشعر رأسها ثم يلحسونها بألسنتهم النّهمة ويلصقونها على مُغلّفات رسائلهم ويخرجون وهم يتندّرون قائلا الواحد منهم للآخر: لحستها من الخدّين والشّفتين ومن القَفا وأنا مستَثار. (ص192-193). ومشهد تحدّي الجماهير لموقف الزعماء المُتخاذل ممّا يجري في غزة فيصفوهم بالمتطرّفين وحاملي السّلّم بالعرض ويعترفون بأنّ غزة لم تكن هي ومخيّماتها في بالهم ولا قبلها ولا بعدها بأيّ حال. ويُطالبهم المتطرّفون إلى مواقف أكثر صَرامة وجديّة فيُعلِّق الشيوخ قائلين: صحيح أنّ الدم لا يصير ماء، غير أنّ الأمور ليست بمثل هذه البساطة، ولا بُدّ من توخّي الحذرَ في كلّ ما نفعل أو نقول، فنحن لنا حدود بيّنات لا نستطيع تجاوزَها بأيّة حال؟! (ص194-195). وغير هذا الكثير.
/تجديد شخصيّاته التي ذكرها في أعماله السابقة
وكما في إبداعه في أسلوبه الساخر الحادّ وغير الجارح والمقبول على المقصود، فيتقبّله ضاحكا راضيا غافرا، هكذا تألق محمود شقير في استعادة شخصيّات ثلاثيّته وقصصه السابقة في الصورة نفسها والحركات نفسها وحتى الأفكار وبعض المواقف الشبيهة، ولكنّ إبداع محمود شقير المُتفرّد جعله يجعل القارئ يشعر وكأنه يلتقي بشخصيات شُبِّهَت له ولامسها في ذاكرته البعيدة فيلتقيها بالتّرحاب والقبول ويتعايش معها ويتآلف وتصبح الأكثرَ قبولا عنده مثل:
محمد الأصغر الذي يُمثل الكاتبَ نفسه، وزوجته سناء، وأخوَيه محمد الكبير وفليحان ووالدته ووالده وكبير العائلة علوان وقيس وليلى والمغنية شاكيرا التي أقنعوا أنفسَهم أنها ابنة عائلتهم. وغيرها أيضا، ونقتصر على بعضها:
بعض الشخصيّات المُمَيّزة: رهوان سائق سيّارة الأجرة هو الشخصيّة الأكثر إثارة وصدقا وعَفويّة وعُمقا وحِدّة وبصيرة وحيرة وقبولا للتأقلم والاندماج مع كلّ تغيير يحدث وأناس يتواجدون، يعشقُ المرأة ويحلم بأنْ يصل إليها، ولكنّه اختار من النساء المُستحيلات مثل ماريا زخاروفا الناطقة بلسان وزارة الخارجية الروسية، وشقيقة رئيس كوريا الشمالية، وزوجة أردوغان الرئيس التركي، ويحتار مَن يختار من النساء لتكون زوجة له، الفلسطينية أم التونسية أم المصرية أم السودانية فكل واحدة منهن تجذبه. ويريد الوصول إلى بايدن الرئيس الأمريكي، وينتهي به طموحه المجنون للقبول بحَمْل شهادة عميل للاحتلال الإسرائيلي كي يَعْبُرَ حواجزَ جُند الاحتلال بسرعة.
فَهْلويّة رهوان، سائق سيّارة الأجرة التي تخدع مَن يلتقيه ويتعامل معه في أوّل لقاء سرعان ما تتبدّلُ بشخصيّة إنسان ذكيّ يعرف كيف يكسبُ ودَّ وصداقةَ، وحتى حبّ مَن يتعامل معه، إنسان مُثقّف واع يُحبُّ شعبَه ووطنه ويكره المُحتل، ولكنّه يُداريه. ففي حواراته مع الكاتب يطرح مختلفَ المواقف والقضايا الوطنية، ويُعطي رأيه فيها ولو بشكل ذكيّ كما في قوله:
"كم أتلهّف لأكونَ سائقا لسيّارة هذه الكوريّة الجميلة فأرتاح من قرَف المستوطنين اليهود في هذه البلاد"(ص20) "أمّا الأجهزة التي تعمل تحت إمرة الزعماء العرب أسمع عنها الشيء الكثير. ثم أطلق بصوت خافت شتيمة كشتيمة الرئيس عبّاس"(ص20) و "هيلا هيلا هيلا هو/ جبران باسيل كُ.. أمّه" وقد تعرّض المتظاهرون للأذى من الفساد وسياسات النَّهب والسّرقة والاستغلال، ومن انفجار مرفأ بيروت ومن البطالة وغلاء الأسعار"(ص26).
ومثل هذه الإشارات والتّلميحات والكلمات الصّريحة الناعمة والقاسية كلّها تُبرز مواقفَ وأفكار واهتمامات رهوان. فيذكر بإشارات قويّة لما يُضمر بذكر أسماء رشيدة طليب وشيرين أبو عاقلة وإلهان عمر ورئيس مصر السيسي، والناطق بلسان جيش الاحتلال والرئيس الأمريكي بايدن وغيرها.
وينتقد رهوان اتفاق "أوسلو" بقوله "ليس ثمّة سلام وإنّما محاولة لفَرض الاستسلام الذي شجّعه عليه سلوكُنا نحن الفلسطينيين بعد اتّفاق أوسلو المَذموم، وسلوكُ بعض حكامنا الذين طبّعوا علاقاتهم مع المُحتلّين وتحالفوا معهم، وباتوا يتحّدثون عن تحالف أمني عربي -إسرائيلي بإشراف سيّدهم الأكبر في واشنطن. يا للهَوان، يا للهوان!"(ص97)
فرهوان يريد أن يعملَ كلَّ شيء ويكونَ كلَّ شيء، صحفيّا، مطربا، مقاتلا، عاشقا، عميلا، لا يستقرّ على حال ولهذا يُنبّهُه الكاتبُ قائلا: "اسمع يا ابنَ عائلتي، أنت لا تثْبُتُ على حال، وكلامُك الذي تقوله في الليل يمحوه النهار والعكس صحيح " (ص100)
/علوان كبير عائلة شاكيرات
علوان هو الشخصية الثانية التي حرص الكاتب على تقديمها والغور في أعماق نفسيّتها ليكشفَ المَستور، ويرمي بالقناع الذي طالما يتَخفّى مَن يعتمرُه وراءه. فعلوان كبير العائلة يُمثّلُ كلَّ القيَم والمَفاهيم التي حرص ويحرص عليها المجتمع خاصّة فيما يتعلّق بالمرأة وسلوكها، وأيضا في الموقف من الغريب الآخر ومن المُحْتَلّ، والحرص على صون وحدة القبيلة وأفرادها والذَّوْد عنها.
وبهذه الشخصيّة للرجل الكبير الوقور الذي يُحافظ على مواعيد الصلاة ويؤدّيها في مواعيدها أراد محمود شقير أنْ يكشف زيف مثل هذه الشخصيّات التي تظهر بعكس حقيقتها. فعلوان الذي غضب على شاكيرا، المغنيّة المشهورة التي نسبَها بعضُ أفراد عائلة "شاكيرات" للعائلة، كما رأينا في مجموعة "صورة شاكيرا وقصص أخرى" لزيارتها دولة الاحتلال، وأعلن براءته منها عاد ليتقرَّبَ منها ويعترف بقَرابتها وانتمائها لأنّ تطبيع الزعماء العرب مع دولة الاحتلال يُخفِّفُ من وَقْع تصرّف شاكيرا. وزواجُها وطلاقُها واعتناؤُها بأولادها يجعل علوان حريصا على الاهتمام بشؤونها ومساعدتها، وأمّا أن تسير عارية في بيتها فهذا غير مقبول، لكنّ علوان سرعان ما تراجع ووجد أنّ هذا شأنُها الخاصّ وهو سيحترم قرارَها ولن يُضايقَها طالما هو يُقيم معها في قصرها.
والكاتب يرينا أنه كان يلتقي بعلوان دائما بعد خروجه من المسجد، ويبدو أنّ علوان حتى وهو يصلي وفي المسجد، تكون شاكيرا أساسَ اهتماماته وتفكيره، وهنا السّخرية وهنا الزّيف والخداع الذي أراد محمود شقير الكَشْفَ عنه في الناس الذين على شاكلة علوان الذي لا يفكر إلّا بما يُفرحُه ويخصّه.
وحتى لا يظلم علوان كبير العائلة حاول كاتبُنا أنْ يُخفّفَ من الصورة السّلبيّة التي رسمها له في مخيّلتنا لتصويره في شخصيّة الإنسان الذكيّ الذي يعرف كيف يتحايلُ على الزمن والقَهر والغضَب والاحتلال بالخيال الخصب وابتداع القصص المُسليّة المُفرحة الآخذة بصاحبها إلى خارج الواقع الرّهيب ليعيش في واقع مُتَخَيَّل جميل كلّه فرح وسعادة وحبّ، كما كانت حالة الكاتب الذي كان خيالُه يأخذُه في أحلامه الجميلة ليقضي السُّويعات الحلوة مع شاكيرا الفاتنة "رأيتُها في المَنام، كانت عارية لا يسترُ جسدَها أيُّ رداء، وكان الطقسُ باردا" (ص170) ويراها ثانية في الحلم ويقول: "من حسن حظّي أنّ زوجتي سناء لم تدخل حلمي، وإلّا لَأَقامت الدّنيا ولم تُقْعدها" (ص181) "فيُطمئن الكاتبُ قارئه بكلمات تعني الكثير: "وكُنّا كلانا (الكاتب وعلوان) نلعبُ لعبةً لا تغيب عن باله، ولا تغيبُ عن بالي" (ص174)، وبالكلمات التي قالها علوان له وهو يبتعد: "إذا لم نُفضفض في هذا الزمن القاسي ونُسلّي أنفسَنا قد نموت من القَهر" وتعليق الكاتب عليه مُرددا: "نعم، نموت من القهر يا جار. (ص 177).
وفي هذا أبدع الكاتب وحَلّق في الخيال، وترك القارئ في حيرة وتساؤل. هل كان أمام مشهد واقعي أم خيالي ابتكره الكاتب واستحضر علوان ليزجيا الوقتَ ويعيشا في واقع خياليّ جميل.
/محمد الكبير
وهو المُتميّز بين كلّ الشخصيّات، والمُجسّد للإنسان الفلسطيني الحقيقيّ المَرجو بكلماته التي صارَح بها أخاه الكاتب وعبّر فيها عن مشاعره الصّادقة. قال وهو يجلس قريبا من النافذة يتأمّل الأشجار وبيوت الحيّ المُتناثرة:
"يُحزنني أنْ أرى ذات مساء امرأة جالسة في شرفة بيتها وهي شاردة النّظرات، ويُحزنني أنْ أمرّ ببيت هدمَه المُحتلّون، وثمّة امرأة وزوجها وأطفالهما جالسون بحزن فوق رُكام البيت. ويُحزنني أنْ أرى طفلا باكيا يتفلّتُ من يد أمّه ويركض خلف سيّارة لجنود الاحتلال تأخذُ والدَه إلى مكان مجهول، ويُحزنني أنْ أرى بيتا قديما، تركه أهلُه وهاجروا بعيدا، وظلّت نوافذُه تبوحُ بما يُعذّبها من شوق وحنين" (ص116-117).
ومحمد تزوّج من مريم المسيحيّة وعاشا معا بإخلاص وحبّ. إنسان مناضل شيوعي سُجن مدّة ثماني سنوات في سجن الجَفر الصّحراوي قبل هزيمة حزيران 1967 والعديد من المرّات بعد حزيران 1967 وأُبْعد عن البلاد، وكانت مريم ترفض كلّ عروض الإغراء لتترك الوطنَ وتنضمّ لمحمد زوجها في الخارج وظلّتْ مُتمسِّكةً بيقين كبير بأنّه سيعود للوطن ويعيشان معا، وقد تحقّق ذلك وعاد محمد وعاشا معا.
/"ع" الشقيق المُتَخيَّل للكاتب
وهو الذي يُفاجئ الكاتب وزوجته ويفسد عليهما كلّ الجلسات، يسطو على كتاباته ويدّعيها لنفسه، رجل قويّ الشخصيّة، له معارف كثيرون، ورجال إعلام وشخصيّات من بلدان عديدة، يعيش حياته في بذخ وفرح. يتضايق منه الكاتب ولكنّه يجْبُنُ ويتحاشى مُواجهتَه.
لكن ما يميّز هذه الشخصيّة عن سواها أنّها وهميّة تخلقها خيالاتُ الكاتب كما غيره من الكُتّاب، حيث يعيش المُبدع في حالات توجّس وشك في أنّ هناك مَنْ يتقصّدُه ويُريدُ السَّطوَ على إبداعاته ليدّعيها لنفسه. هذه الحالة النفسيّة نجح محمود شقير في تَقديمها بكلّ جوانبها المُلتبَسة من خلال شخصيّة "ع" الشّقيق المُتَخيَّل.
/المرأة ودورها المهم
قد يكون محمود شقير من الكتّاب القليلين الذين يُقدّمون المرأة دائما في صورتها الإيجابية الحيويّة المُهمّة التي لا غنى للرجل عنها. فسناء زوجته هي المخلصةُ المُواجهة معه كلّ المشاكل، المُحبّة القويّة، ومثلها مريم زوجة محمود الكبير، امرأة مُناضلة قويّة الشخصيّة مُتحدّية صابرة مُثقفة، وأمّ الكاتب شخصية مُهابة من زوجها تتحدّاه وتُعارضه ومُؤثرة على أولادها.
كذلك النساء اللاتي ورد ذكرهن.
البانوراميّة في العَرض
قصد الكاتب في مجموعة قصصه التي ضمّتها مجموعة "نوافذ للبوح والحنين" أنْ يتعرّض لكلّ المواضع والمَشاغل والهموم الحياتيّة اليوميّة التي يتعرّض لها الإنسان العادي، وتلك التي تُشغل الشخصيّات التي كُنّا نُعايشها في الماضي وظلّت ذكراها باقية.
وقد دأب محمود شقير في بعض قصصه ورواياته على التَّعرّض للعديد من الشخصيات في الحاضر والماضي، خاصة في مجموعتَيْه "صورة شاكيرا" و "ابنة خالتي كوندليزا" حيث تمادى به الخيال الإبداعي لاستحضار الكثير من الشخصيّات المعروفة والتي شغلت أدوارا مهمّة في صُنْع الأحداث العالمية أمثال وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد، والرياضي المشهور رونالدو، ووزيرة الخارجية الأمريكيّة كوندليزا، وجعلها تزور حيَّهم وتُسامر رجالَهم ونساءهم. وحتى الادّعاء بأنّ البعضَ من هذه الشخصيّات مثل المغنية شاكيرا لها جذور عربية وقريبة بالعلاقة الدّمويّة من بعض أهالي الحي.
وفي "نوافذ للبوح والحنين" يستهلّ قصصَه بمشهد يتشابك فيه الواقع بالخيال حيث يقيم احتفالا كبيرا تحضره الروسية ماريّا زخاروفا وشخوص من ثلاثيّته الروائيّة ومن مجموعات قصصه الأخرى، ليؤكّدَ أنّ كلَّ ما كتبه من إنجازه هو وليس كما ادّعى أخوه "ع" بأنّه صاحبُها. وفي اللحظة التي وقف فيها ليُلقي كلمتَه المهمّة يقتحمُ أخوه "ع" المكان من دون استئذان ويختفي كل مَن في القاعة حتى زوجته سناء، وهكذا تنتهي الحفلة ولا يُحقق مبتغاه.
هذا المشهدُ الخيالي الذي ابتدأ به كاتبنا محمود شقير كان المُنطَلَقَ لباقي المشاهد والفصول حيث يجلس وزوجته سناء أمام الشرفة المُطلّة على الكَوْن الواسع والناس، يتبادلان الذكريات ويستذكران الماضي بأحداثه وناسه من عائلته والأصدقاء والمَعارف، ويستحضر العديد من الشخصيات مثل المُغنِّية شاكيرا، وماريّا زاخاروفا الرّوسية، ويذكر الرئيس التركي أردوغان وزوجته والرئيس الكوري الشمالي وزوجته والرئيس الأمريكي بايدن وغيرهم الكثيرين في مشاهد متشابكة تترك القارئ في حالة من التّجلّي التّخييلي. ينتقل من شرفة إلى شرفة، وفي كلّ شرفة تنكشفُ المَشاهدُ الزّاخرة بالناس والأحداث، ويضيع مع قارئه ما بين الواقع والخيال مُفَجّرا العديدَ من القضايا التي تُشغل الناسَ وتُؤثّر فيهم كالاحتلال ومَظالمه، ومواقف القيادات العربية الظالمة لشعوبها والذّليلة أمام أسيادها من الغرب والمُتَجاهلة للشعب الفلسطيني وقضية تحرّره واستقلاله، ويرون في الفلسطيني سببَ الفَقر والضّعف والحروب المتواصلة فيتنكرون له ويتوجّهون نحو المُحتَل أرضهم لمُراضاته وإقامة علاقات التّصالح والتعاون معه وحتى القتال إلى جانبه نادمين على السنوات الطويلة التي لم ينتبهوا لخطئهم وضلالهم في عدائه وحرمان أنفسهم من نِعَمه وخيراته ورضاه ورضا باقي أسيادهم معه. كذلك تعرّض لمَطالب وهموم الحياة اليومية، وطرح الأفكار في كلّ القضايا الفكريّة والسّياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والماليّة وقضايا الحريّة والديمقراطيّة وتحرّر المرأة وانطلاقها للمشاركة في صُنع الحياة ورسْم المستقبل الأفضل وتحقيقه.
كلُّ هذا السَّرد الجميل باللغة النّاعمة السَّلسة الغنيّة بما تحمله من مَعان ودلالات واستعارات ومَجازات وصور ومُفردات تتداخلُ فيها العاميّةُ بالفصحى بالسُّخرية الهادئة غير المُثيرة للعَداوة والغضب، والحوارات الهادئة التي تشدُّ القارئَ للمُتابعة والتَّحليق مع الرّاوي وشخصيّاته الكثيرة المُتنوّعة.
وينهي الكاتب قصصَ نوافذه بمَشهد تخييلي كما ابتدأها، بدخول مُفاجئ لأخيه "ع" بينما كان هو وزوجته سناء في قمّة سعادتهما، يحضن أحدُهما الآخر يجلسان في شرفة البيت ساعات الصّباح، والمَخطوطة المُنْجَزَة التي يؤكّد فيها أنّه هو صاحب وكاتب كلّ الكتب التي سرقها منه أخوه "ع" وادّعاها لنفسه تستقرُّ بوداعة في حضن سناء، "يدخل "ع" من دون استئذان مثل زوبعة من غبار، "حدّقَ فينا بعينين فيهما اتّهام، كما لو أنّنا أخذنا منه شيئا لا يخصُّنا، كما لو أنّنا سارقان". استولى على المخطوطة بخشونة غير لائقة، واتّجَه نحو الباب من دون أيّ اكتراث. ولا يجد الكاتب الرّاوي ما يقوله عمّا جرى وفعله أخوه "ع" غير "وبالطبع سيضع "ع" أسماءه المُستعارة على المخطوطة وسيطبع الكتاب بالاسم الذي يصطفيه، وسيدّعي كعادته بأنّنا أنا وسناء لسنا سوى شخصيّتين من ورق، هو مُبدعنا وخالقنا، ومعنا بالطبع العَرْص رهوان."(ص215-217)
الرامة
إضافة تعقيب