في المضمون
رواية "فرصة ثانية" هي الرواية الثانية للكاتبة والروائيّة صباح بشير بعد روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة"، وهي رواية واقعيّة - اجتماعيّة ترصد فيها الواقع الاجتماعيّ الذي تعيشه الأقليّة العربيّة في هذه البلاد عبر شبكة من العلاقات التي تنسجها الكاتبة بين ثلاث عائلات عربيّة تسكن في مدينة حيفا، تؤلّف بينها روابط الدم والصداقة كأسرة مصطفى وزوجته فاتن التي مُنيَ بفقدها في أثناء عمليّة الولادة، فاستعاض عنها بأختها الصغرى هدى لتكون زوجة له، وراعية لابنه يحيى وفاء بعهدها الذي قطعته على نفسها بأن تكون أمًّا بديلة له؛ وأسرة أخيه الأكبر عبدالله وزوجته لبنى، ومن ثمّ أسرة صديقهما إبراهيم الذي طلّق زوجتيه الأولى والثانية، وتزوّج من جارته نهاية.
تعتبر رواية "فرصة ثانية" رواية واقعيّة خالصة مسحوبة من الواقع الحياتي الذي تعيشه شخصيّاتها، إنها رواية تسجيليّة لما يدور في تضاعيفها من أحداث ووقائع تكاد تكون مكشوفة للقارئ، إذ تخلو من الصراع الدرامي في أحداثها وشخصيّاتها، ممّا يدفعه إلى توقّع الآتي، ومن ذلك عناية هدى بابن أختها المتوفّاة فاتن، عرض موضوع زواجها من زوج أختها مصطفى، رفضها بإصرار ، ثمّ الموافقة بحجّة استجابتها لنداء الواجب ومصلحة يحيى المتّقدة بحبّها له، ووفاءً لعهدها مع فاتن. وفي هذا ما يؤكّد أنّ الإلحاح في طلب الشيء أو رفضه يُفضي إلى النقيض، وهو أمر لا يغيب عن مدارك القارئ المتمرّس. يتكرّر مثل هذا الموقف مع مصطفى الذي رفض حازمًا عرض أمّه للزواج من هدى فهو لا يرى فيها إلّا الأخت الصغيرة له، ثمّ يستجيب للأمر بعد ملاحقات أمّه الطويلة ومحاولات إقناعه بضرورة ذلك الزواج؛ حفاظًا على ابنه يحيى، وإعجابًا بأخلاق وتربية هدى وحبّها الجارف ليحيى.
تصوّر الرواية تجربة الفقد وما تُلحق من الحزن والعناء بمن يفقد عزيزًا عليه، فيركن إلى إهمال عمله، والعزوف عن الحياة، والاستغراق في التفكير بجدوى الحياة مثلما انعكس ذلك على سلوك كلّ من هدى، أخت المرحومة فاتن، والديها ، حماتها أمّ عبدالله، عبدالله وزوجته لبنى، وزوجها مصطفى على وجه الخصوص، إذ زهد في الحياة بعد فقدانه زوجته وحبيبته فاتن، وحزن عليها كلّ الحزن، وشرع يناجيها تارة ويسترجع علاقتهما ولحظاتهما السعيدة معًا، فصار لا يعيش إلّا مع ذكرياته، ويسير هائمًا في شوارع المدينة كمن فقد بوصلة حياته، لكنّ وجود أخيه عبدالله وصديقه إبراهيم في حياته خفّف عن كاهله الشيء الكثير "فقد كانا بمثابة شعاع من الأمل ينسلّ من خلال عتمة حزنه، فعلاقته بهما مميّزة، يحافظ عليها كما الجوهرة النادرة، ويعتزّ بدفئها ويقدّر بريقها"(الرواية: 28 – 29). إضافة لدور أمّه، أم عبدالله، في التخفيف عنه وتشجيعه على مواصلة الحياة، وفي هذا تجسيد للعلاقات الاجتماعيّة الحميمة بين شخصيّات الرواية، ومشاطرة مصطفى همومه وأحزانه، ومواساته في المصيبة التي نزلت به.
تلمّح الكاتبة لمصير فاتن وموتها قبل وقوعه عبر عدّة مؤشّرات قبليّة توحي بموتها، إذ تهرب هدى من الواقع الذي تعيشه بتوتّر وقلق شديدين على حياة أختها، لتغرق في خيالاتها التي ترى فيها زوج أختها مصطفى مشرق الوجه ومعلنًا ولادة الطفل، ممّا أشعرهم بالغبطة، ثمّ تُقبل أختها على صغيرها فرحة به، ويتناوب الأهل حمل الوليد وتقبيله فرحين مسرورين، فتصحو من خيالاتها مع إعلان مصطفى أنّهم أدخلوا فاتن غرفة العمليّات، فيزداد قلقها وتوتّرها، و تقترب فاتن من مصيرها المحتّم(الرواية: 10 – 11). ومن ذلك أيضًا توظيف اللون الأبيض، في مستهلّ الرواية، تقول هدى: "يلفّ اللون الأبيض المكان، فيجسّد مشاعرنا المتلاطمة بين الخوف والأمل، لم أحبّ اللون الأبيض في المستشفيات ولم استطع تأويله وتحليله، كلّ شيء أبيض وباهت لا حياة فيه"(الرواية: 14)، ممّا يشي بموت فاتن، وقد سبقته إشارات عديدة أخرى إذ مرّت فاتن خلال حملها بلحظات صعبة، وآلام كثيرة أقلقت أمّها وزادت من توتّرها(الرواية: 16)، وتضيف هدى قائلة: "كان الصمت عميقًا يضاعف شعورنا بالخوف، وساد السكون، لا يقطعه سوى وقع أقدام خفيفة تمرّ من حين لآخر"(الرواية: 14 – 15). هكذا يدرك القارئ أنّ كلّ ما تقدّم ما هو إلّا إرهاصات تُنبئ بموت فاتن قبل وقوعه.
يعيش مصطفى بعد وفاة زوجته حزينًا لا يقوى على نسيانها، "في كلّ زاوية يرى صورتها، وفي كلّ صوت يسمع صدى صوتها، وفي كلّ رائحة يشمّ عطرها، يزور قبرها كلّ يوم ويجلس أمامه لساعات، يحدّثها عمّا يجول في خاطره، وعن وحدته وحزنه، ويخبرها كم يفتقدها ويشتاق إليها"( الرواية: 28)، وتفقد الأشياء قيمتها بنظره، فالطعام بلا نكهة، والنوم بلا راحة، والأيّام تتوالى بلا معنى، يمرّ عليه كلّ يوم كأنّه سنة كاملة ثقيلة، يشعر في عمله بوحدة عميقة رغم ما يحيط به من شخصيّات، تنتهز سكرتيرته المطلّقة سناء موت زوجته لتكسب ودّه، تلاحقه في المعرض، تلبّي طلباته، وتخفّف من عبء الأحمال على كاهله، لكنّ مصطفى لا يبادلها نفس المشاعر رغم أناقتها وجمالها، بل يحرص على أن تبقى علاقتهما في نطاق العمل فقط، تواصل سناء مطاردتها له بنظراتها وابتساماتها ولمساتها، فيحاول مصطفى تجاهلها دون أن يفلح، فلا يستطيع مقاومة سحرها وجمالها، تنهار مقاومته، ويغرق في مداعبة سناء وتقبيلها متخيّلًا أنّها حبيبته، ثمّ يقضي معها ليلة حمراء حتّى ساعات الفجر في أحد فنادق مدينة يافا، بعيدًا عن الأنظار، دون أن يعبّر عن حبّه لها، ممّا يبرّر رفضه الزواج منها، فهو غير مستعد لذلك ويطلب متّسعًا من الوقت للتفكير في الأمر. وفي هذا المقام تتبادر أسئلة كثيرة في ذهن القارئ حول سلوك مصطفى المذكور؛ فهل كان حزنه لموت زوجته حقيقيًّا أم كان يصطنع ذلك؟! أم رأى في تلك الممارسة مع سناء أنّه يمارس الحبّ مع زوجته فاتن كما يُفهم من النصّ؟ أو كيف يستسلم لمطاردة سناء ولم تمرّ إلّا أيّام قليلة على وفاة زوجته؟ أم أنّها رغبة جامحة سيطرت عليه مع غياب زوجته إشباعًا لرغبته الجنسيّة؟ كلّ هذه الأسئلة من شأنها أن تدين سلوك مصطفى من ناحية، وتُضعف قناعة القارئ بهذه الأحداث؛ لما تعكسه من تذبذب وتناقض في سلوك مصطفى.
تُقصّر أحداث الرواية عن إقناع القارئ بأحداث أخرى تنثرها الكاتبة في تضاعيف الرواية، ومن ذلك دخول إبراهيم شقّة جارته نهاية بعد ضغطه على جرس الباب؛ لأنّه سمع صوت موسيقى عذبة ينبعث منها، إنّها موسيقى "نينوى" الشهيرة التي يعشقها، ولم تربطه بجارته نهاية أيّ علاقة سوى أنّها جارته التي يلتقيها في مصعد البناية حيث يسكنان، فيرمقها بنظراته التي تؤكّد انجذابه إليها، وتردّ هي بابتسامة عذبة، ممّا يضعف من إمكانية اقتناع القارئ بذلك الدخول دون أن تربط بينهما أيّ علاقة باستثناء الجيرة، فكيف يقوم بهذا التصرّف وهو طبيب الأسنان المشهور المعروف بحسن أخلاقه ورقّة تعامله مع زبائنه؟ أهي جرأة أم ماذا؟ لا يكتفي إبراهيم بذلك بل يستجيب لطلب نهاية التي ترحّب بحضوره لإخبارها المزيد عن تلك السيمفونيّة فيشرع في شرحه عن تلك المعزوفة المختلف في أصلها(الرواية: 85 - 87). ويتكرّر الأمر مع إبراهيم عندما يترك عيادته متوترًا لأنّه قلع سنًّا سليمة لأحد مرضاه بدل المعطوبة، يعتذر منه ومن زبائنه المنتظرين، مغادرًا إلى بيته، وبدل أن ينزل في الطابق الثالث حيث شقّته، نزل في الطابق الثاني، ودلف إلى شقّة نهاية دون أن ينتبه لذلك لانشغاله بالتفكير في ذنبه الذي اقترفه مع مريضه، وحين حضرت نهاية إلى شقّتها واستفسرت عن وجوده في بيتها لم يعرف كيف يجيبها، وبدا عليه الارتباك والوجوم، فعمدت إلى تهدئته والتخفيف من حيرته، وأدخلته إلى الحمّام ليغسل عناء يومه مستسلمًا لها كطفل يبحث عن الأمان، ثمّ غرقا في قبلات ساخنة حتّى الرعشة الأخيرة(الرواية: 96 – 99). بذلك تأتي الأحداث واهية في ترابطها السببي، ليبقى القارئ حائرًا في هذه السلوكيّات التي لا يقتنع بحدوثها، ممّا يُحدث ثغرة بارزة في سببيّة تلك الأحداث.
تنبض الرواية بمضامين اجتماعيّة مألوفة أبرزها الحياة الزوجيّة وما تفرزه من مشاكل بين الأزواج كعلاقة مصطفى وزوجته هدى، فقد رضي بالزواج من أخت زوجته المتوفّاة التي يعتبرها أختًا له، ولم يستطع أن يمارس حياته الزوجيّة معها لما اصابه من حزن شديد على فقدان زوجته، وعاشا معًا كأخوين حتّى عندما قضيا ليلة في أحد الفنادق، ولم يغيّر نظرته لها ومعاملته، شاعرًا بعجزه الجنسيّ وعدم قدرته على التواصل مع زوجته، ممّا أزعج زوجته هدى التي كانت تأمل أن يلتفت لأنوثتها لتمارس حقّها الزوجيّ، فصمّمت على ترك بيته بصحبة طفله يحيى الذي رعته منذ وفاة أمّه، لكنّه أصرّ على بقاء يحيى معه، طالبًا منها أن تمهله بعض الوقت ريثما تتغيّر مشاعره نحوها. تُقبل هدى على مواصلة دراستها الجامعيّة التي انقطعت عنها، وتجدّد علاقاتها بزملائها الطلبة، وخاصّة مع زميلها موسى الذي يزعج مصطفى باتّصاله الهاتفيّ ليلًا وحديثه مع هدى، عندها توضّح له هدى أنّ علاقتهما لا تتجاوز علاقة الزملاء، فيقوم مصطفى بمفاجأتها بزيارتها في الجامعة ومشاهدتها وهي تجالس موسى، فتثور ثائرتها وتعلمه أنّها مستعدّة للتنازل عن كلّ شيء حفاظًا على كرامتها، فيندم على ذلك السلوك معتذرًا لها وعازمًا على تعويضها عمّا سبّب لها من ألم.
إنّ ظهور رجل آخر في حياة زوجته هدى أدخل في نفسه الخشية على توقّف زواجه منها وارتباطها بغيره، ممّا دفعه لتغيير نظرته إليها، فصار ينظر إليها نظرة رجل إلى امرأة، وصار مشغولًا بها حتّى في عمله، وغدا كلّ شيء فيها يثيره معبّرا عن مدى أناقتها وجمالها بكلمات رومانسيّة ساحرة هيّأت لهما الجوّ لممارسة حقّهما الشرعيّ ليعيشا حياة زوجيّة سعيدة، فما الذي حدث لتنقلب نظرة مصطفى لهدى من النقيض إلى النقيض؟ هكذا يبدو الحدث واهيًا، يُضعف من اقتناع القارئ به.
تطرح الرواية مشكلة زوجيّة أخرى بين عبدالله وزوجته لبنى التي تدور رحاها حول إهمال لبنى لزوجها وعدم الاهتمام بما يحتاجه، تجاهله وعدم السماح له بلمسها، خروجها من البيت حتّى ساعات متأخرة من الليل، عدم عنايتها بنظافة بيتها وعدم إعداد الطعام لزوجها، رغم ما كان يكنّ لها زوجها من الحبّ والعناية والاهتمام دون ان تأبه بذلك، فما عاد قادرًا على تحمّل ذلك الوضع، فاتّصل بوالدها في ساعة متأخّرة من الليل وطلب إليه أن يحضر ليأخذ ابنته من بيته بعد أن شرح له كلّ ما يعانيه في الحياة معها. يستغرب مصطفى ممّا أخبره أخوه عبدالله عن علاقته بزوجته وإهمالها له، وتزداد دهشة أمّ عبدالله لما سمعت من ابنها فقد كانت لبنى تعاملها أحسن معاملة وتغدق عليها من حنانها وعطفها دون أن تقصّر في شيء، تقترح أمّ عبدالله أن تقوم هدى زوجة مصطفى بزيارة لبنى في بيت أهلها للوقوف على حقيقة العلاقة بينها وبين زوجها عبدالله، فتعترف لبنى بكل ما قاله زوجها مبيّنة أن السبب في ذلك السلوك هي التربية الصارمة التي نشأت عليها في بيت والديها والقيود الكثيرة التي أثقلت كاهلها وأشعرتها أنّها تعيش في سجن، ففرّت منه إلى زواجها من عبدالله وشعرت بنبض الحريّة معه لكنّها خشيت أن تفقد زوجها فقست عليه بمعاملتها وإهمالها وأسرته بقيود أقسى من قيود والديها، بينما كانت تعامل الناس بلطف وطيبة قلب وكرم أخلاق حتّى لا يصدّقه أحد إذا اشتكى منها يومًا. تندم لبنى لقسوتها على زوجها، وتتوق لكسب ثقته من جديد لتصبح حبيبة حقيقيّة لعبدالله.
رغم نجاح صديقهما إبراهيم في حياته المهنيّة كطبيب أسنان إلّا أنّ حياته الزوجيّة تتعثّر مرتّين حتّى صار يخشى من تكرار تجربة الزواج بعد طلاقه مرّتين، وقد آمن أنّه بخير دون زواج، معتقدًا أنّ علاقات الرجال والنساء قائمة على المصالح والاحتياجات، أمّا الحبّ فهو خرافة برأيه. ينجذب إبراهيم لجارته نهاية التي تسكن في الطابق الثاني من العمارة التي يسكن في طابقها الثالث من خلال لقاءاتهما المتكرّرة في مصعد العمارة، وتنشأ بينهما علاقة وديّة تتطوّر شيئًا فشيئًا، فكلاهما يشعر بالوحدة الجسديّة والروحيّة، ويعانيان فراغًا عاطفيًّا يجعلهما بحاجة للرفقة والصحبة، وتتوثّق علاقتهما، وفي المرّة الثانية تلاحظ نهاية ما يعتريه من الوحدة والقلق، فتحضّر له الشاي، ثمّ تدخله إلى الحمّام، ويغرقان في قبلات ساخنة وممارسة جنسيّة تامّة، لتصبح شقّتها جنّة أرضيّة يقضيان فيها أجمل الأوقات. تطلب نهاية من إبراهيم الزواج رغم علمها بتخوّفه منه لما مرّ به في تجربتيه السابقتين، فيعلمها أنّه لا يرى في الزواج سوى قفص يحاصر حرّيته معربًا عن حبّه لها ورغبته في بقاء علاقتهما كما هي دون قيود، فتشعر نهاية بتحطّم أحلامها وتقرّر مغادرة حياته دون رجعة، شعر إبراهيم أنّ حياته فقدت معناها بفقدان نهاية، وبعد التأمّل في حياته ومراجعة ما مرّ به من خيبات وفشل عاطفيّ يقرّر أن يعود ليفتح أبواب قلبه وعقله معًا لمواجهة الحياة، فلم يعد ذلك الرجل المنغلق على نفسه، وعاد إلى نهاية ينظر إليها بإعجاب وحبّ عميق.
هكذا يظهر الراوي مصلحًا اجتماعيًّا يعمل على رأب الصدع بين الأزواج، ومتيحا لهم فرصة ثانية للعيش بسعادة ووفاق، الأمر الذي يبرّر الاسم الذي اختارته الكاتبة لروايتها التي تدعو فيها لإتاحة فرصة ثانية أمام من تعثّرت حياته الزوجيّة، وتدارك أخطاء التجربة الأولى، أضف إلى ذلك مناقشة مضامين حياتيّة وعقائد فكريّة منثورة في تضاعيف الرواية؛ كالحبّ، الأمومة وما يلحق بها من معاناة الأمّهات، العاطفة مقابل العقل، التربية وأثرها على سلوك الأبناء، الموسيقى وأثرها في الحياة، عالم المرأة، ونحو ذلك من القضايا التي تؤرّق الكاتبة.
في فنّيّة الرواية
تتجلّى قيمة هذه الرواية، حسب اعتقادنا، في التقنيّات الفنّيّة والأساليب الموظّفة فيها، ومن أبرزها تلك اللّغة الشاعريّة التي تعتمدها الكاتبة بصورة مكثّفة، فعلى الرغم من كون الرواية واقعيّة مسرودة في كثير من المواقع بلغة تقريريّة مباشرة إلّا أنّ الكاتبة ترتقي بلغتها الأرضيّة إلى لغة سماويّة تدغدغ مشاعر القارئ في كثير من مواضع الرواية، ومن ذلك ما تذكره عن الأمّهات قائلة: "نعم.. فالشمس تشرق من عيون الأمّهات، وشال الحرير على أكتافهنّ سرّ من أسرار القداسة، ينسجن من العطاء أجمل أثواب العطف والحنان، ويغمرن أبناءهنّ بالدفء والأمان"(الرواية: 50)، أو ما تصف به مصطفى وهو يتحرّر من حزنه لوفاة زوجته قائلة: "شيئًا فشيئًا انسلخ من عباءة الحزن وعاد إلى حياته الطبيعيّة؛ كفراشة تخرج من شرنقتها مع طلوع الشمس بعد ليل طويل"( 63). أمّا عن جمال هدى حسبما وصفته سناء، سكرتيرة مصطفى، فتقول: "لاحظت سناء جمال هدى ورقّتها، فقد كانت تشرق جاذبيّة ولطافة، كشمس تضيء وتنشر الدفء، عيناها نافذتان تطلان على روح نقيّة مفعمة بالحياة، وجهها كما لوحة فنّيّة تتناغم فيها ملامحها، أمّا ابتسامتها فسحر يذيب القلوب، وبشرتها نضرة بضّة كوردة تتفتّح في الربيع، قوامها رشيق يتمايل مع كلّ خطوة، وأناقتها تضفي عليها سحرًا خاصًّا"(166- 167)، ومثل ذلك ما تذكره الكاتبة من محاولات هدى للفت انتباه زوجها الذي لا يزال يعاملها كأخته، إذ تقول: "تحاول جاهدة أن تثير اهتمامه، لكنّ جهودها تذهب سدى، كأنّه جدار من الصخر لا يمكن اختراقه، فتشعر وكأنّها قارب يطفو على سطح الماء، يبحث عن ميناء يرسو فيه، لكنّها لا تجد سوى أمواج من الوحدة تحيط بها"(197). وعن تأثّر مصطفى بصوت زوجته هدى وهي تقرأ له تقول الكاتبة: "انصهرت كلماتها كلحن عذب، نسجت حوله خيوطًا من السحر والجمال، فلم يعد يفقه شيئًا ممّا تقرأه، كلّ ما كان يشغل تفكيره في تلك اللحظة، هو جمالها وجاذبيّتها، فقد أسرت مشاعره، وجعلته ينسى كلّ شيء حوله"(245). هكذا تزخر الرواية بمثل هذا اللّغة الشاعريّة الحاضرة في معظم صفحات الرواية، ممّا يأسر القارئ متابعًا جماليّات تلك اللّغة الراقية.
تنعكس تلك اللّغة الشاعريّة أيضًا، على الأوصاف التي تبثّها الكاتبة في روايتها، ومن ذلك وصف مصطفى لسكرتيرته سناء في أثناء نومها، هذا بعضه: "تملّكه سحرها فأخذ يتأمّل أنفها الصغير؛ كجوهرة نحتتها يد فنّان ماهر، شفتاها كأنّهما بُرعما وردتين تتفتّحان على خدودها الرقيقة"(79 - 80). ويبدو أنّ الكاتبة مأسورة بجمال مدينة حيفا التي تذكرها عدّة مرّات في الرواية، وتتغنّى بجمالها، على مساحة صفحتين كاملتين، منها قولها: "فحيفا سيمفونيّة من البشر والحجر والبحر والحياة، تتراقص أمواجها على إيقاع أنغام البحر المتوسّط، وتلامس جبال الكرمل الشامخة حكاياتها الإنسانيّة، تسارع الخطوات في شوارعها العتيقة؛ لتسابق الزمن المندفع، كأنّ الأيّام تسرع بخطًى لا تُدرك، ففي كلّ صباح تشرق عليها الشمس، تحمل معها الآمال الجديدة، وفي كلّ مساء تغرب شمس أخرى، مخلّفة وراءها ذكريات لا تمحى"(83)، وغير ذلك من الأوصاف التي تتقطّر رقّة وجمالًا.
تعكس الرواية روحًا مشعّة تفاؤليّة تتمتّع بها الكاتبة في توظيفها للطبيعة خاصّة زجّ الشمس مع استهلال كلّ مقطع من مقاطع الرواية، وهي تنشد في توظيفها تلك الأمور بثّ مسحة من الأمل على الرواية، والقارئ، ونفسيّة الشخصيّات الموظّفة في الرواية، وقد أحصينا ما يزيد عن اثني عشر موضعًا تستهلّ فيها حديثها عن الشمس، كقولها في استهلال الرواية: "حينما غمر الظلّ كلّ شيء واعتلت الشمس كبد السماء"(5)، وتستهلّ مقطعًا آخر بقولها: "يطلّ الصباح بنوره الذهبيّ مخترقًا العتمة"(40)، أو قولها: "تطلّ شمس الصباح على المعرض، حاملة معها نسائم جديدة"(45)، وغير ذلك من مثل هذه الافتتاحيّات الشمسيّة لكلّ مقطع من الرواية التي توزّعها على مساحة الرواية كلّها، وتنهيها قائلة: "أشرقت شمس يوم جديد حاملًا معه عيد ميلاد لبنى"(201).
لا تكتفي الكاتبة بذلك بل تتّخذ من الطبيعة معادلًا موضوعيًّا لنفسيّة الشخصيّة، إذ تتماثل الطبيعة مع مشاعر الشخصيّة، ويظهر هذا التوظيف للطبيعة في مواضع عديدة من الرواية كقولها: "يتسلّل المساء بخطوات هادئة وتخيّم سحب الغروب على مدينة حيفا؛ فتلوّن السماء بألوان متداخلة من البرتقاليّ والأحمر والبنفسجيّ، كلوحة فنّيّة حزينة تعكس مشاعر مصطفى"(34)، وتقول في موضع آخر واصفة هيئة مصطفى: "وبينما كانت الشمس تنسج آخر خيوط نهارها الذهبيّ، تسلّل شعاع خافت منها عبر نافذة المكتب؛ ليلامس وجه مصطفى الجالس هناك، انزلق الضوء كهمس دافئ، مسلّطًا نوره على ملامحه، فكشف عن شحوب لونه وتوتّر عينيه"(64 - 65). وحين تعمد الكاتبة لوصف ما يجيش في داخل إبراهيم من مشاعر تقول: "نظر إلى السماء، باحثًا عن نجم يضيء له ظلامه، لكنّ السماء كانت مغطّاة بغيوم سوداء، تعكس حالة روحه المظلمة، شعر ببرودة قاسية تتسلّل إلى داخله من برد مشاعره المتجمّدة، ومن خوفه من المستقبل المجهول"(146). إنّ هذه التقنيّة التي تنتهجها الكاتبة تضفي على الرواية مسحة بارزة من الرومانسيّة، وتؤكّد من ناحية أخرى الحالة الشعورية التي تعيشها الشخصيّة، كما تبعد عمليّة السرد عن التقريرية والمباشرة.
تتّكئ الرواية في عمليّة السرد على آليّات تيّار الوعي بصورة مكثّفة، ممّا يؤكّد اطّلاع الكاتبة على المنجزات الأدبيّة الحديثة، كالاستطراد، التداعيات، الاسترجاعات، المونولوجات وأحاديث النفس الداخليّة، إضافة إلى الهروب من عالم الواقع المؤلم إلى عالم الخيال حيث تجد النفس البشريّة راحتها فيه، ومن ذلك تجاهل هدى لأحداث الواقع الذي تعيشه هي وعائلتها منتظرين خلاص أختها من عمليّة الولادة بأمان، لتغرق في الصور الخياليّة التي تتراءى لها، إذ تتخيّل مصطفى خارجًا بوجه مضيء من غرفة الولادة، معلنًا ولادة فاتن لابنها، ممّا نشر الغبطة بين أفراد الأسرة لسلامتها، وللبهاء الذي يشعّ من وجه الطفل وكأنّه قطعة من الجنّة هبطت على الأرض(10- 11). إنّ توظيف هذه التقنيّة يتيح للشخصيّة الهروب من الواقع المرّ إلى واقع متخيّل أكثر راحة، إضافة لكونها تقنيّة تبطّن خوف الشخصيّة من الواقع الحقيقيّ.
تلجأ الكاتبة في مواطن أخرى لتوظيف تقنيّة الاستطراد، فتوقف الحدث لتثري معلومات القارئ، أو لتطرح فكرة معيّنة، فتخفّف من وطأة السرد ومن ذلك ما شرحه إبراهيم لنهاية عن أصل سيمفونيّة "نينوى" إذ يقول: " إنّها سيمفونيّة غامضة، يُختلف حول مؤلّفها، بعضهم يقول إنّها مقطوعة موسيقيّة آشوريّة قديمة ترجع إلى القرن السابع قبل الميلاد [...] يقال أيضًا أنّها موسيقى حديثة ألّفها في الثمانينات مؤلّف موسيقيّ إيرانيّ وسمّاها "ناي نوا" وتعني بالفارسيّة عزف ناي على مقام النوا، وسبب الاعتقاد بأنّها من الإرث الموسيقيّ الآشوريّ هو تقارب اسم نينوى مع ناي نوا"(87)، وفي هذا ما يعكس اطّلاع الكاتبة على العالم الموسيقي وشغفها به.
تعجّ الرواية بمونولوجات وأحاديث النفس الداخليّة لكثير من الشخصيّات مثل هدى، مصطفى، عبدالله وغيرهم، ومن ذلك ما حدّث به عبدالله نفسه حين أعلمته زوجته أنّها ترفض الإنجاب، "حدّث نفسه: أنا من يجب أن يتردّد في خوض غمار الإنجاب، لا هي، فطباعها حادّة ومزاجها متقلّب، وحياتي معها مشي على حبل رفيع، يهدّدني السقوط في أيّ لحظة، لكنّ حبّي لها يعميني عن عيوبها، ويلهمني الأمل أن تتغيّر طباعها، لعلّ الإنجاب يعيدها إليّ زوجة وحبيبة كما أشتهي"(109). ومن ذلك أيضًا ما قاله مصطفى وهو يحاور نفسه بصوت خافت حول مشاعره التي يخفيها عن زوجته هدى وعدم ممارسته حقّه الزوجيّ، إذ يقول: "إذا اعترفت لها بمشاعري، فقد تصاب بالإحباط، وتصبح العلاقة متوتّرة منذ بدايتها، وإن قرّرت تأجيل الليلة سيزداد شعورها بالقلق، وإن غامرت بهذا اللقاء، فستضطرّ هدى إلى مشاركتي الفراش دون رغبة منها، ممّا يضاعف من تعقيد الأمر" (177). يعمل المونولوج على مساعدة الشخصيّة في التخفيف عن توتّرها وغضبها، ويشعره بالراحة النفسيّة، وقد يهتدي من خلاله إلى السلوك المناسب في حلّ مشكلته، ونحو ذلك.
تحضر نماذج أخرى من آليّات تيّار الوعي في الرواية كالتداعيات والاسترجاعات ومنها ما استعادته هدى من علاقتها بأختها فاتن إذ تقول: " مرّت كلّ اللحظات الجميلة التي قضيناها معًا في تلك اللحظة أمام عينيّ، وكلّ اللحظات الجذلى والبريئة والساذجة، كلّ الضحكات التي ملأت أرواحنا بالبهجة، والمشاعر الدافئة التي تشاركناها معًا منذ الطفولة البعيدة..."(19). هكذا يعمل الاسترجاع على إعادة الزمن الجميل الذي عاشته هدى مع أختها، ويعكس العلاقة الحميمة بينهما، رغم أنّه يوقف سير الأحداث ريثما ينتهي ذلك الاسترجاع.
في حالات أخرى يعمل الاسترجاع على إعادة الزمن الأليم، ممّا يزيد في توتّر الشخصيّة، ولعل فيه تنفيسًا عمّا يجيش في أعماق الشخصيّة، مثلما نجد في استرجاع إبراهيم لماضيه وزواجه مرّتين، يقول الراوي: "انفتح صندوق ذكرياته وتدفّقت مشاهد الفشل العاطفيّ كشلّال جارف يغرق روحه، تراءت له صور من الماضي، من زمن ولّى، ومشاهد من لحظات عصيبة هزّت كيانه، وتركت وراءها جروحًا عميقة في نفسه[...] تذكّر خيبة الأمل التي مرّ بها عندما انهار زواجه الأوّل والثاني، وتذكّر المشاعر التي عصفت به حين هجرته حبيبته الأولى في ريعان شبابه وفتوّته"(147).
تزدحم التقنيّات الفنّيّة في الرواية لأهداف كثيرة، منها ما يخفّف من رتابة السرد ووطأته ويعمل على مواصلة يقظة القارئ، كتقنيّة الحوار الحاضرة في تضاعيف الرواية، مثل المقطع الحواريّ بين عبدالله وزوجته لبنى حول عدم تحضيرها الطعام لمرافقتها صديقتها ريم إلى السوق ومساعدتها في اختيار فستان خطوبتها ممّا أخّر عودتها إلى البيت دون أن تتمكّن من إعداد الطعام(67 - 68)، أو الحوار بينهما لعدم وضعها الثوم الذي يحبّه عبدالله مع الملوخيّة بينما لا تحبّ هي نكهة الثوم(92 - 94). وتعقد الكاتبة حوارات عديدة بين شخصيّات الرواية أبرزها ما دار بين عبدالله وزوجته لبنى لتصوّر التنافر الكبير بينهما، ولتبرّر تأزّم العلاقة بينهما ممّا أقنع عبدالله بضرورة انفصالهما، ومن ذلك ما دار بينهما عند تأخّرها في العودة لبيتها إلى ما بعد منتصف الليل؛ لمشاركتها حفل عيد ميلاد صديقتها سميرة، ويحتدم الجدال بينهما ويشتدّ ليقرّر عبدالله عدم قدرته على مواصلة الحياة معها(235 - 237).
تتيح الكاتبة للقارئ المشاركة في إنتاج النصّ من خلال ما تطرحه الرواية من أسئلة استفهاميّة وبلاغيّة، وتعمل من ناحية أخرى على تصوير الحيرة والارتباك والقلق في نفس الشخصيّة كتساؤلات مصطفى حول مصير ابنه يحيى، يقول الراوي: "فكيف سيعيش هذا الطفل دون أمّ تدفئه بحنانها؟ كيف ستكون حياته المستقبليّة؟ وإلى متى سيظلّ في بيت جدّه لأمّه، وفي رعاية خالته؟"(37)، وغير ذلك من التساؤلات التي تفتح الباب على مصراعيه أمام القارئ للمشاركة في إنتاج النصّ والتفاعل معه، أو توقّع ما سيأتي فيما بعد، ومن ذلك تساؤل آخر لعبدالله حول علاقته بزوجته لبنى، يقول الراوي: "قضى الوقت حزينًا مليئًا بالتساؤلات: هل تستحقّ لبنى كلّ هذا الألم الذي أعانيه؟ هل يستحقّ الزواج الحفاظ عليه، إن لم يجلب لنا السعادة التي نستحقّها؟"(203).
لمّا كانت الرواية واقعيّة تبنّت الكاتبة في عمليّة التعريف بشخصيّات الرواية أسلوب الإخبار (Telling) لا أسلوب العرض (Showing) ، بمعنى أنّها ركّزت صفات كلّ شخصيّة في فقرة أو فقرتين دون أن تترك للقارئ التعرّف على الشخصيّة من خلال الحدث. مثال على ذلك وصف الراوي لإبراهيم: "إبراهيم طبيب أسنان ناجح، حمل على كتفيه عبء تجارب صعبة وتزوّج مرّتين، لم يحالفه الحظّ فأخفق في المرّتين. أثّر ذلك الإخفاق على نفسيّته، فآثر العيش وحيدًا مكتفيًا بشغفه بمهنته وأصدقائه المخلصين"(29)، وفي موضع آخر يضيف عن إبراهيم قائلًا: "هو طبيب متمرّس يشهد الجميع ببراعته وخبرته، يداوي الأسنان بمهارة، ويُجري العمليّات الجراحيّة للفم والأسنان بدقّة وعناية فائقة"(53). وينتهج نفس الأسلوب مع عبدالله، إذ يقول: "أمّا عبدالله فيسكن مع زوجته لبنى في الطابق السّفليّ من البناية نفسها، قريبًا من أخيه جسديًّا ونفسيًّا" (29)، ويضيف في موضع آخر قائلًا: "يشغل عبدالله منصب المهندس الإداريّ المسؤول في أحد المصانع المهمّة، حيث يشرف على عمليّات استيراد قطع الأجهزة الكهربائيّة وتجميعها، تجهيزها وتوزيعها في السوق تحت أسماء الشركات المصنِّعة"(67).
لا تلتزم الكاتبة أسلوب الإخبار مع كلّ الشخصيّات بل تمزج بين الإخبار والعرض للتعرّف على الشخصيّة من خلال الحدث، كنهجها في الحديث عن مصطفى وغيره من الشخصيّات، فهي تصف مصطفى وصفًا مباشرًا مرّة، فتقول: "فمصطفى شابّ مفعم بالحيويّة والنشاط، عقل تجاريّ ثاقب، يرى في كلّ سيّارة قصّة، ويسمع لكلّ محرّك نغمة"(40)، وتكشف تارة أخرى عن صفات مصطفى من خلال سلوكه، كقولها: "كلّ يوم يمرّ عليه كأنّه سنة كاملة ثقيلة بطيئة لا تطاق، يتجوّل في شوارع المدينة هائمًا على وجهه؛ كمن فقد بوصلة حياته ولا يدري إلى أين يتّجه، يبحث عن شيء أضاعه، لكنّه لا يعرف ما هو، فجزء من روحه قد سرق منه مع رحيل حبيبته"(28).
تدور أحداث الرواية حول علاقة ثلاثة أزواج بزوجاتهم أو صديقاتهم، كما قدّمنا، وبذلك يشكّلون بحضورهم شخصيّات الرواية الأساسيّة، وهذا أمر لا جدال فيه، ولكن عند تأمّل أحداث الرواية مرّة أو مرّات أخرى يتّضح، على ما نعتقد، أنّ شخصيّة أم عبدالله، والدة عبدالله ومصطفى هي الشخصيّة المركزيّة في الرواية، فلا يمكن للرواية أن تتطوّر دون حضورها وفاعليّتها، فهي محرّكة الأحداث دون تسلّط، إنّما بالنقاش والإقناع، فحين يفقد ابنها مصطفى زوجته فاتن ويزهد في الحياة التي لا يجد فيها طعمًا بعد رحيل فاتن، لا تتركه، بل تحثّه على مواصلة الحياة وتفهمه أنّ حزنه عليها لن يعيدها للحياة بل سيزيد من ثقلها عليه، ترافقه لزيارة طفله في بيت والد فاتن، وتدعو أحيانًا أخاه عبدالله وزوجته للمشاركة في تلك الزيارات، وعندما تجد الفرصة سانحة تقترح عليه الزواج من أختها هدى، وتقنع والدتها عبر محادثة هاتفيّة بينهما بمصلحة كلّ من هدى، يحيى، ومصطفى الذي يرفض الأمر ويعلمها أنّه قد يتزوّج من سكرتيرته سناء، لكنّها تواصل نقاشها معه حتّى يوافق على زواجه من فاتن لما فيه من مصلحته ومصلحة ابنه يحيى، رغم رفضه الشديد؛ فهو لا يرى في هدى سوى أخته الصغرى. تتابع أمّ عبدالله دفعها للأحداث وتطوّرها عندما تعلم بقرار ابنها عبدالله وعزمه على تطليق لزوجته لبنى التي ما عاد يطيق الحياة معها، تهبّ لتسوية الخلاف بينهما من خلال هدى التي تفلح في دفع لبنى للاعتراف بأخطائها وقسوتها على عبدالله، وتطلب منها إقناع زوجها عبدالله أن يعطيها فرصة ثانية؛ لتحسّن من معاملته وتقوم بواجبها الزوجيّ خير قيام، وبذلك تتحقّق كلّ مساعي أمّ عبدالله لتبدو هي الشخصيّة المركزيّة والفاعلة في الرواية.
يلاحظ القارئ إقحام الكاتبة لروايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة" في الرواية، ولا مسوّغ لذلك، اللّهمّ إلّا رغبة الكاتبة في الترويج لروايتها من خلال ما دار من نقاش بين إحدى النساء وإبراهيم حينما رآها تقرأ في الرواية التي سبق له أن ناقشها مع حبيبته نهاية، إذ يسأل تلك المرأة بفضول دون أن تكون له معرفة سابقة بها: " هل وصلتِ إلى آخر الرحلة؟"، تردّ مستغربة بالإيجاب، فيردف بسؤال آخر: " هل قرأتِ آخر فقرة في الرواية؟ تلك التي تقول:(ها أنا أجلس على شرفتي الجميلة وأدوّن الذكريات، بعد أن أغلقت أبواب قلبي بإحكام وفتحت أبواب العقل على مصراعيها)" (148- 149). ولم يكن من سبب لهذا الإقحام سوى مناقشة مسألتي القلب والعقل فقد سبق لإبراهيم أن قرّر، بعد طلاقه مرّتين أن يغلق أبواب قلبه ويفتح أبواب عقله، تردّ المرأة قائلة: "أعلم أنّ الجراح قد تكون عميقة، لكنّني أؤمن أنّ الحبّ قادر على إحياء القلوب المنهكة"(150)، ثم تقدّم له نصيحة، وهي الغريبة عنه، تقول فيها: "لا تقفل قلبك أبدًا، فالحياة جميلة، كيف نعيشها بقلب مغلق؟ صحيح أنّنا قد نواجه بعض الخيبات، لكنّ هذا لا يعني أن نتوقّف عن مواصلة الحياة"(150)، سُرّ إبراهيم بكلماتها، و"قرّر أن يفتح أبواب القلب والعقل معًا، وأن يواجه الحياة بكلّ ما فيها من تحدّيات وفرص، وينطلق نحو حبيبته نهاية"(151)، ويبدو أنّ ذكرها روايتها الأولى كان البوابة التي فتحت أمام الكاتبة لمناقشة مسألة القلب والعقل، فأقنعت إبراهيم بعدم التخلّي عن حبيبته والعودة إليها، وكانت قادرة، في اعتقادنا، على عقد ذلك النقاش دون حاجة لذكر تلك الرواية أو المرأة!
تستعين الكاتبة بمنجزات التكنولوجيا الحديثة، فتوظّف الهاتف في سرد بعض مقاطع الرواية، ومن المستهجن أن تلجأ لمثل هذه التقنيّة خاصّة في حوار الوالدة مع ابنها مصطفى لحثّه على الخروج من أحزانه وضرورة استئنافه عمله بعد موت زوجته، وهو قريب منها ويسكن في نفس البناية التي تسكن فيها أمّه، وليس من العسير عليها أن تدعوه إليها أو تزوره في شقّته لمناقشته بالأمر، وممّا يثير استهجان القارئ أنّها تعقد نقاشًا طويلا بين أمّ عبدالله، وبين أمّ فاتن لتعرض عليها مسألة مصيريّة معقّدة، وهي زواج ابنها مصطفى من ابنتها الثانية هدى عبر الهاتف، وتفرد الكاتبة لهذه المسألة عددًا من الصفحات التي كانت في غنى عنها لو قامت بزيارة لها في بيتها وناقشتها في الموضوع.
تعاني الرواية أيضًا من ترهّل بارز في سرد الأحداث في مواضع مختلفة من أبرزها، ما يجده القارئ في شرح العلاقة غير السويّة بين عبدالله وزوجته لبنى وتكرار الحديث عن تلك العلاقة التي تتأزّم وتشتدّ كلّما توغّل في متابعة أحداثها، لتنتهي مع تهديد لبنى بالطلاق وتدخّل هدى التي عملت على تسوية الأمور بينهما لتعود المياه إلى مجاريها مع نهاية الرواية.
أشرنا فيما تقدّم للّغة الشاعريّة الراقية واللّغة التقريريّة المباشرة التي تستخدمهما الكاتبة في سرد روايتها، إلّا أنّنا نجد في تضاعيف الرواية بعض الأخطاء النحويّة واللّغويّة، ومن ذلك قول الراوي: "غاصَا في أحاديث شيّقة مختلفة"(88)، و"انغمسا في نقاشات شيّقة"(224)، وهي تقصد أنّ الأحاديث والنقاشات كانت شائقة لا شيّقة، فالشيّق هو العاشق الذي أضناه الشوق، أمّا الشائق فتعني الجذّاب، وهو المعنى المقصود في الرواية، وهو خطأ شائع بين العامّة والخاصّة، يؤكّد طرحنا هذا، قول أبي زيد الطائيّ:
"مَنْ مُبلغٌ قومَنا النّائين إذ شحطوا أنّ الفؤاد إليهم شيّقٌ وَلِعُ".
ومن الأخطاء الشائعة التي وردت في الرواية تساؤل لبنى، وهي تخاطب مصطفى قائلة: "فكيف ستقضيان العمر سويًّا"(139)، وكان الأجدر أن تقول سويّة بمعنى معًا، أمّا سويًّا فتعني التامّ الذي لا نقص فيه، ويأتي خطأ آخر على لسان لبنى في خطابها لمصطفى، إذ تقول: "فهي الخاسرة الأكبر"(!39)، وأحرى بها أن تقول الخاسرة الكبرى.، ومن ذلك أيضّا تذكير كلمة "سنّ" وهي مؤنّثة(96)، وكذلك قول الراوي: "سيبادلها الحبّ والاحترام والوفاء وسيكملا معًا رحلة الحياة"(124)، أمّا الصحيح وسيكملان، ثمّ يقول الراوي على لسان مصطفى مخاطبًا هدى: "ولن أسمح لك بأخذه معك، ابقِ هنا معزّزة مكرّمة"( 216)، وكان عليه أن يقول: "ابقَي"، كما أوردتها الكاتبة فيما بعد بصورتها الصحيحة: "ابقي"(218)، وبعد، أقول قولي هذا غير منتقص من قيمة الرواية أو قدرة الكاتبة اللّغويّة المتمثّلة في هذه الرواية حسبما يتأكّد ذلك للقارئ، إنّما حثًّا للكاتبة على مراجعة نتاجها قبل طباعته وإصداره، أليست هذه مسؤوليّة الكاتب؟!
شفاعمرو
إضافة تعقيب