news-details

جامعة حيفا تجيز أطروحة الدّكتوراة للباحث إياد الحاج، "وظيفيّة اللّغة في أدب محمّد نفّاع"

      الاتّحاد لمراسل خاصّ: أجازت جامعة حيفا أطروحة الدّكتورة للباحث إياد الحاج، وذلك بتبليغ رسميّ من قسم اللّغة العربيّة في الجامعة، جرى بعد ظهر يوم الخميس، 22/6/2023، حيث أعلم القسمُ الباحثَ أنّ الملاحظات حول الأطروحة ممتازة، وبناء عليه فأنت تستحق شهادة دكتور في اللّغة العربيّة من الجامعة. 

      عنوان الأطروحة هو "وظيفيّة اللّغة في أدب محمّد نفّاع، من مجموعة الأصيلة (1975)، وحتّى مجموعة غبار الثّلج (2019)" ومرشد الباحث في هذه الأطروحة هو بروفيسور إبراهيم طه. والبحث يتمحور حول اللّغة الأدبيّة لمحمّد نفّاع، هذه اللّغة التي ميّزته عن غيره من الأدباء، وهي تجيب على السّؤال: بماذا تميّزت لغة نفّاع الأدبيّة؟ وكان لا بدّ من الإجابة عن هذا السّؤال من إجراء دراسة عرضيّة وطوليّة، في نفس الوقت، من أجل متابعة المميّزات التي يرصدها الباحث، في أدب نفّاع، في مراحل تطوّر نفّاع الأدبيّ على طول المسيرة. 

      رصد الباحث سبعة مستويات لغويّة في السّرد، وثلاثة مستويات لغويّة في الحوار، وهي تتراوح بين اللّغة الفصحى العالية، وبين اللّهجة المحكيّة، وعلى وجه الخصوص في قرية الكاتب، بيت جن، في فترة تاريخيّة تأثّر بها نفّاع في طفولته، وفي شبابه المبكّر، هي الخمسينات والسّتينات والسّبعينات، من القرن الماضي. وثبت للباحث أنّ هذه المستويات موجودة جميعها في القصّة الأولى، كما هي قائمة في القصّة الأخيرة؛ إلّا أنّ منسوب هذه المستويات هو المتغيّر، فكلّما تقدّمنا في مسيرة نفّاع الأدبيّة انحسر المستوى عالي الفصاحة أكثر، لصالح اللّغة المحكيّة واللّغة التّراثيّة. 

      يظهر من خلال البحث أنّ المعادلة التي ثبّتها الباحث آنفًا، ناتجة عن رؤية لغويّة واعية لدى نفّاع، ففي البداية ظهر الأسلوب عفويًّا، لكنّه أدرك كنهه وأخذ يثبّت هذا الأسلوب بوعي وقناعة تتلاءم مع أفكار الكاتب المرتبطة بالنّاس، فهو يكتب للنّاس بلغتهم بتعابيرهم بتقاليدهم بعاداتهم بأخلاقهم، بتراثهم، وبكافّة المسمّيات لمجموع ما يستخدمونه في حياتهم. وهنا يتطابق الشّكل بالمضمون، فالأسلوب هو القالب الأدبيّ واللّغويّ الذي يستخدمه الكاتب بما يتلاءم مع أفكاره وقناعاته ورؤيته العامّة للحياة، وهي المضمون المنسجم مع ذلك الشّكل. 

      يظهر من البحث أنّ الكاتب كان واعيًا لأسلوبه، وأنّه تقصّد فيه دمج اللّغة العامّيّة في اللّغة الفصحى، بتنويعات مختلفة جرى تفصيلها في البحث وتعريفها وتطبيقها على النّصوص المختلفة، وقد أشار عدد من الباحثين إلى هذا الوعي اللّغويّ المبكّر لدى نفّاع، ومنهم الباحثان والنّاقدان: د. نبيه القاسم وبروفيسور إبراهيم طه. ويربط الباحث هذه الميزة الأدبيّة اللّغويّة في أدب نفّاع، بالنّظريات اللّغويّة الاجتماعيّة التي أعطت أهميّة للسّياق، فالظّرف الاجتماعيّ هو الذي يشحن المفردات بالمعاني والشّيفرات والدّلالات ويوحي إلى مختلف التّأويلات. 

            ومن أجل بلوغ الغاية، استخدم الباحث الأسلوب التّطبيقيّ، فأخذ يحلّل لغة نفّاع قصّة قصّة، وجملة جملة، وكلمة كلمة، ويعود إلى أصل الكلمة ليحدّد انتماءها للعامّيّة أو للفصحى، فظهر أنّ المستوى العامّيّ بكلّ تنويعاته، آخذ بالاطّراد كلما تقدّمنا في مسيرة نفّاع الأدبيّة، ويرافقه خطوة خطوة المستوى التّراثيّ، الذي يوظّف فيه نفّاع التّراث الحامل منه والمحمول، بحسب تعريفات طه له، لنقل الصّور والمعاني إلى نفوس وعقول قارئيه؛ أمّا المستوى الفصيح العالي فيأخذ بالانحسار كلّما تقدّمنا في هذه المسيرة؛ لكنّه يبقى مركّبًا أساسيًّا في لغة الكاتب الأدبيّة. 

      في كلّ مجموعة قصصيّة كان نفّاع يستخدم مئات المفردات العاميّة والتّراثيّة، وقد أحصاها الباحث فبلغت، بعد البحث الطّولي، الآلاف، فعلى سبيل المثال لا الحصر أحصى الباحث في رواية فاطمة لوحدها أكثر من 800 مفردة عامّيّة وظّفها نفّاع في سياق سرده الفصيح، بحيث لا يمكن للقارئ أن يحدّد هويّة المفردة من النّظرة الأولى، فهو يخال أنّه يقرأ كلامًا فصيحًا، ولكن بعد الفحص تكتشف أنّ المفردة عامّيّة، وهكذا يدمج نفّاع الكلام ببعضه، في خليط مركّب من مستويات محدّدة، بمقادير يعرفها الكاتب نفسه، وهي سرّ النّكهة اللّغويّة التي يبدعها نفّاع في أدبه. 

      لقد ظهر جليًّا في البحث مدى تعلّق لغة نفّاع التي تميّزه بالقرية، فكلّما اقتربنا من القرية ظهرت لغة نفّاع على حقيقتها، وكلّما ابتعدنا عن أجواء القرية الطّبيعيّة ابتعدنا عن هويّة لغته الأصليّة، واقتربنا من لغة فصحى مشتركة مع كثيرين من الكتّاب، ولكنّ التّميّز اللّغويّ عند نفّاع يظهر في القرية وطبيعتها ومحيطها ومجتمعها وثقافتها وتراثها، وقد ثبت ذلك في كثير من القصص التي دارت أحداثها في مناطق بعيدة عن القرية رصدها الباحث بدقّة. 

      يظهر في البحث أن نفّاع لا يدعو إلى ترك اللّغة الفصحى وإلى استخدام اللّغة العامّيّة مكانها، بل هو يعود في أدبه إلى عيون الأدب، من المرحلة الجاهليّة وإلى المرحلة الحديثة التي برز فيها أعلام الأدب العربيّ عامّة والأدب الفلسطينيّ خاصّة؛ ولكنّه يستفيد بحكمة كبيرة من الإمكانات الهائلة في التّعبير التي تكتنز المعنى الكثير بأقل الألفاظ والتّعابير، وهو يوظّف هذه الأداة ليخلق لغة جديدة، غنيّة، عميقة بمعانيها ودلالاتها تُراكم أبعادًا جديدة لم تكن الفصحى لتصلها بقواها الذّاتيّة المستكينة في الكتب، مقابل اللّغة الحيّة المتداولة الجارية على ألسن النّاس في حياتهم النّابضة بالحركة. 

      يستخدم نفّاع، اللّغة كسلاح يدافع فيه عن انتمائه القوميّ، في مواجهة سياسة السّلطة التي تسعى لفصل الطّائفة المعروفيّة الأصيلة عن تاريخها وثقافتها وتراثها، وهو يصرّح بذلك، الأمر الذي يعكس جوانب الرّؤية اللّغويّة التي ميّزت أدبه، وذلك بتمسكه باللّغة العربيّة المعياريّة، عالية الفصاحة، التي تغرف من النّبع الأصيل، وكذلك باستخدامه اللّغة المحكيّة، وخصوصًا لهجة البلد التي ينتمي إليها، فهذه اللّهجة، وبحسب علماء اللّغة تشكّل لغة الأمّ الحقيقيّة، فهي أوّل ما يكتسبه الطّفل، وليس اللّغة الفصحى، المعياريّة التي يتعلّمها لاحقًا، فتنشأ بذلك ظاهرة الازدواجيّة اللّغويّة في حياة الطّفل، وهذه اللّغة حافظة لثقافتنا الشّعبيّة الغنيّة والمتعلّقة بكلّ ما له صلة بحياتنا اليوميّة الطّبيعيّة.

      في هذا البحث يظهر نفّاع كأديب واع لحالة لغتنا العربيّة اليوم، لكنّه لا يقف ليصف ما يراه وصفًا إنشائيًّا، بل هو يعطي الحلول العمليّة والمنطقيّة من خلال تطبيق رؤيته على أدبه، فدمج عناصر من اللّهجة العامّيّة، وإخضاعها إلى قواعد المعياريّة، هو استفادة قصوى من إمكانات اللّغة الكامنة فيها، دونما حاجة إلى الاستعانة بعوامل خارجيّة، وكلّ ذلك بطريقة غير ملحوظة، بسبب طبيعة اللّغة، وبسبب تعلّق الاستخدام اللّغويّ بالنّاطقين بهذه اللّغة. 

      يحافظ نفّاع في أدبه على الكثير من موروثنا الشّعبيّ، وعلى تفاصيل ذاكرتنا الشّعبيّة التي تكاد تندثر لو بقيت بالمتاحف والكتب والمعارض، فأسماء الأدوات الزّراعيّة، ومواقع الأراضي، والينابيع، وأنواع الأشجار والنّباتات، وأجناس العصافير، وأسماء فترات السّنة الزّراعيّة، والأمثال الشّعبيّة، وأسماء الأمراض، والكلمات العامّيّة، والعادات والتّقاليد، والملابس، والزّينة، والحيوانات، والحشرات ... (وكلّ هذه التّفاصيل وثّقها الباحث في جداول خاصّة في نهاية البحث، وقد ظهرت بكمّيّات تفاجئ القارئ بوفرتها، عند الاطّلاع عليها مجتمعة، فهي تظهر في مئات الصّفحات في جداول البحث)، تخرج من المتاحف والكتب والمعارض وتصبح جزءًا من النّسيج اللّغويّ الأدبيّ، فلا يكتفي نفّاع بالتّذكير بها، بل هو ينفث فيها الرّوح، لكي تعيش وتتحرّك مع شخصيّات قصصه، فتتجسّد أمام القارئ حضورًا مليئًا بالحياة، وهو بذلك يثبّت وجودها، ويؤكّد عروبة المكان بها، ويحفظ التّراث، ويُغني اللّغة، وينتج خليطًا لغويًّا تميّز به. 

      يتطرّق هذا البحث إلى اللّغة كمركّب أساس في أدب نفّاع، فهناك تداخل عميق بينها، فالجانب اللّغويّ كان له كبير الأثر في التّميّز الأدبيّ لدى نفّاع، وهذا ما فصّله البحث عرضيًّا وطوليًّا، وهذا ما أسنده البحث بالأرقام، رغم صعوبة إحصاء نوعيّة الكلام، ولكن لضرورة البحث أجرى الباحث الإحصاء والمقارنة، وبالتّالي بنى استنتاجاته عليها. وسيقوم الباحث بإصدار هذا البحث في كتاب يُهديه إلى روح الرّاحل الباقي فينا محمّد نفّاع.

Getting your Trinity Audio player ready...
أخبار ذات صلة