news-details

مرايا لا تعكِسُ يدِي| بابكر الوسيلة          

(1)

حين آتي من وِجهة النِّيلِ

بلا ضفَّةٍ،

أو أَجيئُ من جِهة الشَّمسِ أعمى..

سأبعثُ هذا الهواءَ الجماعيَّ إلى تُربة بيتي،

أنا الجَذْرُ منشغِلٌ بالغُصُون:

 

لن يتبقَّى

من الجِهة الآدميَّة فيَّ

سوى ما يُقاوِمُ هذا الجحيمْ..

ولن يتبقَّى

من النَّاس في رئتِي

سوى ما يَتنفَّس بالصُّبح

من وطني

وما يَتقاسمُني مُزعةً مُزعةً

في الحَميمْ..

 

ربَّما إذا خرج القلبُ من نبض هذا المكان..

فقدتُ مُعجزتي في العناقِ،

وحاجتي للحياةِ العميقةِ

في أُنثواتِ الحنان.

 

هو الشِّعرُ أَبذُرُهُ

تربةً تربةً

وأقصُّ عليه مَنابِتَ حقلي المُخَيَّلِ

من عَرَق الما ورائيِّ..

وفي البلد الَّذي لا ألوذُ إلَّا بهِ،

ولا أعوذُ بالله من شَرِّ شيطانهِ

رغم هذا البلاء.

 

كم سيَعرِفُني الصَّبرُ

في وطني

كم سيَلزَمُني من النِّيل

في عطشي

كم سيَنزِفُني كلُّ هذا الهَباء.

 

ضحكتي باقيةُ الرُّسوماتِ على جسد الرَّمل يا زمني  

وقُبلتي في مُتُون العبير ..

هذا علَمُ الحُزنِ، أبيضُ،

 يُرفَعُ بيني وبيني.

شارةً لعُبُورِ العَصِيِّ من الصَّبر في لحظات المصير..

وأنا يا حُصُونَ الحبايبِ

لستُ الحِصانَ

الوحيدَ الَّذي دخل المَهلَكة..

ولستُ وحدي الَّذي رفع الأعاصيرَ فوق المقاديرِ

نِدا رقصةٍ تلوَ أخرى

حين غنَّتْ على الضَّفَّة الطَّابية..

لكنَّني النِّيلُ، سليلُ الفرائضِ، في هذه المَعرَكة.

 

 

إذا غادر منكم حبيبٌ..

فلْيكُنِ النِّيلُ أوَّل مَن يَدخُلُ، بين دمعٍ ودمعٍ،

حنينَ حقائبِكم،

ولْيكُنِ الدَّمعُ للكبرياء.

 

(2)

في تلك الظَّهيرة..

كانتِ الخرطومُ تَعرَى في ضفاف النِّيل..

كنَّا، الثَّلاثةُ، في فضاءٍ عارِمٍ:

أنا والطِّفلُ والشَّارعُ

 

رأى الطِّفلُ ثَدْياً ثَريَّاً غامراً في صدرها

(ما للغيابِ سوى الغياب)

 

رأى الشَّارعُ الماءَ يَسقي خُطاهُ

بماء السَّراب..

 

ورأيتُ أنا صورةَ الموكبِ الغارقِ

في الطِّفل والشَّارع..

 

صحتُ يا نوحُ..

صار خيالي التُّراب.

 

(3)

 

غاب النِّيلُ عن مائي..

غابت سمائي عن حُضُور السَّهرةِ الخضراءِ في المسرح بالأمس..

غابت دمائي عن غنائي

وغنائي عن اتِّحادِ القُبلةِ باعتناق ِالكأس..

 

كان القلبُ محتشِداً

 

غبتُ وحدي

عن حُضُور اليأس.

 

 

(4)

لو أنِّي أختار..

طبعاً لن أختار النَّار.

 

لو أنِّي أعمى..

لن أُبصِرَ غيرَ بلادي.

 

لو أنِّي أعمَلُ شِعراً..

لَنسيتُ تماماً صدرَ الجملةِ في البيت، 

وذهبتُ إلى الحانوتيِّ لكي أبتاعَ العجز..

 

لو أنِّي ألعبُ كرةَ الأرضِ العَرجاء

ما كنتُ سأُحرِزُ هدفاً في

مرمى الخَصْم،

ولا في مَرمايَ بسِحْرِ الأخطاء.

 

لو أنِّي صيَّادٌ

ما كنت سأَخرُجُ من هذا النِّيلَ

سوى بدُمُوعِ العُشَّاق.

 

لو أنِّي كنتُ الملِكَ العادلَ أو صرتُ الظَّالمَ،

ما كنت سأحكُمُ هذا السُّودانَ السَّمْح..

سوى بامرأةٍ في ناسي

حتَّى لو كانت تَحكُمُ جالسةً من حُفرة طَلْح.

 

 

(5)

مرَّ نوحٌ أمامي

مرَّ خلقُ السَّفينة..

رفعتُ قلبي

أودِّعهم..

)كنتُ وحدي(

 

 

حين عدتُّ إلى زحمة روحي،

كنتُ قوماً لشعبي

رفعتُ لَحْدي

وأوَّلَ حِفنةٍ من تراب المدينة.

 

 

(6)

سأبدأ من حيثُ انتهى النَّهرُ في مَنْبعي..

أنا موجُ هذا الخُلُود البدائيِّ،

حيث كانت حياةٌ من العُشب لا تعرِفُ النَّارَ، 

ولكنَّها تعرِفُ سرَّ الوُجُود على المُلتقى.

 

أنا اللَّيلُ لا حولَ لي ولا قوَّةَ إلَّا بهذي النُّجُوم

لا أنتمي للنَّهار على كلِّ حالِ السَّمُوم

أنا سِرُّكمْ في الوُضُوح الَّذي لا يَبينُ

سوى في الظَّلام وراءَ التُّخُوم

أنا النَّهرُ

ماءٌ

وملحُ

دماءٌ من الحُبِّ، قتلَى

وجُرحُ..

وشاعرُكمْ في الحياةِ القصيرةِ

أرمي الحياةَ على النَّهر أعمى..

 

 

"ها هنا الآن يا قلبُ

مهدي وموجي

ومَضجَعي"

 

سأبدأ من حيثُ انتهى مَنبَعي.

 

 

(7)

كأسي تأخَّرَ سكرتَينْ..

قلت للزَّمن الَّذي يأبى مُلاقاتي:

موتي تقدَّم ساعتَينْ..

قال انتظرْ!

بلدي تهشَّم ساحتَين..

ما زلتُ بينَكَ

بين بين..

فشددتُ قوسَ الأرضِ فيَّ

عشتُ مُرفرِفاً في السَّاحلَينْ..

يا نيلُ..

هذا الحزنُ في السُّودان مرعى،

وأنا سأحيا مرَّتين.

 

 

(8)

سألوني عن النِّيلِ..

قلتُ هو الآن في المُنحنى

يُفتِّش عن موجةٍ تَتجدَّدُ فيها خلايا الضِّفاف

لتُولَدَ الزَّهرةُ العاشقة..

قلتُ ما اسْمي أنا؟

قالوا اسْألِ النَّارَ والحُبَّ والمستحيل..

 

في مرايا الشِّغاف..

تنبِتُ الصُّورةُ الفارِقة.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب