تقرير: وعد الكار
في بلدة الخضر الواقعة جنوب بيت لحم، الحياة لم تعد كما كانت. فالبلدة التي كانت تُشتهر بكرومها الخضراء أصبحت مسرحًا يوميًا لاقتحامات قوات الاحتلال الإسرائيلي.
في أحد المنازل القريبة من مدخل البلدة، استيقظت "أم ياسين" قبل الفجر لتُعِدّ الإفطار لأطفالها الأربعة. لم تكد تنتهي حتى باغتتها قنابل الغاز السام، التي اخترقت نافذة المطبخ. فهُرعت لإغلاق النوافذ بينما ركض الأطفال نحو الزوايا الآمنة في المنزل. تقول أم ياسين:
"هذا ليس صباحًا عاديًا في الخضر. اعتدنا أن نعيش يوميًا على إيقاع الاقتحامات، لكن الخوف على أطفالنا يكسر القلب. حتى المنزل لم يعد ملاذًا آمنًا".
بالكاد تمكنت من تهدئة أطفالها، ليأتي تحدٍ جديد: إيصالهم إلى المدرسة التي لا تبعد سوى كيلومترين عن المنزل. على الطريق، كان الجنود ينتشرون في الزوايا، وأصوات قنابل الصوت تتردد في الأجواء.
على بعد كيلومترات قليلة، يجلس أبو ياسر، مزارع خمسيني، على حافة كرمه الذي تحول إلى أرض مهجورة. كانت كروم العنب والزيتون مصدر رزقه الأساسي، لكنه لم يتمكن من جني محصوله هذا العام. يقول بنبرة يكسوها الحزن:
"الاحتلال يضع الحواجز ويمنعنا من الوصول إلى أراضينا. قبل شهر، حاولت الدخول لقطف الزيتون، لكن الجنود أوقفوني وطردوني. المحاصيل تلفت، ونحن لا نملك سوى الصبر".
لم تكن الخسارة فقط مادية. كروم العنب في الخضر هي جزء من هوية البلدة، وأبو ياسر يرى أن الاحتلال يستهدف هذه الهوية عبر منع الأهالي من ممارسة حياتهم الطبيعية.
في مدرسة البلدة الأساسية، يجلس عشرات التلاميذ في صفوفهم، لكن التركيز لم يعد سهلاً. قبل شهر، تسللت قنابل الغاز إلى أحد الصفوف خلال حصة الرياضيات. محمود، طالب في الصف السادس، يصف المشهد:
"كنت أحلّ المسألة على السبورة عندما بدأنا جميعًا بالسعال. الغاز ملأ الصف، فخرجنا مسرعين ونحن نبكي. منذ ذلك اليوم، أخاف من الذهاب إلى المدرسة".
المعلمون بدورهم يحاولون جاهدين تقديم الدعم النفسي للأطفال، لكن المواجهات المستمرة تجعل المهمة شبه مستحيلة.
رئيس البلدية أحمد صلاح يصف الوضع بأنه جزء من سياسة منهجية تهدف إلى تهجير السكان تدريجيًا. يقول صلاح:
"الاقتحامات ليست عشوائية، بل إنها تهدف إلى تخريب الاقتصاد، وترهيب السكان، وضرب البنية الاجتماعية. هذه سياسة تطهير ناعم، والهدف واضح: تفريغ البلدة".
يشير إلى أن البلدة تعرضت لأكثر من 70 اقتحامًا منذ بداية العام الحالي. بعضها استمر لساعات متأخرة من الليل، إذ يتم إطلاق الغاز بشكل عشوائي على المنازل والمحلات التجارية.
في وسط البلدة، يجلس وسام موسى، صاحب متجر صغير، وهو ينظر إلى رفوفه الممتلئة بالبضائع التي لم تُبع منذ أيام. يقول وسام
"في الماضي، كان الناس يأتون من كل مكان للتسوق. اليوم، الجميع يخشى الاقتراب بسبب الحواجز والمواجهات. حتى السكان المحليون لا يخرجون إلا للضرورة القصوى".
وسام يشير إلى قنابل الغاز التي دمرت الكثير من بضاعته، خاصة الفواكه والخضراوات التي تعرضت للتلف. يقول بنبرة متألمة:
"ليس الأمر مجرد خسارة مالية. هذه حياتنا التي تُحاصر يومًا بعد يوم".
الأثر النفسي للاقتحامات تجاوز الكبار ليصيب الأطفال الذين أصبحوا يعانون التوتر والأرق. تقول أم ياسين:
"طفلتي الصغيرة تستيقظ كل ليلة وهي تبكي بسبب الكوابيس. حتى صوت الباب إذا أُغلق بقوة يرعبها. نحن نعيش تحت ضغط لا ينتهي".
رغم كل ذلك، يرفض سكان الخضر الاستسلام. يُصرّ أحمد صلاح على أن الأهالي سيواصلون الصمود والدفاع عن أرضهم وهويتهم. يقول:
"نحن هنا لنروي هذه الأرض ونحميها. الاقتحامات لن تهزمنا، لكنها بالتأكيد تترك جروحًا عميقة فينا جميعًا".
وهكذا، تشكل الخضر التي تواجه واحدة من أشد سياسات الاحتلال قسوة، قصة صمود رغم تعاظم الضغوط والتحديات، وتصارع يوميًا للحفاظ على هويتها وحياة سكانها.
(وفا)