news-details

نصراوي من حارة العين- سيرة ذاتية، الحلقة 5: من حيفا إلى كوبا| أ.د. هاني صباغ

الصبح في حيفا..تجربة جديدة *

بدأت خيوط النور تطل من على قمة الكرمل لتنعكس على سطح الماء فيزيد النور نورا، وما لبث قرص الشمس أن أطل من علٍ وانبلج الصبح، ومازالت عيناي مفتوحتين لم يجد الكرى إليهما سبيلًا تحدقان في زرقة السماء وصفائها. كان أول صباح استيقظ فيه في مكان غريب، إذ لم أمر بتجربة كهذه من قبل. بدأت أفكار العدول عن السفر تتأرجح بين بنات أفكاري الأخرى بين إيجاب وسلب، لكني خجلت من صديقي فقررت البقاء معه.

**

انبلج الصبح ودبت الحياة في ما حولي. على  البعد من عمق البحر ظهرت قوارب صغيرة أخذت تكبر باقترابها من ناظرينا قادمة من سفينة كبيرة ألقت مراسيها تلك الليلة بعيدا عن الشاطئ.  كانت محملة بالركاب وأمتعتهم. لقد أصبحت حيفا أكثر أهمية من يافا في النقل البحري لموقعها محمية من الرياح الشرقية التي تهب من خلف جبال الكرمل. امتلأ طريق الشاطئ الرملي بالعربات التي قدمت باكرًا لتقل المسافرين كلا إلى وجهته. كان هؤلاء الأعاجم القادمون إلى بلادي يرطنون بلغات غريبة كسِحَنِهِم.

 

  • العمل في المطبخ وتنظيف الصحون

اقترب أحد بحارة المركب من عيسى وخاطبه بالعربية المغربية قائلًا:

- تبغون شغل في المركب؟ نحنا نعوز حد يشتغل في المطبخ وينظف السطح. تنزلون وين تبغون بدون ما تدفعون أجرة السفر.

سأل عيسى: ولوين هذا المركب مسافر؟

-  إلى العالم الجديد، أمريكا. أجاب البحار.

نظرت إلى عيسى فتلاقت نظراتنا تلمِّح بالموافقة على هذا العرض السخي.

صعدنا إلى القارب الصغير مع أناس آخرين قضوا ليلتهم على الشاطئ الرملي لينقلنا إلى السفينة الراسية في عُرْض البحر. تسلقت سلم الحبال إلى سطح السفينة. نظرت حولي أتفحص المكان وما لبث البحار المغربي أن أخذنا إلى غرفتنا المعتمة في بطن السفينة، فلم يكن فيها نافذة يدخل منها بصيص من نور. أضاء شمعة كي نرى ما حولنا.

- استريحوا شوي واطلعوا لفوق تشتغلون.

صغيرة كانت الغرفة، فيها سرير ذو طابقين يُصعد إلى أعلاهما بسلم خشبي. وضعنا أشياءنا وجلسنا قليلًا لنعود إلى السطح للعمل على تنظيفه كما أُمِرْنا.

انبطحت على السرير السفلي، وتسلق عيسى السلم الخشبي إلى الطابق العلوي.

 

  • مخرت السفينة بنا عباب البحر أيامًا عديدة

ما إن أبحرت السفينة بنا حتى شعرت بدوار أخذ في الاشتداد شيئًا فشيئًا مما جعلني أتقيأ، فأنزلوني إلى بطن السفينة حيث بقيت يومين طريح الفراش. كان عيسى يهتم بي فيحضر لي الطعام والشراب ويقوم بعملي ريثما تتحسن حالتي. في اليوم الثالث قمت من الفراش وصعدت إلى المطبخ حيث عملت في مساعدة الطباخين على إعداد الطعام لكل من كان على ظهر السفينة من ركاب وبحارة.

**

كان عيسى بعد أن ينهي عمله يذهب إلى مقدمة السفينة يجلس على كرسي يستمتع بمقدمتها ترتفع به وتنزل وكأنه يجلس في أرجوحته التي كان نصبها على شجرة التوت في بيته خلف كنيسة البشارة ولا يصيبه دوار البحر.

اختفت طيور الماء. مخرت السفينة بنا عباب البحر أيامًا عديدة، وتوقفت في موانئ عديدة على شواطئ المتوسط تنقل الركاب والبضائع حتى خرجت من مضيق جبل طارق إلى البحر المحيط المسمى الأطلسي الذي كنت قد تعلمت عنه في درس الجغرافية. رأيته لأول مرة. لحسن الحظ كان هادئًا وقضينا فيه زمنًا لا نرى أي شيء سوى الماء يحيط بنا من جميع الجهات. شعرت برهبة شديدة.

 

  • واستقبلَنا النصراويون في هفانا

بعد مضي ما يقرب من سبعة أسابيع منذ أن تركنا حيفا، وصلنا إلى هافانا عاصمة جزيرة كوبا. كان معنا أسماء وعناوين بعض المهاجرين النصراويين في العاصمة مكتوبة بالحروف الأجنبية حصلنا عليها من أهلهم في الناصرة، بحثنا عنهم ووجدناهم. استقبلونا بكل ترحيب، تعرفنا عليهم وأنزلونا معهم. ما زلت أذكر من أبناء الناصرة في كوبا ممن سبقني في الهجرة او هاجر بعدي: يوسف النصر، طعمة العشراوي، ومحفوظ وسعيد أبناء العم سليم جرجورة  ويوسف الجبالي والأخوان محفوظ ونعيم القدحة وأختهم بديعة وسامي عزام وحسن دحدل وتوفيق الخوري عيسى وابنته نايفة وولداه نقولا (وجورج الذي لحق بهما فيما بعد) ورجل من بيت فياض لُقِّبَ تشينو لأنه كان يشبه اهل الصين والعديد من دار فرح وشلوفة والعابد  وآخرون كثيرون.

**

كان البيت الذي نزلنا فيه، عبارة عن غرفتين كبيرتين تتسع كل منهما لعشرة أشخاص فيه حمام واحد. قضينا ليلتنا الأولى نجيب على أسئلة نزلاء ذلك البيت من النصراويين عن الأهل وأحوال البلد.

في اليوم التالي أخذني طعمة العشراوي إلى تاجر جملة من معارفه وقدمني له لأبدأ العمل معه. بكفالة طعمة، وافق التاجر أن يزودني بأقمشة مختلفة لصنع الملابس وغيرها، وأدوات الخياطة والروائح وأدوات تجميل النساء والحلي الرخيصة لأحملها على ظهري وبيديَّ أو معلقة على عنقي أتجول بها بين المزارع والقرى.

 

** وتعلمت الإسبانية في مدرسة ليلية

بدأت العمل، وكنت أتزود بالبضائع يوم السبت وأذهب يوم الإثنين باكرًا إلى المتجر لأحمل المزيد وأبدأ رحلتي مع طعمة لأتعرف على الطرق والمزارع والقرى. كنا نخرج صباح يوم الإثنين من كل أسبوع لنرجع يوم السبت مساء، فنقيم الحساب مع التاجر ونتزود ببضائع جديدة. كان العمل شاقًا. كنت أعود إلى البيت لأستحم وأغسل ملابسي وأنام طيلة يوم الاحد فأرتاح وأعاود العمل يوم الاثنين. فتحت حسابًا في أحد البنوك، كنت أودع فيه نقودي المتوفرة من العمل وأرسل لأمي حوالة بنكية كل شهر لتعتاش بها وأخي الصغير، وكانت هذه الحوالة  تتضمن أحيانًا بعض النقود لجيراننا دار العابد من ابنهم فتعطيها أمي لهم.

ما كانت صورة أمي على البوابة وهي تودعني لتبرح مخيلتي. كنت أكتب لها دائمًا فيقرأ لها جارنا الرسائل ويكتب رسائلها إلي. في نهاية كل رسالة كانت تسأل وتذكّرني:

-وينتا بدّء ترجع يا راجي يما؟ أنا بستنّاء. انت وعدتني. متزئر؟

خمسة وعشرون عاما قضيتها في العمل. تنقلت خلالها في أعمال عديدة. أثناء ذلك كنت أذهب إلى مدرسة ليلية لتعلم اللغة الإسبانية حتى أتقنتها قراءة وكتابة فكنت أشتري الجريدة المحلية للاطلاع على ما يحدث يوميًا في المنطقة وفي العالم.

 

اللي بشرب من ميِّة الناصرة لا بد يرجعلها*

في هافانا تعرفت على نقولا الخوري الذي قدم إلى هافانا مع أبيه توفيق وأخته الكبرى نايفة مؤخرًا، ولحق بهم أخوه جورج بعد ما يقرب السبع سنين. ما أغرب الصدف! أصبحنا أصدقاء على الرغم من فارق السن بيننا. كنا نجتمع مع جمع من الأصدقاء في نهاية الأسبوع عادة في مقهى أو نادٍ لنتحدث عن أمور الحياة المختلفة ولنتبادل الآراء في مشاكل العمل. كان نقولا ذا رأي سديد دائمًا فيما يختص بأمور العمل والتجارة،  فكانت تلك اللقاءات تعزز أواصر الصداقة بيننا جميعًا. وما لبث نقولا أن أصبح معروفًا في أوساط المجتمع الكوبي لإتقانه لعبة البلياردو التي تعلمها هناك، واشترك في مباريات عديدة فاز في الكثير منها.

التحق بي أخي واصف بعد أربع عشرة سنة عشية نشوب الحرب العالمية الأولى. أسكنته معي نزولًا عند رغبة أبي في الاعتناء به، ووفرت له عملًا بأن كفلته لدى أحد أصحاب المتاجر ليعطيه بضائع ليبيعها أسبوعيًّا ويودع ما يتحصل له في حساب في البنك كما فعلت.

**

بعد سنتين من قدومه تزوج أخي من فتاة كوبية تدعى إميليا كانسيو وبقي يسكن معي في بيتي الذي اشتريته وأثثته.  وفي غضون سنوات خمس رزق بثلاثة أطفال: يوسف(1920) ولويس(1922) واستريا(1924). أحببت هؤلاء الأطفال وعطفت عليهم كأبنائي، كانوا يملأون البيت علينا حياة ومحبة. اعتنيت بهم وقدمت لهم كل ما يلزم .هم أيضا أحبوني وتعلقوا بي أيّما تعلق. شاهدتهم يكبرون يومًا بعد يوم. ما كان أحلى من الوصول إلى البيت بعد يوم العمل لأجدهم ينتظرونني على البوابة الخارجية،  فيركضون للقائي هاتفين بالإسبانية : عمو أجا، عمو هون.

قضيت في الغربة خمسة وعشرين عامًا تنقلت خلالها بين أنواع عديدة من العمل الناجح مما أدى إلى ازدياد دخلي ازديادًا ملحوظًا.

ذات يوم قرأت في إحدى الجرائد  المحلية أن حكومة الانتداب البريطاني ستسمح لمن يشاء من مهاجري الدولة العثمانية سابقًا بالعودة إلى أوطانهم شريطة أن يحمل العائد شهادة حسن  سلوك من المدينة التي يقيم فيها في الخارج. خمس وعشرون سنة انقضت دون أن أشعر بمرور الزمن. لازمتني صورة أمي على البوابة صباح ذلك اليوم حين تركتها. لم أحب أحدًا كما أحببتها. لم تبرح مخيلتي أو  تفكيري أينما كنت، فقد كنت متعلقًا بها أيّما تعلق. قررت العودة. لست أدري سبب قراري بالرجوع. أكان وفاءً بوعدي لأمي واشتياقًا لها أو كما كانوا يقولون  " اللي بشرب من ميِّة الناصرة لا بد يرجعلها". أعلمت أخي وزوجته بقراري وخيرتهما البقاء أو الرجوع معي إلى أرض الوطن فقررا الرجوع معي، إلا أن إميليا أظهرت نوعًا من التردد والخوف من المجهول، الخوف من حياة في بلاد لا تتكلم لغتها ولا تعلم عن أهلها وعاداتهم شيئًا.

أخبار ذات صلة

إضافة تعقيب