يقولون صبرًا لا سبيل إلى الصبر سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان، الفتح ثم شقيقه يزيد، فهل بعد الكواكب من صبر؟
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى إذا أنتما أبصرتمانيَ في الأسر
معي الأخوات الهالكات عليكما وأمكما الثكلى المُضَرَّمة الصدر
من هو هذا الشاعر الذي لا يستطيع صبرًا؟ وعلامَ يبكي؟ الفقد عزيزين أم لخطب آخر ألم به؟ من هذه الأم الثكلى ولماذا هلكت الأخوات؟ انها قصة الشاعر المعتمد بن عباد، أبي فراس المغرب، ولكي نتعرف على الشاعر ونستجيب لهذه التساؤلات دعونا نرجع إلى الوراء، إلى ما قبل الأسر وقبل فقد الولدين وقبل البكاء والرثاء. دعونا نرجع لنتعرف على ذلك الماضي السعيد في حياة المعتمد. لقد كان أحد ملوك الطوائف وعلى الأصح ملك الدولة العبادية من ملوك الطوائف. ولكن ما هذه الأشعار الصادرة عن ملك؟ أكان شاعرًا أيضًا؟ أكان غيره شاعرًا أيضًا؟ نعم، لقد كان هو وغيره شعراء، فعهد ملوك الطوائف في الأندلس لم يكن عهدًا لاقى فيه الأدباء والشعراء كل رعاية وعطف فحسب، بل كانوا هم أنفسهم أدباء وشعراء في غالبهم. ويبدو لنا ان بني عباد هم أولى ملوك الطوائف بانتباهنا من حيث كونهم شعراء وكون بلاطهم منتدى الأدب في عصرهم، فهذا المعتضد أب المعتمد يجعل يومًا من أيام الأسبوع – الاثنين – للشعراء، يفدون به عليه، فيطارحهم الشعر ويستمع إليهم ويجيز السابق بينهم ويشحذ هممهم للنظم... وجاء المعتمد فبز أباه في هذا المضمار حتى أصبح بلاطهم مركز الحركة الأدبية في الأندلس.
/تعريف بالشاعر
هكذا كان المعتمد بن عبد محسوبًا على الملوك وعلى الشعراء، دام ملكه ثلاثا وعشرين سنة، كانت حياته الأولى في شبابه تغمرها مجالس الأنس والأدب، وذلك قبل أن يتولى الملك، ثم كانت فترة الملك فزاد ترفه ونعيمه وعظمته ومسئوليتهُ، وقصده الناس من كل فج واتسع ملكه فضم قرطبة إلى اشبيليه. وكان قد نكب في آخر حياته بملكه ونفسه وأبنائه، ذلك ان خوفه من ملك قشتاله جعله يستنجد بيوسف بن تاشقين (صاحب مراكش وزعيم دولة المرابطين التي حلت محل ملوك الطوائف في حكم الأندلس) .. وكان هذا بعد ان دحر يوسف بن تاشقين ملك قشتالة استأثر بالملك في بلاد الأندلس واستسلم المعتمد للأسر ونفيَ وأهلُهُ إلى اغمات في افريقية (قرب مراكش) وسُجِنَ وقُيّد بالقيود بعد مجده وعزه في قصره الزاهي بأشبيليه، فأخذ يتسلى عن حظه بنظم الأشعار من جور الزمان بعد ان كانت اشعاره تدور على اللهو ومجالس الأنس وبعد ان كان يشرب الراح ويجلس بين كواعب ملاح يحاكي البدر في عليائه:
|
ولقد شربت الراح يسطع نورها |
|
والليل قد مد الظلام رداء |
لم يكن خروج المعتمد من ملعب شبابه ومسرح أنسه وأدبه بالسهولة التي يمكن تصورها، فقد قاتل أشد قتال دفاعًا عن بلاده حتى اضطربت اشبيليه اضطرابًا خرج الناس معه من منازلهم، وبعضهم ألقى نفسه في البحر. وفي ذلك يقول:
|
لما تماسكت الدموع |
|
وتنهنه القلب الصديع |
وشنت الغارة في البلد وانتهبت قصور المعتمد وأخذ هو قبضا باليد، مع أهله، ووضعوا في السفن، وكان له ولدان كانا بمعقلين لم يستطع الوصول إليهما أحد، فيضيق على المعتمد ويثقل بالحديد ليكتب لابنيه بأن يسلما، فيكثر أبوهما من ذلك فيستسلمان ثم يقتلان غيلة، فيرثيهما المعتمد بأشعار كثيرة – منها الأبيات التي صدرنا بها هذه الدراسة.
هذا هو أبو فراس الغرب، فقد ناءت عليه الأيام بكلكلها فذل بعد عِزّ وأُسِرَ ونُفِيَ بعد ملك، فكان له من ذكريات الماضي السعيد جرح لا يمض ولا يندمل.
دخلت عليه بناته يوم عيد وهو في سجنه باغمات بعدما حلت به المصيبة دخلن عليه وهن في اطمارهن البالية يغالبن البكاء ويصارعن الذلّ ليردِدْن على مسامع أبيهن كلمات التهنئة بأول عيد يمر عليهم في السجن، فإذا بالأب الملك يحتضن بناته وينشد هذه الأبيات مخاطبًا نفسه:
|
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا |
|
فساءك العيد في اغمات مأسورا |
ما هي قصة المسك والكافور التي يشير إليها ابن عباد في البيت الأخير؟ انها قصة ترتبط بحياته الأولى في شبابه قبل توليه الملك، هيا نستمع لهذه القصة مروية على لسان المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب"، يقول المقري "يحكي عن المعتمد انه أول ما تعرف إلى امرأته "اعتماد" الشهيرة بالرميكية كان عن طريق الأدب، فقد زعموا ان المعتمد كان يسير مرة مع صديقه (ووزيره فيما بعد) الشاعر الكبير ابن عمار على شاطئ النهر فخطر على بال ابن عباد شطر بيت هو:
صنع الريح من الماء زرد...........................
ثم أرتج عليه فلم يستطع إكماله، فقال لابن عمار، أجز، فارتج عليه أيضًا، فسمع جارية وراءه تقول: (وكانت تغسل على شاطئ النهر)
.................. يا له درعا منيعا لو جمد
وفي رواية أخرى: أي درع لقتال لو جمد فالتفت ابن عباد وراءه فرأى فتاة فتعجب من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي صورة حسنة، فأعجبته، فسألها اذات زوج هي؟ فقالت لا، فسأل عن اسمها فقيل ان اسمها "اعتماد" وكان سيدها يسمى "رميك بن الحجاج" فاشتراها منه وأحبها حبا ملأ عليه قلبه، ثم تزوجها وولدت له أولاده الملوك النجباء وشغلت جزءًا كبيرًا من حياته.
ولا يوم طين!؟
ومن اخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها "ولا يوم الطين" وذلك انها رأت الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه، وغنّت به ذلك؛ فأمر المعتمد، فسحقت أشياء من الطيب والكافور وذرت في ساحة القصر حتى عمته، ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على اخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين، وخاضتها معا جواريها... ثم كان ان غاضبها المعتمد في بعض الأيام، فأقسمت انها لم تر منه يومًا خيرًا قط، فقال: "ولا يوم الطين"؟! فاستحيت واعتذرت.. ويتابع المقري الخبر قائلاً: وهذا مصداق قول نبينا (صلعم) في حق النساء "ولو أحسنت إلى أحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك يومًا خيرًا قط" ولعل المعتمد يشير إلى هذه الحادثة في أبياته الرائية حيث قال في بناته:
|
يطأن في الطين والأقدام حافية |
|
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا |
والسؤال هنا، ما هو لون هذه الأشعار التي قالها ابن عباد في محنته؟ انها أشعار شاكية فيها لون خاص من الأدب، فيه من الرقة والعاطفة ما يجعلنا نشعر أنها أشعار عزيز ذل... وكانت هذه الأشعار سلوى المعتمد في أسره، بها يندب حظه ويحدث بالأمة ويبكي مصيره ومصير ملكه.
|
اقنع بحظك في دنياك ما كانا |
|
وعز نفسك ان فارقت أوطانا |
وديوان ابن عباد طافح بهذه الأشعار التي تصف مأساة الشاعر وهو يرى ان انباء أسره قد طبقت الآفاق وأقلقت الجهات، وهو ينحي باللائمة على صروف الدهر:
|
انباء أسرك قد طبقن أفاقا |
|
بل قد عممن جهات الأرض أقلاقا |
وعلى ذكر القيد.. فقد ثقلت عليه القيود مرة وعضت ساقيه فقال:
|
قيدي أما تعلمني مسلمًا؟ |
|
أبيت ان تشفق أو ترحما |
كان أسر المعتمد يثير فيه دائمًا كوامن عواطفه، لقد كان في أسره فقيرا معذبا، وكانت حاله تسوء يومًا بعد يوم حتى أصبح في عيشة ضنك، وهذا العيد يمر عليه يوما فلا يجد ما يكسي عري بناته أو ما يسد رمقهن، فيذكر ما هو فيه من بؤس وما كان فيه من عز فيقول أبياته الرائية التي اسلفناها (فيما مضى كنت...).
والغريب ان الشعراء الذين تعودوا سؤاله لم يخجلوا أن يسألوه وهو على تلك الحال، التي هو فيها أحق بالسؤال ويكاد يفعل ذلك لولا عزته اللخمية:
|
سألوا اليسير من الأسير وانه |
|
بسؤالهم لاحقَّ منهم فأعجبُ |
ابن عباد في أعين الشعراء
قلنا ان المعتمد كان شاعرًا محبًا للشعراء والأدباء، وكان بلاطه قبلة كل أديب وموئل كل فنان عبقري، كان حريصًا على شعرائه حرصه على نفسه، فهذا ابن زيدون يحاول اعداؤه الإيقاع به عند المعتمد، ولكن المعتمد لا يصغي لأقوال هؤلاء الأعداء، فيحفظ ابن زيدون لمليكه هذا الموقف النبيل ويمدحه بقصيدة يعرّض فيها بحساده الا ان ابن زيدون لم يعش حتى يرى ما حل بهذا الملك الشاعر فلم يشاركه مصابه ويواسيه، فقد مات ولما يزل ابن عباد ملكًا على اشبيلية وقرطبة. ولكن شعراء آخرين عاشوا مع شاعرنا وشاركوه أيام عزه ومجالس أنسه وأمد الله في أعمارهم ليفوا دينا له عليهم وليقفوا إلى جانبه مواسين. لقد كان حب هؤلاء الشعراء للمعتمد متمكنًا في قلوبهم مثيرًا في نفوسهم عواطف مشحونة بالحزن والأسى تألمًا وحسرة عليه، فهذا الشاعر أبو بكر الداني (المعروف بابن اللبانة) يشهد تلك الساعات الفاصلة في تاريخ دولة بني عباد، عندما تتقدم جنود ابن تاشفين لتضع القيد في يد ملك اشبيليه، ولتحمله السفن هو وأهله... وتسير بهم في الوادي الكبير في طريقهم إلى اغمات، بينما يحتشد الناس على ضفتي النهر، يودّعون ملكهم وأهله ويذرفون على أيامه سخين الدموع.. هذه المشاهد المبكية والخطوب المؤلمة هي التي حركت في نفس ابن اللبانة لواعج الحزن والأسى، فإذا به يرثي ملكه بداليته المشهورة:
|
تبكي السماء بدمع رائح غادي |
|
على البهاليل من أبناء عباد |
وابن اللبانة هذا يرى في زوال ابن عباد عن أرض الأندلس وذهابه إلى أغمات وكأن العالم قد أقفر والناس قد ماتت:
|
انفض يديك من الدنيا وساكنها |
|
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا |
لقد بلغ الوفاء بهؤلاء الشعراء إلى أن يسافروا مع ابن عباد إلى منفاه، ويذوقوا من الفقر والهوان ما يذوق، لأن مصابه مصابهم... فابن عبد الصمد هذا، مع الشاعر أبي بكر الداني والشاعر ابن حمديس هم ثلاثة من شعرائه الذين وفوا له ورحلوا إليه بعد ذله في سجنه، يقول ابن حمديس:
|
ولما رحلتم بالندى في أكفكم |
|
وقلقل رضوى منكم وثبير |
مكانة ابن عباد الشعرية:
يقول أحمد أمين في "ظهر الإسلام" في معرض حديثه عن ابن عباد، "لقد تجمعت للمعتمد أسباب كثيرة ألهبت عواطفه، فهو محب شريب تلعب به عواطف الحب ثم تلهبها الخمر... وهو لا يستطيع صبرا بعد فقد ولديه في الحروب... وهو ذو الجرح الذي لا يندمل بعد زوال عزه عنه وتذوقه مرارة الذل. أسباب تجمعت فأنطقته بخير الأقوال... انه شاعر ليس في شعره أي تملق أو تزلف، فإنما يشعر لنفسه، فحياته شعره وشعره حياته...".
أما الفاخوري فيقول: "ان شعر ابن عباد يمتاز بالصبغة الوجدانية وبالسهولة والطبيعة، فليس شاعرنا بالمتكسب المتهافت على المال يجمعه عن طريق المدح، ولا هو بالمتخد الشعر حرفة وصنعه، ولكن يستعمله أداة للتعبير عن مشاعره وعما توقد في صدره حوادث الدهر من عواطف واختلاجات وهذا ما يجعل بينه وبين أبي فراس الحمداني شبها كبيرًا..." اثناهما ذاقا حلاوة العز والملك وطَعِمًا مرارة الأسر والذل والهوان، واثناهما أبعد ما يكونان عن التملق والتزلف لأصحاب الجاه والسلطان.. ان شعر شاعرنا مرآة لنفسه المتألمة ولقلبه الرقيق، وهو صوت الألم الشاكي في أباء ورصانة.. انه شعر صادق معبر، فإن قاله في لهوه وعزه فشعره عزة ولهو، وان مات بعض أولاده فشعره رثاء وحنين، وان وقف فارسًا في موقف بطولة فشعره بطولة، وان أسر وسجن فشعره بكاء وحزن وذكر للماضي، كله أدب صادق حي يمثل فترات حياته. وكل قارئ لديوانه يستطيع ان يلحظ هذا فإن رأيت غزلاً هادئًا وحبًا صادقًا فذلك في فترة شبابه قبل توليه الملك.
|
يا صفوتي من البشر |
|
يا كوكبا بل يا قمر |
وإذا رأيت شعر فخر ورثاء فذلك في فترة ملكه وحتى حين أسره... وإذا رأيت بكاء على الماضي ومقارنة بين ماض زاهر وحاضر بائس فاعلم ان هذا ظل للفترة التي قضاها في اغمات:
كنت حلف الندى ورب السماح وحبيب النفوس والأرواح
وأنا اليوم رهن أسر وفقر مستباح الحمى مهيض الجناح
يقول أحمد أمين:
"وعلى الجملة فقد كان ابن عباد أيام نعيمه وأيام بؤسه نعمة على الأدب بما قاله في وصف مشاعره وبما قال الأدباء فيه.
مات شاعرنا في اغمات، فقيرًا مهانًا، رحم الله ابن عباد شاعرًا ملكًا طبقت شهرته الآفاق وسار ذكره بين الناس مرفوعًا شأنًا عاليًا نفسًا.
في الصورة: قصر المعتمد بن عباد في إشبيلية
إضافة تعقيب