لن أكتمكم سرًّا إذا قلت إنّي أوّل من اطّلع على هذا العمل الأدبيّ، منذ أن وُضِع أوّلُ حرف فيه، منذ سنوات، فواضع هذا العمل هو نجلي البارّ الدّكتور إياد، وأقول الدّكتور وأنا أعلم أنّه يمقت الألقاب، ولأنّه في غنًى عنها، فهي تَشرف به ولا يَشرف بها، وهو كما قال المتنبّي:
ويرى التّعظّمَ أنْ يُرى متواضعًا ويرى التّواضعَ أنْ يُرى متعظّما
وعندما انتدبني للتّقديم لهذا العمل، فإنّما أراد أن يجعلني مرجعًا، ولست كذلك، وأنا لم أصطنعه كما اصطنع تبارك وتعالى موسى عليه السّلام؛ لكنّه البرّ وسموّ الأخلاق، وهنا لا بدّ أن أشير إلى أنّ اعتزاز الأبّ بولده، ليس حقًّا وحسب، وإنّما هو واجب تقتضيه الأصول، ولا سيّما إذا لم يكن هذا الاعتزاز رياء أو عواطف؛ ومن جهة أخرى لا يحقّ للابن أن يفاخر بأبيه بما ليس فيه، فهو بذلك فعل بنصيحة الزّمخشريّ: "لا تقنع بالشّرف التّالد، فذلك الشّرف للوالد، واضمم إلى التّالد طريفًا حتّى تكون بهما شريفًا، ولا تدلّ بشرف أبيك ما لم تدلَّ عليه بشرف فيك"، أجل، وهكذا فعل إياد.
عندما بادر إياد ولأوّل مرّة إلى كتابة ما كتب وفي هذا المجال، لم يكن يلهث وراء مكسب مادّيّ، ولا ينشد شهرة ولا جاهًا، وإنّما انطلق بدافع إنسانيّ مجرّد ومنزّه من كلّ غاية، لم أُشر عليه، ولا أوحيت إليه ولا أوصيته؛ ولكنّني للحقيقة سُررتُ سرورًا عظيمًا فقد أثلج صدري بذلك، فقلت له مُشجّعًا: "إنّ ما تقوم به ليس مجرّد عمل أدبيّ بديع، وإنّما مكرمة ما سبقك إليها أحد، فامض يا ولدي على هذا الطّريق الّذي أرى وترى فيه عاملًا وطنيًّا، اجتماعيًّا، إنسانيًّا يجمع الشّتات ويوحّد القلوب على المحبّة؛ ما فعله إياد ليس رثاء للأعزّاء وحسب، وإنّما هو لون جديد من ألوان الأدب، فضلًا عن حسن البيان والبلاغة، فقد أراد إياد أوّلًا أن يبرز محاسن هؤلاء الأعزّاء الّذين رحلوا عنّا دون إرادتهم وإرادتنا، ويشيد بما قدّموا وأعطوا لمجتمعهم، من جهة؛ وأن يحاول من خلال ذلك تخفيف ما خلَّفه هذا الرّحيل من ألم برى قلوب ذويهم وأجسادهم وأرّق عيونهم، كما أنّه أراد أن يجعل من هؤلاء الرّاحلين مثلًا أعلى وعبرة لمن يعتبر، حتّى يسير النّاس على هديهم ويسلكوا طريقهم، نحو الخير والعطاء والعمل الصّالح والتّسامح، وأرجو أن يكن قد وُفِّق في ذلك.
وفي هذه المناسبات، لم يكن القلم عبدًا مُطيعًا لإياد بقدر ما كان إياد عبدًا ذلولًا لقلمه، فكلّما جشأت نفسه وجاشت وهاله حجم الفاجعة الّتي حلّت، ولا سيّما إذا كانت مباغتة، كان القلم ينهض مُسرعًا ليلبّي رغبة صاحبه، لا يخذله، وأسمح لنفسي، وأنا أعلم مدى صدق ولدي إياد، أن أقول إنّ ما يضع هذا العمل الأدبيّ في مصاف الأعمال الأدبيّة الرّائعة هو الصّدق، بحيث يجعله متميّزًا منفردًا، كما قال أبو تمّام:
ولا أُبالي وخير القول أصدقه حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي
وقد نفى العربيّ حتّى قبل الإسلام الكذب وازدراه، فها هو يخاطب ناقته، فيقول:
أُريدُ أمنّيكِ الشّرابَ لتهدئي ولكنّ عار الكاذبين يحول
وعندما كتب إياد ما كتب، لم يكن دافعه إلى ذلك الرّياء والمداهنة أو تحقيق أيّ مكسب مادّيّ أو معنويّ مهما عظم. ولم يعُقْه أيّ حاجز متوارث أو مصطنع، وإنّما كان الإنسان كإنسان، بغضّ النّظر عن كلّ اعتبار، هدفه الأسمى والأبقى؛ ويرى أنّ ذلك السّدَّ الواقي المكين الّذي يمكن أن يعطّل جميع الاعتبارات الّتي يراها إياد غريبة عنّا، فنحن في نظره جسد واحد يشعر كلّ عضو فيه بما يحلّ بالعضو الآخر؛ هذه كفرياسيف الّتي أنجبت هؤلاء الرّجال والنّساء، الّذين رحلوا عنّا، والّذين نتمنّى لهم طول البقاء مصحوبًا بالعافية البدنيّة والرّوحيّة، والّتي أنجبت المبدعين اللّامعين أمثال إياد؛ وبالمناسبة، فأرجو ألّا أُتّهم بالعاطفيّة، وإنّما كنت أتحدّث دائمًا بلسان العقل، وأُشهدكم أنّي لا أجد غضاضة في أن يُوجّه لي أيّ انتقاد أو ملاحظة، فأنا أعتبر نفسي خاضعًا للحقّ والحقيقة، وأنبذ الباطل والرّياء.
وأخيرًا، أرجو أن تجدوا في هذا العمل الأدبيّ متعة وفائدة ومرجعًا لمن أراد أن يتعرّف على هذه القافلة من الرّاحلين المودّعين، وأن نستخلص من حياتهم ومسيرتهم العبر، وللكاتب أرجو دوام العطاء والعافية.
لقد حرصت أن أكون موضوعيًّا نزيهًا، وأن أكون قد أسهمت في تعريف القارئ بمضمون هذا الكتاب وواضعه، ولا بأس أن أقول إنّه ولدي الّذي من حقّي أن أعتزّ به، كما أعتزّ بكلّ عامل للخير، دون أن يلحق بما عمل مَنًّا أو أذى، وإنّما لوجه الله. والله نسأل التّوفيق والنّجاح.
6/7/2024
كفرياسيف
*صورة لكفر ياسيف في سنوات الخمسينات (موقع المجلس المحلي)
إضافة تعقيب