يخطئ من يعتقد ان الامبريالية الامريكية قد تخلت عن استراتيجيتها العدوانية للهيمنة كونيا وفي منطقتنا من خلال اللجوء الى وسائل سياسية وتنظيمية متعددة مثل "الحرب ضد الارهاب" وشن حروب استباقية وتأجيج صراعات وفتن "الفوضى الايجابية" لاختراق هذا البلد او ذاك، وبذل الجهود لاقامة اطار تحالفي واسع بزعامة واشنطن ويخدم مصالحها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية يطلق عليه "الشرق الاوسط الكبير". وقد واجهت ولاقت هذه الاستراتيجية العديد من حقائق ومؤشرات الفشل، من ابرزها فشل الحرب الاسرائيلية – الامريكية على لبنان، فشل القضاء على المقاومة للاحتلال الامريكي في العراق وافغانستان وفشل تدجين النظام السوري امريكيا او فك علاقات الترابط الاستراتيجي بين سوريا وايران والعديد من منظمات المقاومة اللبنانية – الفلسطينية. وبقي الرقم الصعب في معادلة الصراع الذي يقف حجر عثرة في طريق نجاح استراتيجية الهيمنة الامريكية – الاسرائيلية في المنطقة يتمحور حول الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني – العربي ومواصلة الاحتلال الكولونيالي الاستيطاني للمناطق الفلسطينية والسورية المحتلة. وصاحب هذه الاستراتيجية الاجرامية هو ادارة بوش واليمين المحافظ التي تنهي مدة رئاستها وتترك مقاليد الحكم في "البيت الابيض" في العشرين من الشهر الجاري أي غدا الثلاثاء، فانها لا تريد الانقلاع قبل ان تترك آثار بصماتها الاستراتيجية كجزء من فرض سياسة الامر الواقع على الادارة الجديدة برئاسة باراك اوباما. ومن هذا المنظور، وبناء على معطيات حرب الابادة والمجازر والتدمير التي شنتها اسرائيل لمدة اثنين وعشرين يوما على الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، بناء على المعطيات الصارخة المخضبة بدماء اطفال ونساء وشيوخ وشباب فلسطين في القطاع فان الهدف المركزي لهذه الحرب المنسقة مع ادارة بوش وبعض انظمة التواطؤ العربية ليست ابدا القضاء على حماس ومنع اطلاق الصواريخ الفلسطينية على بلدات الجنوب الاسرائيلي بل جرى استغلال هذا الادعاء في الحرب على لبنان في العام الفين وستة لضربه المقاومة اللبنانية كوسيلة لاقامة نظام لبناني مدجن امريكيا – اسرائيليا يكون مدماكا في بناء "الشرق الاوسط الكبير" كما صرحت كوندوليزا رايس في الايام الاولى من الحرب اثناء تواجدها في بيروت، انتصار المقاومة اللبنانية لخبط حسابات وبرامج المعتدين. حاولوا عن طريق "مؤتمر انابوليس" الذي دعا اليه بوش كلا من اسرائيل والسلطة الفلسطينية وحاشية الانظمة العربية في شهر تشرين الثاني الفين وسبعة بهدف اطلاق مفاوضات تسوية تؤدي حتى نهاية الفين وثمانية الى تجسيد رؤية بوش باقامة الدولتين المتجاورتين، اسرائيل وفلسطين! وما حدث هو فرض الحصار على قطاع غزة وتسريع عمليات الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية المحتلة وضواحيها ومواصلة مفاوضات "طحن الماء" والضحك على الذقون الاسرائيلية –الفلسطينية التي لم يتمخض عنها شيء.
وقد ساعد عاملان اساسيان المحتل الاسرائيلي في شن حرب الجرائم على غزة ومحاولة تبريرها والتغطية على اهدافها الحقيقية. العامل الاول، الانقسام في الصف الفلسطيني بين فتح وحماس، خاصة بعد نجاح حماس في انتخابات التشريعي والضغط الاسرائيلي والاوروبي والامريكي ومن بعض الانظمة العربية لعدم التعامل مع حكومة بقيادة حماس بوصفها "ارهابية" "وقد زاد الطين بلة" انقلاب حماس على الشرعية الفلسطينية في غزة، الشرخ بين الضفة والقطاع.
والعامل الثاني، الانقسامات والمناكفات العربية – العربية بين الانظمة المدجنة امريكيا ويطلق عليها بلدان الاعتدال العربي وانظمة بلدان عربية مناهضة للهيمنة الامريكية – الاسرائيلية ويطلق عليها انظمة "ممانعة" وحتى ارهابية. واستغلت اسرائيل هذين العاملين لتسويق دعايتها التضليلية الكاذبة، وبدعم من ادارة بوش، انها تشن حربا دفاعية عن امن مواطنيها في الجنوب الاسرائيلي الذين يتعرضون لصواريخ تطلقها سلطة الارهاب في قطاع غزة!! وحسب اباطيلهم وكأن قطاع غزة ليس منطقة فلسطينية محتلة يناضل اهلها نضالا شرعيا ومقاومة شرعية للتخلص من الاحتلال واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
حقيقة هي ان جرائم المحرقة والقتل والمجازر الجماعية والتدمير الاجرامي الذي لم يستثن شيئا لبنى تحتية ولا مدارس ولا جامعات ولا احياء سكنية وغيرها من جرائم الحرب لم تستطع وفشلت في كسر الصمود الاسطوري للشعب المقاوم ورغم استشهاد حوالي الف وخمسمئة شهيد وحوالي خمسة آلاف ومئتي جريح نصفهم من الاطفال والنساء. ولم يرفع هذا الشعب اعلام الاستسلام البيضاء وبقي متمسكا بموقفه في وجه المبادرات المختلفة لوقف الحرب وبشروطه وهي وقف الحروب وخروج الغزاة المعتدين من كل اراضي القطاع، فتح كل المعابر ورفع الحصار وان يتحمل العدو تكلفة جرائمه التدميرية، وفي وقت لا تزال المفاوضات جارية حول المبادرات المصرية والتركية وتوصيات قمة غزة في الدوحة لقمة الكويت، وفي وقت لم توقف اسرائيل بعد حربها الكارثية، في مثل هذا الوقت سافرت وزيرة خارجية حكومة الحرب والكوارث، تسيبي ليفني، الى واشنطن حيث وقعت مع وزيرة خارجية ادارة المجرم بوش، كوندوليزا رايس، وقبل اربعة ايام من تسلم ادارة باراك اوباما "مذكرة تفاهم" امنية استراتيجية تتعهد بموجبها الولايات المتحدة الامريكية بالعمل على منع تهريب الاسلحة الى قطاع غزة، مواجهة الدعم الايراني للارهاب ولتهريب الاسلحة عبر السودان واريتيريا وعصابات القراصنة المختلفة. المدلول السياسي لهذه المذكرة الاستراتيجية ينطوي على مخاطر جدية اهمها:
- اولا، ان الحديث يدور حول نشر قوات بحرية وبرية وجوية امريكية ومن قوات الحلف الاطلسي العدواني وبعض الدول الاقليمية قد تكون مصر وتركيا والمغرب من بينها، مهمة هذه القوات القرصنة عمليا بحرا وجوا وبرا من مضيق جبل طارق الى مضيق هرمز والقرن الافريقي الى البحر الابيض المتوسط والاحمر وقناة السويس وشواطئ شمال افريقيا وشط العرب ورأس الرجاء الصالح... من يسمع انتشار قواعد ومساحات نشاط هذا البرنامج يعتقد وكأن غزة تقمصت دور الاتحاد السوفييتي!! ان الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو بلورة احزمة ارهاب امنية امريكية – اسرائيلية في منطقتي حوض المتوسط والشرق الاوسط لتدجين المنطقة في خدمة لامصالح والهيمنة الامريكية – الاسرائيلية.
- ثانيا، توقيع هذه المذكرة – كما تستهدف اسرائيل وسندها الامريكي – لخلق الانطباع ان الجزار الاسرائيلي هو الضحية الذي يحتاج امنه الى حماية، وان الضحية الفلسطينية هي الجزار والمجرم الارهابي.
- ثالثا، ان مذكرة التفاهم الامني تنطلق ان قطاع غزة وحدة اقليمية قائمة بذاتها، كيان مستقل وليس منطقة فلسطينية محتلة وجزءا عضويا من المناطق المحتلة. ولذا فهذه المذكرة الاستعمارية تندرج في اطار المؤامرة الامريكية – الاسرائيلية لترسيخ الانقسام بين الضفة والقطاع ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة والتطور، وقد اكدنا منذ اليوم الاول للحرب العدوانية الاسرائيلية انها حيث من اهدافها الاستراتيجية حرب معادية للشعب العربي الفلسطيني ولحقوقه الوطنية الشرعية بالتحرر والاستقلال الوطني، حرب ليست ضد حماس وحدها بل ضد جميع فصائل المقاومة الفلسطينية وسندها الشعبي.
- رابعا، مذكرة التفاهم الامني الاستراتيجي وسيلة لبناء سياج واق لحماية الانظمة المدجنة امريكيا ولتوثيق عرى تطبيع علاقات هذه الانظمة مع اسرائيل، حماية عروشها من غضب وهبات شعوبها وتأطيرها في شكل تحالفي معاد لايران وسوريا وحركات المقاومة الوطنية الشعبية وتكبيلها بسلاسل خدمة المصالح الاقتصادية والاستراتيجية لامريكا وحلفائها وكبح جماح التغلغل الروسي والصيني والايراني الى بلدان هذه المنطقة، يعني اقامة شرق اوسط كبير مكبل باطواق امنية امبريالية امريكية – اطلسية – اسرائيلية.
ليس من وليد الصدفة انني في سياق هذه العجالة لم اتطرق الى مواقف الفرقة العربية المخزية بعقد ثلاثة مؤتمرات في الدوحة والرياض والكويت وفي وقت يواجه فيه الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة مذابح وجرائم نعيد الى الاذهان المحرقة وجرائم الوحوش النازيين ضد الشعوب المحتلة في الحرب العالمية الثانية، فبعد انعقاد مؤتمر الكويت وصدور البيان المشترك عنه يكون لكل حادث حديث. ولكن اجد من الاهمية بمكان طرح بعض الملاحظات حول مؤتمر قمة غزة في الدوحة الذي عقد يوم الجمعة الماضي. فالتوصيات التي قدمها هذا المؤتمر لمؤتمر الكويت تعكس الى حد ما موقف ومطلب وتأثير الشارع الجماهيري العربي والعالمي الذي خرج بملايينه الى ساحات التظاهر، خاصة وقف العدوان دون قيد او شرط وسحب القوات الاسرائيلية، تجميد علاقات قطر وموريتانيا مع اسرائيل، تعليق المبادرة العربية، ملاحقة اسرائيل لمحاكمة قادتها السياسيين والعسكريين كمجرمي حرب، والدعم لاعادة اعمار القطاع. والشيء المؤسف انه تحت مختلف الضغوط الامريكية والسعودية والمصرية لم يشارك عدد من الرؤساء العرب مثل رؤساء تونس واليمن والمغرب والكويت والعراق المحتل والرئيس الفلسطيني محمود عباس!! الذي عقد المؤتمر لنصرة شعبه وارتكب خطأ بعدم حضوره.
وما نود ان نحذر منه هو اليقظة ثم اليقظة من محاولات السوء والشر التي تحاول حصر الموضوع حول قطاع غزة المنكوب كقضية انسانية تعالج بالاغاثة والمساعدات، صحيح انها قضية انسانية تعكس مدى همجية وحوش الغاب الاسرائيليين ولكنها اولا وقبل كل شيء قضية وطنية لا تحل الا بدولة وهوية، بعد كنس المحتلين ورفع اعلام دولة فلسطين المستقلة في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقية. ان مذكرة التفاهم التي وقعتها ليفني مع رايس تستدعي اكثر من أي وقت مضى تفاهما اخويا في البيت الفلسطيني، فالخطر الجدي بضياع الحق الوطني في الدولة والقدس والعودة يحتم على كل من تعز عليه فلسطين ودماء شهدائها وجرحاها ومعاناة شعبها العمل بجدية لاعادة الوحدة الوطنية المتمسكة بثوابت الحقوق الشرعية الفلسطينية.