news-details

من هو هذا الذي على الصليب? الجلجلة (جولجثة) - ادفارد مونك 1900| هشام روحانا

" من جسدي المتعفن ستولد الازهار وأنا فيها، انا في هذه الازهار وهذه هي الأبدية"

  ادفارد مونك

 

على الرغم من أنَّ شهرة الفنان النرويجي الأشهر إدفارد مونك (1863-1944) ترتبط لدى الجمهور العريض بلوحة واحدة هي الصرخة (1) الا أنه كان واحدًا من أكثر الفنانين انتاجا وابتكارا وتأثيرا في العصر الحديث.

ترك الفنان الذي عاش عقوده الثلاثة الاخيرة وحيدا منعزلا بالقرب من أوسلو وفي الطابق الثاني من مكان اقامته، عددا ضخما من الاعمال الفنية: 1008 لوحات، 4443 رسمة تخطيطية وما يزيد عن 15000 مطبوعة والعديد العديد من اعمال النقش على الخشب والحجر والصور الفوتوغرافية.

كنت قد توقفت في الدراسة سابقا عند لوحته الصرخة (1) والتي صار يُعرف ويعرَّف بها رغم أنه قد أنتج لوحات عديدة غيرها لا تقل ابداعا وحرفية منها، لكن ولربما يعود الفضل بالانتشار الواسع لهذه اللوحة وتقيمها العالي هو انها تلتقف خصوصية اللحظة لتصنع منها عنوانا لعمومية المرحلة.

سنتوقف اليوم عند لوحته الجلجلة والتي رسمها عام 1900. الجلجلة هو الموقع الذي يُعتقد ان السيد المسيح قد صلب فيه، وليس المقام هنا هو مقام نقاش التسمية التي علينا ان نعتمدها لاسم الموقع بالآرامية جولجثة ويكتب باليونانية (Γολγοθᾶ) ومعناها الحرفي هو الجمجمة. يُموقع إدفارد مونك فنه من خلال هذه اللوحة ضمن تيار فني واسع يطلق عليه فن نهاية القرن (Fin de siècle). يشير هذا المصطلح الفرنسي إلى مجمل الإنتاج الثقافي والفكري والحضاري في فترة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، فترة الانحطاط الاجتماعي ولكنها تحمل في احشائها احتمالات بدايات جديدة. لكن ما يميز الفن فيها هو الشعور بالإحباط والسوداوية وبفقدان الأمل بالخلاص فالإنسانية في أزمة تحتاج فيها إلى القطيعة مع الماضي وإيجاد حلول جذرية وشاملة.

تأثر مونك بالفنانين الفرنسيين بول غوغان وأنري تولوز لوترك وبالهولندي فنست فان غوخ ولهذا فإنه يجمع في لوحاته كلا من الانطباعية والرمزية والتعبيرية هاربا من رسم المناظر الطبيعية والبورتريهات نحو رسم النفس البشرية في حضيضها آلامها واوقات انكسارها. فلوحة الجلجلة هي رسم تعبيري للحسرة التي أحاطت به والولع الذي أصابه في هذه المرحلة من حياته. لقد أنهي لوحته هذه في عام 1900 عندما كان مقيما في مصح نفسي ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة ولا الأخيرة التي يقيم فيها مونك في المصح، للاستشفاء من ادمان الكحول وعدم قدرته على اتخاذ قرار بالزواج من حبيبته تولا لارسن التي هجرته بعد تلكؤ دام طويلا لتتخذ من زميل له لها زوجا. لقد كانت هذه واحدة من اشد فترات حياته صعوبة وكربا الامر الذي ينعكس في اعمال إضافية أيضًا.

رغم أن الجلجلة هي موضوعة دينية (2) وتمثل صلب المسيح الا انها محملة هنا بعناصر ذاتية وشخصية للفنان نفسه. فالوجه الذي يرسم فيه الشخص المصلوب هو وجه ادفارد مونك نفسه والذي يشعر انه يغادر الحياة كما غادرها المسيح بدون زواج. أما الأشخاص المتحلقين حوله فإنهم يشيحون وجههم عنه متجهين إلى الناظر للوحة. وبهذا المعنى فإنها تحتوي على عنصر استعراضي بين الشخصية المركزية من بين هذه الشخصيات السبع والتي تنظر الينا هي وجه صديقه الفنان والشاعر ستانيسلاف بجبيسيفسكي الذي يعبر هنا عن الحسد، والذي رسمه في لوحات أخرى تحت موضوع الحسد حيث انه قد ارتبط بزوجة الشاعر البولوني بعلاقات شكلت مثلثا عاطفيا سيعاود الفنان التعرض له في لوحات إضافية. الشخصيات السبع تشير إلى الخطايا السبع المميتات في المسيحية الكاثوليكية وهي: الغرور والكبرياء والشهوة والحسد والشراهة والغضب والكسل. كلا الشخصان المرسومان بتفصيل أكبر يرتبطان بعلاقة تضبط ايقاعها خطيئة الحسد التي يحاول الفنان الهابط إلى أحلك أيامه في الحضيض التبرؤ منها. لكن ما يمنح الفنان الامل، الأمل بالخلاص والعودة إلى الجنة هو تلك الشخصية الأقرب إلى قدميه التي تبدو وكأنها تصلي له، انها تولا لارسن. وإذ يموضع الفنان نفسه على الصليب معددا الخطايا السبع العظيمات أمامه فإنه يبدو وكأنه يريد أن يعترف بخطاياه متبرئا منها ليولد من جديد. الجلجلة هنا هي التحول والولادة، ولادة من رحم الخطيئة والألم إلى عالم نقي وطاهر.

 غير أن موضوعة الغيرة لا تنفك تعود على نفسها لدى الفنان فيرسمها في إحدى عشرة لوحة مكتملة أخرها كانت في ثلاثينيات القرن الماضي. في اللوحة التي نوردها هنا يظهر صديق الفنان الشاعر ستانيسلاف بكامل التفاصيل الدالة عليه أما زوجته وادفارد مونك فيظهران في البعد، هي في هيئة حواء التي تدل مونك إلى الشجرة المحظورة، يكسو الفنان عريها جزئيا برداء أحمر ناصع ليكتمل مشهد الاغراء. مونك-آدم، الرجل امامها بلباسه الكامل، حلة عصرية متكاملة لترمز إلى أن الحسد والاغراء يواصلان العمل بكد في عصرنا الراهن أيضًا. غير انهما إذ يظهران بالثياب قبل أن يتذوقا ثمرة الخطيئة قد يكونا فقدا براءتهما قبل هذا. إن هذه الموتيفات الدينية حيث يمهد الحسد والغيرة الطريق للإغواء والسقوط في الخطيئة، حاضرة بقوة لدى مونك.

 رغم أن نفسه المعذبة لا تنفك يحاصرها عذاب الخطيئة والخوف الدائم من السقوط في لجة السوداوية العظيمة، فإنه يرسم نفسه في الجحيم، لكنه يبدو هنا أكثر ثباتا وصلابة وكأن نظرته الثابتة اتدل على تحكمه بينما تحاصره النيران المرسومة بريشة فظة وعنيفة. وبرغم النار التي تحيط به وتحكم حصارها (3) فإنه يقف منتصبا، وكأنه امام فنان يرسمه، يقف واعيا بعظمة اللحظة، منتصبا كحاكم كلي القدرة في مملكته وقد قرر الاحتكام لمصيره.

 

/شواهد واحالات

  1. وتناولناها سابقا: الصرخة للفنان النرويجي ادفارد مونك (Edvard Munch) \هشام روحانا

 ملحق "الاتحاد" 2021\09\03.

  1. https://classicalartsuniverse.com/edvard-munch-golgotha-analysis/
  2. https://artsandculture.google.com/asset/self-portrait-in-hell/vAH377jnJvW2XA?hl=en

 

حيفا الكرمل، أيار 2024

 

بورتريه شخصي في الجحيم 1903

من هو هذا الذي على الصليب? الجلجلة (جولجثة) - ادفارد مونك 1900

 

الجلجلة، ادفارد مونك 1900

من هو هذا الذي على الصليب? الجلجلة (جولجثة) - ادفارد مونك 1900

 

الغيرة، ادفارد مونك 1895

من هو هذا الذي على الصليب? الجلجلة (جولجثة) - ادفارد مونك 1900

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب